تحكي القصور الملكية لنا قصص الملوك والرؤساء الذين قطنوها. والقصور الملكية في مصر مليئة بالكثير من الحكايات والأسرار و ظلت شاهدة على تاريخ أمة وحياة شعب بأكمله، ومرت بها أحداث وثورات غيّرت مجرى التاريخ. سكن هذه القصور ملوك ورؤساء عدة بعضهم حقق تقدما لبلاده وآخرون أسقطهم التاريخ، وقد مرّت هذه القصور بمرحلتي حكم ملكي وجمهوري. ولعل من أهم القصور التي ما زالت مقرا لحكام مصر حتى الآن... قصر عابدين الذي سنتناوله اليوم في حديثنا لأنة يُعدّ من أشهر وأفخم القصور الملكية في مصر، والذي يتصدر المشهد ليكون أسم لأحد أهم الأعمال الدرامية الرمضانية هذا العام بحكاياته وأسراره. يعتبر قصر عابدين تحفة معمارية وتاريخية فريدة، ومتحفا يعكس الفخامة التي شيد بها والأحداث المهمة التي وقعت به منذ العصر الملكي وحتى قيام ثورة يوليو 1952، فهو يحكي تاريخ مائة عام من الأحداث الاجتماعية والسياسية من القرن التاسع عشر في تاريخ مصر. ويُعدّ من أشهر القصور المصرية التي شيدت خلال حكم أسرة محمد علي باشا لمصر، حيث كان مقرا للحكم من عام 1872 حتى عام 1952، وقد أطلق عليه اسم “جوهرة القصور الملكية” وذلك لأنه يتميز بالتراث الكلاسيكي الذي كان ينافس القصور الأوروبية آنذاك في معماره، وتعدد قاعاته وأروقته التي شهدت صعود وهبوط ملوك وحكام ورؤساء كثيرين. تم تشييد القصر على يد الخديوي إسماعيل بن إبراهيم باشا ,خامس حكام مصر في الأسرة العلوية. وهو الذي أمر ببنائه فور توليه الحكم في مصر عام 1863، وقد بُني قصر عابدين مكان القصر القديم الذي كان ملكا لأحد القادة العسكريين في عهد محمد علي باشا، وهو «عابدين باشا»، فقام بشرائه الخديوي إسماعيل من أرملته وهدمه وضم إليه بعض الأراضي المجاورة له لتصبح مساحته 24 فدانا، وأبقى الخديوي إسماعيل على اسم صاحب القصر القديم «عابدين». صمم القصر المهندس الفرنسي «دي كوريل روسو» وقد بدأ البناء فيه عام 1863 واستغرق بناؤه عشر سنوات، وتم افتتاحه عام 1874 ولقد قدرت تكلفة البناء بمائة ألف جنيه ذهبية. ويُعدّ بناء قصر عابدين بداية لظهور القاهرة الحديثة، ففي نفس الوقت الذي كان يتم فيه بناء القصر أمر الخديوي إسماعيل بتخطيط القاهرة على النمط الأوروبي، من ميادين فسيحة وشوارع واسعة وقصور ومبانٍ وجسور على النيل، وحدائق مليئة بالأشجار وأنواع النخيل والنباتات النادرة. وقصر عابدين عبارة عن طابقين يشتمل الطابق العلوي على السلاملك، والحرملك. أما الطابق الأرضي فيضم مقر الحرس ومكاتب التشريفة والمخازن والخدم. وعلى عكس القصور الأخرى. فقصر عابدين يجمع بين الحرملك والسلاملك في مبنى واحد. وهو ما يعد مخالفا للتقاليد المتبعة في مصر واسطنبول. وتعد أشهر وأضخم بوابات القصر هو باب باريس، وهذا الباب يؤدى إلى المدخل الرئيسي للحرملك. وجاءت التسمية نسبة إلى الإمبراطورة «أوجينى». وبعد بناء القصر قرر الخديوي إسماعيل تمليك القصر إلى زوجاته الثلاثة. هو وقصر الرملة وقصر الجيزة، ولكن عندما نفى الخديوي إسماعيل عام 1879 أصدر الخديوي توفيق قانونا رسميا ينص على أن القصور الرسمية كلها هي ملكية منفردة لمصر وينبغي أن تظل محلا لإقامة الأسرة المالكة دون أن تكون ملكا لها. هذا ويضم القصر عددا كبيرا من الغرف والقاعات لتصل إلى 500 غرفة وقاعة، ومكتبة ضخمة تضم ما يقرب من 55 ألف كتاب، وأطقما مذهبة من الأثاث، ومبنى منقوشا بأسماء الملوك.، ويوجد في الدور الأول من القصر صالونان، يؤدي أحدهما إلى صالون قناة السويس الذي أنشئ ليتم الاحتفال فيه بافتتاح قناة السويس، ولكنه لم يتم الاحتفال فيه، وهذا الصالون يؤدي إلى الشرفة المؤدية إلى ميدان عابدين. وتعتبر قاعة محمد علي من أكبر قاعات القصر وأفخمها، وأمامها يوجد المسرح الذي يُعد تحفة فنية لا مثيل لها في ذلك الوقت.وقد تم ترميم القصر ترميما معماريا وفنيا شاملا، وقد شملت هذه الأعمال تطوير وتحديث متحف الأسلحة بإعادة تنسيقه وعرض محتوياته بأحدث أساليب العرض الحالية، مع إضافة قاعة إلى المتحف خصصت لعرض الأسلحة المختلفة التي تلقاها رؤساء مصر من الجهات المختلفة، ذلك إلى جانب متحف الأوسمة والنياشين. وهناك متحف آخر بالقصر مُخصص لمقتنيات أسرة محمد علي باشا، من أدوات وأوانٍ مصنوعة من الفضة والكريستال والبلور الملوّن، وغيرها من التحف واللوحات النادرة التي تعتبر من الكنوز، فالقصر كان يضم مجموعة من التحف واللوحات الفنية الأصلية التي لا تقدّر بثمن، وقد تعاقب على شرائها وجمعها كل الحكام الذين سكنوا القصر. اكتسب قصر عابدين مكانته الخاصة في قلوب المصريين نظرا لاعتباره نقطة تحوّل في حياتهم، حيث كانت المرة الأولى التي يترك فيها الحاكم برجه الذي يحكم منه في القلعة وينزل قلب العاصمة ليحكم البلاد وسط شعبه . وقد شهد هذا القصر أحداثا تاريخية طبعت بصماتها في التاريخ، من أهمها أنه شهد تظاهرة في 9 سبتمبر سنة 1881 بقيادة الزعيم أحمد عرابي، الذي قدّم فيها مطالب الأمة والجيش للخديوي توفيق، وكان قوله المأثور “لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا أو عقارا”، وأعقبتها ثورة المصريين ونفي أحمد عرابي ودخول الإنجليز لمصر. ومن ضمن الأحداث المهمة أيضا الأزمة التي نشبت بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر، والتي عرفت بأزمة مارس عام 1954 بعد قيام الثورة، حيث شهد هذا العام تقديم محمد نجيب استقالته في 25 فبراير، ولما تراجع عنها عاد للقصر ووقف بالشرفة والتف حوله المتظاهرون في شعارات تعارضه في ذلك الوقت. كما شهد الميدان المواجه للقصر بدايات ثورة 1919 عندما ملأت الجماهير ميدان عابدين مطالبة الملك فؤاد بالإفراج عن سعد زغلول ورفاقه وعودتهم من المنفى. وحادث 4 فبراير 1942 حين أصر السفير البريطاني على تولي مصطفى النحاس رئاسة الوزراء.ومن الأحداث المهمة والساخنة كذلك في تاريخ مصر التي شهدها القصر، هي أزمة مارس التي نشبت بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر عام 1954 بعد قيام الثورة، حيث شهد هذا العام تقديم محمد نجيب استقالته في 25 فبراير. يضم قصر عابدين خمسة متاحف ومنها المتحف الحربي. وضريح معروف باسم ضريح سيدي بدران وله باب على ساحة النافورة . وسيدي بدران هو احد أولياء الله الصالحين، وضرزخارفه،د قبل بناء القصر، وقد أمر الخديوي إسماعيل الحفاظ على الضريح وإدخاله ضمن تصميمات القصر. يوجد كذلك متحف للأسلحة ويضم قسم للأسلحة البيضاء التي أخرجتها أيدي صناع مهرة من بلاد العالم الإسلامي وأوروبا، من عصور مختلفة.. وأخيرا متحف الفضيات الذي يعرض نفائس أسرة محمد علي من فضيات والصيني والكريستالات . وأخيرا يوجد متحف للوثائق التاريخية وهو أحدث المتاحف التي افتتحت في متاحف قصر عابدين فقد تم افتتاحه في 2004 ويحتوي هذا المتحف علي عدة وثائق تاريخية هامة من عهد « محمد علي باشا « وحتى الملك فاروق الأول آخر ملوك مصر. ولعل من أهم المعروضات بهذا المتحف: فرمان صادر من السلطان عبد العزيز خان في 1279ه / 1863م يتضمن توجيه ولاية مصر وملحقاتها إلي إسماعيل باشا .هذا بالإضافة الي ألبوم صور يحتوي علي صور زيارة ولي عهد إيران لمصر وزواجه من شقيقة الملك الأميرة فوزية . والسجل الخاص بعقد زواج الملك فاروق الأول ملك مصر من الملكة فريدة بتاريخ 20يناير1938وكذا إشهاد الطلاق علي نفس الوثيقة بتاريخ 17 نوفمبر1948 م . وأيضا السجل الخاص بعقد زواج صاحب السمو الإمبراطوري محمد رضا بهلوي ولي عهد إيران من صاحبة السمو الملكي فوزية شقيقة الملك فاروق بتاريخ 15 مارس 1939 م وكذا إشهاد الطلاق علي نفس الوثيقة بتاريخ 16 أكتوبر 1948م.