لازالت قضية فلسطين هى محور الدراسات المختلفة فى كل المراكز البحثية والجامعات، ورغم كم الدراسات والأبحاث إلا أنه ما زال هناك الجديد والمثير الذى يتم اكتشافه تجاه هذه القضية المصيرية للأمة العربية. ومن أحدث الدراسات التى صدرت مؤخراً دراسة حول «دور يهود الولاياتالمتحدة فى دعم الحركة الصهيونية فى الفترة من 1939–1945م»، وهى الدراسة التى قام بها الباحث عبد الوهاب شاكر بقسم التاريخ بجامعة الإسكندرية فى رسالته للماجستير ثم صدرت فى كتاب تحت عنوان «دور يهود الولاياتالمتحدة فى دعم الحركة الصهيونية» نشرته دار «هلا» للنشر والتوزيع.ويقول الباحث فى مقدمته للكتاب أن قضية فلسطين تشكل الركن الأبرز فى حياتنا العربية على كافة الأصعدة، ولذا فمنذ بداية المشكلة والدراسات العربية تتناولها بصور متعددة وجوانب مختلفة، ولذا فتشكل هذه الدراسة لبنة مكملة للجزء الذى أغفلته الدراسات السابقة فى التركيز على الدور الذى لعبه يهود الولاياتالمتحدة، ومدى أهميته وانعكاسه على قضية مصيرية مثل قضية فلسطين. وأضاف أن السبب فى اختيار تلك الفترة على وجه الخصوص، يرجع لأنها شكلت الإرهاصات الأساسية لإعلان نشأة الدولة العبرية، حيث بدأت الدراسة بيوم السابع عشر من مايو عام 1939، وهو اليوم الذى وافق إعلان الحكومة البريطانية عن سياسة الكتاب الأبيض لعام 1939، فقد كانت بريطانيا بإصدارها هذا الكتاب بدأت تميل عن دعمها لهذه الحركة الصهيونية، وبالتالى بدأ الضغط القوى ليهود الولاياتالمتحدةالأمريكية مطالبين الحكومة الأمريكية وجماعات الضغط بالتدخل لصالح قضيتهم، كى يتم ملء الفراغ الذى سيتركه الدعم البريطاني. أما اختيار يوم الثالث عشر من نوفمبر عام 1945، فلأنه يوافق إصدار بيان وزير الخارجية البريطانى أرنست بيفن، الذى أعلن فيه عن تشكيل اللجنة الأنجلو أمريكية لبحث مشكلة فلسطين، فقد شكل هذا الموقف الرسمى من حكومة حزب العمال البريطانى رؤية مغايرة تماماً للفترة التى سبقت هذا التاريخ حين كان المحافظون هم المسيطرين على الحكم. الهجرة السرية ويضيف الباحث عبد الوهاب شاكر قائلا: أن الكتاب تناول أيضا موقف اليهود الأمريكيين من بعض القضايا المهمة مثل قوانين بيع الأراضى (أنظمة نقل ملكية الأراضى فى فلسطين) والهجرة اليهودية السرية، والخلاف الموجود داخل الطائفة اليهودية الأمريكية حول فكرة الدولة اليهودية، كما تناول أيضا مجهودات قادة الحركة الصهيونية لتشكيل فرقة يهودية تعمل فى صفوف القوات البريطانية، والمجهودات التى قاموا بها من أجل إخراج تلك الفكرة إلى حيز الوجود، وموقف اليهود الأمريكيين من تلك الفكرة، وكذلك الجهود التى قام بها القائد الصهيونى التصحيحى فلاديمير جابوتنسكى فى الولاياتالمتحدة لدعم فكرة الجيش اليهودى ومجهودات خلفه بيتر بيرجسون لدعم تلك الفكرة. وحول «تطور فكرة الوطن القومى فى مؤتمر بلتيمور مايو 1942»، تتبع الباحث انعكاسات مؤتمر بلتيمور على فكرة الوطن القومى، شارحاً الظروف التى أدت لانعقاد هذا المؤتمر فى هذا التوقيت بالذات، كما تناول النقاشات التى دارت فى هذا المؤتمر، وأهم القضايا التى طرحها المؤتمِرون، مثل قضية الفوز بدعم اليهود الأمريكيين، وقضية التقارب العربى– اليهودى، وقضية التحالف مع بريطانيا، وموقف المنظمات الصهيونية المختلفة من هذه القضايا، مع التركيز بالتحليل على الأسباب التى سمحت للأجنحة المتشددة داخل الحركة الصهيونية بالسيطرة على المؤتمر، وما نتج عن ذلك من قرارات المؤتمر التى صيغت على هيئة إعلان للمبادئ، والذى عرف باسم برنامج بلتيمور، ثم لأفكار الأطراف المؤيدة والمعارضة لهذا البرنامج. بالإضافة أيضا لحملة الدعاية التى قام بها الصهاينة الأمريكيون بهدف الحصول على تأييد الرأى العام الأمريكى لدعم الأهداف الصهيونية، والوسائل التى استطاع الصهاينة ومؤيدوهم من خلالها كسب تأييد الرأى العام الأمريكى، بالإضافة إلى الدور الذى لعبه مجلس الطوارئ الصهيونى الأمريكى فى حشد الرأى العام وراء المخططات الصهيونية. أما عن أثر الإبادة النازية ليهود أوروبا على تبنى اليهود الأمريكيين لفكرة الوطن القومى فى فلسطين»، فقد تناولت الدراسة الحديث عن مؤتمر إيفيان سنة 1938، والقرارات المترتبة عليه، وموقف اليهود الأمريكيين من المذابح النازية. وموقف الإدارة الأمريكية ممثلة فى الرئيس الأمريكى روزفلت من مشكلة يهود أوروبا المشردين، وكذلك مؤتمر برمودا وخطط روزفلت البديلة لحل تلك المشكلة. وما قابلها من موقف الصهاينة التصحيحيين من هذه المشكلة والمجهودات التى قام بها بعضهم فى هذا الصدد، وأبرز التشكيلات التى قاموا بإنشائها لصالح قضية إنقاذ يهود أوروبا، وأهم النتائج المترتبة على الإبادة النازية ليهود أوروبا وأثرها على اليهود الأمريكيون وعلى القضية الفلسطينية بأسرها، وتعرض كذلك للإدعاءات التى وجهها الصهاينة للولايات المتحدةالأمريكية واتهامها بالتقصير فى إنقاذ يهود أوروبا. دور العاهل السعودى استعرضت الدراسة أيضا العلاقات بين العاهل السعودى عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكى روزفلت واتصالاتهم بشأن القضية الفلسطينية. والشهور الأولى من فترة حكم الرئيس الأمريكى هارى ترومان، ومواقفه المؤيدة للصهيونية خلال مؤتمر بوتسدام، والدوافع التى جعلته يقوم بتشكيل لجنة هاريسون لتقصى حقيقة أوضاع يهود أوروبا المشردين. وكيف ربط بين مشكلة يهود أوروبا المشردين والمشكلة الفلسطينية، كما تم إلقاء الضوء على لجنة التحقيق الأنجلو – أمريكية، ودوافع الحكومة الأمريكية والحكومة البريطانية من تشكيلها، لينتهى بالإعلان المشترك عن إنشائها فى الثالث عشر من نوفمبر عام 1945. وقد خرجت الدراسة بنتائج عديدة كان أهمها هو أن صدور الكتاب الأبيض لعام 1939وتغير الموقف البريطانى تجاه قضية فلسطين قد أسهما فى تحفيز الوكالة اليهودية إلى الانتقال من مرحلة تجسيد تصريح بلفور وتهيئة الأوضاع لإقامة «الوطن القومى اليهودى»، إلى المطالبة بإعلان الدولة اليهودية، كما أسهم فى تحول القيادة الصهيونية من تركيز اعتمادها على بريطانيا إلى تركيز اعتمادها على الولاياتالمتحدة. وقد قدمت الدراسة تفسيراً لعدم فعالية دور يهود الولاياتالمتحدة خلال العامين الأولين لاندلاع الحرب العالمية الثانية، وهو مقاومة قادة الصهاينة الأمريكيين لانتقاد بريطانيا خلال الحرب، والخوف من اتهامهم بأنهم يحاولون جر بلادهم إلى صراع فى ما وراء البحار، وتخوفهم من انتشار معاداة السامية فى صفوف مواطنى الولاياتالمتحدة من جراء مواقفهم تلك. ضغط سياسى كما صححت الدراسة الفكرة الخاطئة عن أن مطلب الدولة اليهودية كان مقصورا على المنظمات الصهيونية الأمريكية فقط، فعلى الرغم من أن فكرة الدولة اليهودية كانت دائمًا محل انقسام وخلاف ضمن الطائفة اليهودية فى الولاياتالمتحدة، مشيرة إلى وقوع تحول هام بانعقاد المؤتمر القومى من أجل فلسطين فى مدينة واشنطن فى يناير عام 1941 والذى حضره أكثر من ألفى مندوب عن اليهود الأمريكيين أعلنوا تأييدهم لإنشاء كومنولث يهودى فى فلسطين. كما أثبتت الدراسة أن اليهود الأمريكيين قد لعبوا دوراً مهماً فى مؤازرة مقترح الجيش اليهودى على الرغم من عدم اشتراكهم فى هذا الجيش بشكل فعلى، فقد ساهموا بالضغط السياسى على حكومة الولاياتالمتحدة لكى تطلب من بريطانيا أن تسلح يهود فلسطين، ولم يقتصر دورهم على محاولة دعم مقترح الجيش اليهودى سياسيا فقط، بل لعبوا دوراً هاما فى توفير الأموال اللازمة لشراء الأسلحة والمعدات العسكرية لهذا الجيش أيضًا. وعلى جانب آخر فقد أكدت الدراسة على أن مؤتمر بلتيمور يعتبر أول مؤتمر يهودى يُعقد فى الولاياتالمتحدة بعد بيرل هاربور يخرج فيه اليهود الأمريكيون عن حذرهم التقليدى، ويطالبون بإنشاء الدولة اليهودية بشكل واضح، فقبل هذا المؤتمر كانت جميع المؤتمرات الصهيونية تقصرمطالبها على المطالبة بالوطن القومى، ولم يصدر عن أى منها مطالبة صريحة بالدولة اليهودية. وقد أحدث هذا التحول تغييرًا جذريًا فى العلاقات بين يهود فلسطين والعمال العرب، فقد قم تجاهل هذه الفئة الأخيرة تماماً وأصبحت الحركة الصهيونية ترى أن أى اتفاق بينها وبين العرب غير ضروري. فقبل هذا المؤتمر كانت هناك جهود تُبذل من أجل تحقيق درجة من القبول العربي، أوعلى الأقل تقليل المعارضة العربية. أعظم النجاحات وقدمت الدراسة تفسيراً لصمت اليهود الأمريكيين تجاه أنباء الإبادة النازية التى تعرض لها أبناء عمومتهم من يهود أوروبا، وتجاه القيود التى فرضتها الحكومة الأمريكية على الهجرة إلى الولاياتالمتحدة، وأسباب تأييدهم لفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية، إذ أدرك يهود الولاياتالمتحدة أن الحكومة الأمريكية لن تسمح بإدخال اليهود المشردين إليها، ولذلك ظنوا أنهم عندما يطالبون بفتح أبواب فلسطين أمام هؤلاء، فإنهم يقومون بإنقاذ أخوتهم من الموت، وفى الوقت نفسه لا تتعرض أوضاعهم الاجتماعية للاضطرابات، فالوكالة اليهودية كانت تعلم بأنباء الإبادة، ولم تصمت عنها فحسب، بل أسكتت أولئك الذين كانوا يعرفون، ولم تحاول التدخل حيال تلك الأزمة. كما أكدت الدراسة على المجهودات التى بذلها الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت من أجل إنقاذ يهود أوروبا المشردين، والتى قوبلت بالرفض الشديد من جانب ممثلى الحركة الصهونية فى الولاياتالمتحدة الذين حاولوا إفشال أى مخطط لإنقاذ اللاجئين اليهود عن طريق جلبهم إلى الولاياتالمتحدة أو أى مكان آخر غير فلسطين. ملجأ مؤقت وأوضحت الدراسة أسباب المعارضة الشديدة التى قوبلت بها أنشطة الصهاينة التصحيحيين فى الولاياتالمتحدة من جانب صهاينة الولاياتالمتحدة، رغم نجاحهم فى الحصول على تعاطف فئات عديدة فى المجتمع الأمريكى لصالح قضية يهود أوروبا، وهى موافقتهم على أن تكون فلسطين مجرد ملجأ مؤقت، فقد خشى الصهاينة الأمريكيون من أن تؤثر خطة التصحيحيين على مجهوداتهم فى الحصول على قرار مؤيد لإنشاء الكومنولث اليهودى فى فلسطين من الكونجرس الأمريكى. وقد لعبت أزمة يهود أوروبا دوراً كبيرًا فى توحيد المجتمع اليهودى فى الولاياتالمتحدة وخارجها، فعندما تكشفت فظائع معسكرات الاعتقال النازية، أيد اليهود الأمريكيون- بشبه إجماع - فكرة إقامة دولة يهودية بفلسطين، على الرغم من أنهم كانوا منقسمين حول هذه الفكرة من قبل، فقام اليهود فى الولاياتالمتحدة وأماكن أخرى بتنحية خلافاتهم جانبا ًحتى يتم التركيز على دعم هذه المهمة. كما أبرزت الإبادة الصهاينة الأمريكيين كأقوى مجموعة صهيونية بعد صهاينة فلسطين نتيجة انعكاس سياسة الإبادة فى إضعاف المجموعة الأوروبية، إذ إن سياسة الإبادة النازية ساهمت فى إحداث تغير هام داخل الحركة الصهيونية، تمثل فى زيادة قوة الجناح المطالب بفلسطين من «النهر إلى البحر» والذى كان على رأسه بن جوريون والحاخام أبا هليل سيلفر وضعف «الجناح المتواضع» بزعامة وايزمان وجولدمان ووايز الذى اكتفى بجزء من فلسطين. الرفض الشعبى ومن ناحية أخرى أوضحت الدراسة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية- لم تكن فى يوم من الأيام- ترى فى فلسطين قضية بريطانية، بل اختلفت مع بريطانيا حول منطقة الشرق العربى على صعيد السياسات الإستراتيجية، فقد عمل روزفلت بشكل منفرد عن بريطانيا فى فلسطين، وبذل ما وسعه لإنشاء «وطن قومى لليهود» فيها، فقد فكر روزفلت ابتداء من صيف عام 1936 فى إنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، خاصةً بعد أن لاحظ ازدياد الرفض الشعبى لمحاولة توطينهم فى الولاياتالمتحدة. فقد نجح صهاينة الولاياتالمتحدة فى استخدم «الصوت اليهودي» لأول مرة كوسيلة ضغط للحصول على تأييد الحزبين الديمقراطى والجمهورى من خلال إجبارهما على تبنى برامج مؤيدة للصهيونية خلال المؤتمرات القومية لتلك الأحزاب، و قد ظهر ذلك بوضوح خلال الانتخابات الرئاسية فى نوفمبر عام 1944. وبالمقابل قدمت الدراسة تفسيراً للأسباب التى دفعت روزفلت لمنح الوعود المزدوجة للعرب واليهود، فيبدو أنه لكى يستطيع أن يوفق بين الأهداف الصهيونية وعدم إلحاق الضرر بالمصالح النفطية الأمريكية فى الشرق العربي، لجأ إلى التحدث بطريقتين مختلفتين مع العرب والصهاينة، وبخاصة بعدما ُرسمت السياسة الأمريكية تجاه المنطقة بهدف تحقيق الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الكاملة عليها، وبعد ما أثبتت الحرب العالمية الثانية أن النفط سيكون من الناحية الإستراتيجية العنصر الأهم فى السياسات الدولية اللاحقة، فقد اتبع روزفلت سياسة ذات وجهين، فهو لأسباب انتخابية معروفة تملق زعماء الصهاينة فى الولاياتالمتحدة، إلا أنه- حرصاً على مصالح بلاده المتزايدة فى العالم العربي- تعهد بعدم اتخاذ قرار حاسم بصدد المشكلة الفلسطينية، إلا بعد التشاور مع العرب، وخاصةً بعد أن أوضح له موظفو مكتب الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأمريكية ضرورة عدم إغضاب العرب، الذين تقع فى أراضيهم ذات الأهمية الإستراتيجية آبار النفط وأنابيبه. أما الرئيس الأمريكى هارى ترومان فإنه أرسل لجنة هاريسون بسبب الضغوط التى مارسها يهود الولاياتالمتحدة عليه، خاصةً بعد تسرب أنباء عن سوء الأوضاع المعيشية فى معسكرات المشردين فى أوروبا، وقد شارك فى تلك الضغوط معظم قادة يهود الولاياتالمتحدة، أمثال إيمانويل سيلر، والحاخام ستيفن وايز، وناحوم جولدمان، وروبرت مورجنتاو وزير الخزانة، الذين طالبوا بإجراء تحقيق عاجل فى هذا، ونجحوا فى إقناع ترومان بإرسال إيرل هاريسون فى يوليو1945 لكى يستعلم عن أوضاع الأشخاص المشردين فى ألمانيا واحتياجاتهم. فموقف الرئيس هارى ترومان المؤيد للحركة الصهيونية لم يكن ناتجاً عن تعاطفه مع مأساة يهود أوروبا المشردين فحسب، وإنما لإدراكه أيضًا أهمية الصوت اليهودى لحزبه خلال الانتخابات.