أريد أن أستشيرك فى أفكار غريبة وتصرفات عايشتها، ولم أجد لها تفسيرا، لكنى أستطيع أن أصفها بأنها «انفلات فكري»، فأنا مستشار علمى بإحدى الهيئات ولى شقيقة تكبرنى بعدة سنوات، وكانت تشغل وظيفة حكومية مرموقة، وتزوجت من قاض يعمل مستشارا بوزارة العدل،، ورزقهما الله بولد وبنت، تخرجا فى الجامعة وشق كل منهما طريقه فى الحياة، حيث حصل الولد على عقد عمل فى دولة أوروبية، وحرص على قضاء الاجازة السنوية مع أسرته، وتتراوح مدتها بين شهر وشهرين كل عام، وساعد تفوق البنت على التحاقها بشركة كبري، وهى تتسم بقدر عال من الجمال والجاذبية، وينطبق عليها المثل الشعبى «تقول للقمر قوم، وأنا أقعد مكانك»، ثم جاءها عقد عمل فى عاصمة دولة خليجية بمميزات كبيرة، وهى الدولة التى كنت أعمل بها فى ذلك الوقت مستشارا علميا لشركة معروفة بالمدينة نفسها، فكانت فرصة طيبة أن تقيم معى وأسرتي، وسعدت بتوفيق الله لها، ووفقت إجازاتى معها، لنزور مصر معا، ونلتقى بالأهل والأحباب، وبعد ست سنوات رشحتها الدولة الخليجية مع مجموعة من زميلاتها الخليجيات اللاتى يعملن فى نفس مجالها، لبعثة دراسية الى أمريكا لمدة أربع سنوات متواصلة، ولم نقف ضد طموحها، فسافرت، وبدأت دراستها هناك، ثم رحل أبوها عن الحياة، بعد خروجه الى المعاش بشهور، وخلا البيت على شقيقتي، وأحسسنا جميعا بالغربة الشديدة لعدم وجودها بيننا، كما ان شقيقها الأصغر استقر فى الخارج، ولم تفلح وسائل الاتصال الحديثة فى تخليص أمهما من الإحساس بالوحدة.. وكنت أنا أيضا ملهوفا عليها لارتباطى بها، فما بالك بأمها القابعة فى البيت بمفردها ليلا ونهارا، وهى فى هذه السن المتقدمة من العمر. وحرصت على زيارة شقيقتي، ومتابعة أحوالها قدر استطاعتي، وذات مرة حدثتنى عن رغبتها فى عودة ابنها وابنتها الى مصر ليكونا بالقرب منها، وكفاهما غربة، فلقد بلغ عمر الابن أربعا وثلاثين عاما، والابنة اثنين وثلاثين عاما، وانتهيت معها الى أن أعرض عليهما الأمر، وأترك لهما حرية الاختيار، والحقيقة أننى لم أتوقع استجابتهما السريعة، فلقد أنهى الابن عمله بالدولة الأوروبية، واستخرج الأوراق والمستندات التى تساعده وتسمح له بالعودة إليها فى أى وقت يشاء، وكذلك فعلت الابنة التى لم تزد فترة وجودها بأمريكا على سبعة أشهر، وسوف تخسر الدراسة عندما تنقطع عنها، كما ستخسر عملها بالدولة الخليجية، فلم يثنها شيء عن تلبية رغبة أمها، وفضلت أن تكون الى جانبها.
وهكذا التأم شمل الأم وابنها وابنتها من جديد، ثم طرأ موضوع جديد على حياتنا، وهو أن كثيرين من الشباب يطرقون باب ابنة اختى للارتباط بها، وجميعهم يشغلون وظائف مرموقة، ومن عائلات معروفة فى محافظتنا الصعيدية، وهنا ظهرت المشكلة التى أكتب إليك بشأنها، وهى أن ابنة اختى لا ترتدى الحجاب، أى لا تغطى شعرها، وإننى استغرب أن يكون ذلك مثار خلاف ومحل تحفظ!، صحيح ان العروس جميلة لدرجة تجعل من ينظر إليها يتمتم فى نفسه «تبارك الله فيما خلق».. لكن ملابسها راقية، وهى فتاة أنيقة، محتشمة، مثل كثيرات ممن هن فى مثل سنها واللاتى يرتدين الأزياء الوقورة، ولا يعرفن الموديلات الصارخة، وللأسف فإن ذلك لا يمثل شيئا للشباب فالمهم لديهم تغطية الشعر، وأصبح هذا هو الشغل الشاغل لمن يطلب يدها، فعندما تأتينا سيدة مع ابنها الشاب لخطبتها يكون أول طلب لها هو أن تغطى شعرها، وذات مرة كنت فى زيارة أختى عندما جاءتها والدة عريس يرغب فى الزواج من ابنتها، وعندما اشترطت عليها أن ترتدى غطاء الرأس سألتها: وما الضرر أو الحرج فى أن يظل شعرها مكشوفا، مادامت ترتدى الملابس الأكثر احتشاما ممن يطلق عليهن محجبات، فأقرت والدة العريس بالفعل أن ملابسها ممتازة، ولا ملاحظة عليها، ولكن تظل مسألة تغطية الشعر مهمة، لان مجتمعنا كله تغطى فيه السيدات والفتيات شعرهن، ويجب أن تكون بناتنا مثلهن.
وكررت أنا أيضا السؤال نفسه على الشاب ابن هذه السيدة فى زيارة أخرى فرد علىّ بقوله، ليست لدى مشكلة فى هذه المسألة، ولكنى أطلب منها أن ترتدى الحجاب الى أن يتم الزفاف ثم تخلعه بعد الزواج، لأنى بصراحة أشعر بالحرج من اخواتى وقريباتي، وكلهن محجبات، فتعجبت أن يكون هذا هو تفكير كثيرين من الشباب، فالشرط الوحيد لإتمام الزيجة من وجهة نظر الشاب هو تغطية شعر من سيرتبط بها!! ولا يلقى بالا لأى مطالب أو شروط أخرى كالاحتشام والثقافة والأسرة الطيبة، والاخلاق الحميدة، والمعاملة الحسنة.
لقد تربينا فى الزمن الماضي، ولم يكن الحجاب بمفهومه الحالى قائما وقتها، وكانت أسرنا وبناتنا يكشفن رءوسهن، وكلهن احترام وثقة بالنفس، ولم يجرؤ أحد على مجرد النظر إليهن، فلقد سألتنى اختى عن رأيى فى هذا الشرط فرددت عليها بأننى لا أوافق أن يبدأ الشاب حياته مع زوجته بمثل هذا «الشرط السطحي»، فمن يتمسك بقشور الأمور لا يأمن أحد تصرفاته بعد الزواج، فهل ترانى قد أخطأت فيما أشرت عليها به؟ ولكاتب هذه الرسالة أقول: استوقفتنى إشارتك السريعة إلى استجابة ابن وابنة أختك لرغبة أمهما بالعودة من الخارج، وترك أعمالهما ودراستهما ليكونا بجوارها، وليؤنسا وحدتها بعد إحالتها إلى المعاش، وهو موقف يدل على معدنهما الأصيل، وتربيتهما السليمة، ويؤكد فى الوقت نفسه تماسك عائلتكم، وحرصكم على صلة الرحم، وهذه فضيلة كبرى تحسب لكم جميعا، فهنيئا لأختك بهما، وهنيئا لهما بأم أحسنت تربيتهما.
أما مسألة الحجاب واشتراط من يتقدم للارتباط بابنة شقيقتك تغطية شعرها، فإن أبلغ تعبير والذى أؤيدك فيه تماما هو ما وصفته بأنه «شرط سطحى».. وإنى أتساءل: ماذا يجدى غطاء الرأس والبنت أو السيدة ترتدى ملابس مجسمة ومثيرة، وتضع كل ألوان الماكياج الصارخة؟..أليست الملابس المحتشمة التى تغطى الجسم كله، ولا تبين مفاتنه هى الأفضل؟.. فكشف الشعر وحده لايمثل أى نوع من الإثارة، وهناك كثيرات يرتدين الحجاب من باب العادة، أو مسايرة لأسرهن، أو بفرض من أزواجهن، دون أن يكون داخلهن الاقتناع الكافى به.
والأمر برمته يرتبط بالثقافة السائدة فى المجتمع، وإنى أوافقك تماما فى هذه المسألة فالوضوح والصراحة هما عنوان حياة ابنة اختك التى أراها من وصفك لها ولمشوارها فى الحياة فتاة ناضجة عاقلة متزنة ومتسقة مع نفسها ولديها قناعة داخلية بذاتها وكيانها، وتنظر إلى الأمور بمقياس العقل وتتعامل مع الآخرين بشفافية، وهى صفات تؤهلها لأن تكون زوجة وأما ناجحة، وتكرر تجربة والدتها التى ربتها هى وشقيقها وقدمتهما كنموذجين مثاليين فى الحياة، فلا تقلق ياسيدى على ابنة شقيقتك. وسوف يطرق بابها الرجل المناسب لها من كل الوجوه.. رجل يقدرها ويعرف قيمتها الحقيقية بعيدا عن «الشرط السطحى» !.