انطلاق الورشة الثانية حول إعادة إعمار السودان والربط اللوجستى بين البلدين    مصر تبدأ العمل بالتوقيت الشتوي نهاية أكتوبر.. الساعة هتتأخر 60 دقيقة    محكمة العدل الدولية: إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية في غزة    أحمد دياب يهنئ منتخب مصر وصلاح وحسام حسن بالترشح لجوائز الأفضل في 2025    انطلاق دوري الأنشطة الرياضية لتلاميذ المدارس بالمحافظات الحدودية بجنوب سيناء    السكة الحديد تكثف لقاءات التوعية بأخلاقيات التعامل مع مرفق الهيئة    "مكافحة انتشار المخدرات" فى ندوة بطب بيطري أسيوط    سفارتا مصر بالدوحة وكتارا تنظمان البث الحى لافتتاح المتحف المصرى الكبير    أمير قطر: العلاقات التاريخية مع تركيا تمضي بثبات نحو آفاق واعدة    الجمعة.. مي فاروق والحجار وفرقة أوبرا الإسكندرية يحيون 3 حفلات ضمن مهرجان الموسيقى العربية    لتوفير 1500 فرصة عمل.. 12 شركة في الملتقى التوظيفي الأول بجامعة حلوان (تفاصيل)    الكرملين: بوتين لن يحضر قمة مجموعة العشرين    الخارجية الروسية: تحضيرات القمة بين بوتين وترامب مستمرة    رئيس الوفد البرلماني الدنماركي: خطة السلام بغزة لم تكن لتنجح دون الجهود المصرية    الكنيست الإسرائيلي يقر مقترح قانون ضم الضفة الغربية بالقراءة التمهيدية    اعتماد تنظيم الكونغرس الأول للإعلام الرياضي في ديسمبر 2026    رئيس الوزراء: نقف على مسافة واحدة من جميع المرشحين في انتخابات النواب    وزير التعليم العالي يؤكد ضرورة توجيه البحث العلمي لخدمة التنمية الاقتصادية وخلق فرص عمل للشباب    ننشر لائحة النظام الأساسى للزمالك بعد عدم اكتمال نصاب الجمعية العمومية    تركيب 1662 وصلة مياه مجانية للأسر الاولى بالرعاية بالفيوم    مصر تدعو لتمثيل عادل للدول الإفريقية بالمؤسسات الدولية والبنوك الإنمائية    خلاف جيران يتحول إلى معركة فى الشارع ببنها.. والداخلية تكشف التفاصيل    محافظ أسوان يتفقد طلاب جامعة بنها المصابين في حادث طريق أبو سمبل.. ويوجه بتقديم الرعاية الكاملة    غلق كلي لكوبرى الأزهر السفلى 3 أيام لاستكمال أعمال التطوير    حبس المتهم بإنشاء كيان تعليمي وهمي للنصب على المواطنين بمدينة نصر    الشركة المصرية لمستحضرات التجميل (ECC) تفتتح أحدث خطوط الإنتاج للمكملات الغذائية باستثمارات 200 مليون جنيه    مجلس كنائس مصر: مؤتمر الكهنة والرعاة جسد رسالة الكنسية في خدمة الإنسان والمجتمع    أكرم القصاص ل اليوم : القمة المصرية الأوروبية تتويج لسياسة خارجية متوازنة وفاعلة    انطلاق المؤتمر السنوي الثالث لمركز الكبد والجهاز الهضمي بدماص بالمنصورة.. غدًا    مرض الجدري المائي.. الأعراض وطرق الوقاية    تزامنًا مع تعامد الشمس على رمسيس الثاني.. رفع درجة الجاهزية القصوى بجميع منشآت الرعاية الصحية بأسوان    قائمة ريال مدريد - غياب 5 مدافعين ضد يوفنتوس.. وميندي يعود لأول مرة منذ 6 أشهر    الجبلاية توافق على رحيل أسامه نبيه وتبحث عن مدير فني للمنتخب الأولمبي    الحكومة تقرر إتاحة خدمات السجل التجاري عبر مكاتب البريد المصري    الوعي الوطني ومواجهة التحديات، ندوة مشتركة بين مجمع الإعلام وجامعة الفيوم    وكيل التعليم بالجيزة يستبعد مدير مدرسة خلال جولة مفاجئة في الهرم والعمرانية    أفضل 5 وجبات خفيفة صحية لا ترفع السكر في الدم    فئات ممنوعة من أداء مناسك الحج    الرقابة المالية تمد وقف تلقي طلبات التأسيس لنشاطي التمويل الاستهلاكي ومتناهي الصغر بالطرق التقليدية لمدة عام    النجم التركي كان أورجانجي أوغلو: أتطلع لزيارة الجمهور في منازلهم بمصر    محمد عبده يقبل يد المايسترو هاني فرحات : "ونكيد العوازل بقي "    إحالة أوراق سائق للمفتي بعد اتهامه بقتل مزارع وتزعُّم عصابة للإتجار بالمخدرات في القليوبية    الأقصر تتحرك لدعم موسم سياحي استثنائي.. لقاء موسع بمشاركة خبراء ومختصين    بيحبوا يكسروا الروتين.. 4 أبراج لا تخشى المخاطرة وتحب انتهاز الفرص    القنوات الناقلة لمباراة بايرن ميونخ وكلوب بروج في دوري أبطال أوروبا    وزير الإسكان: تخصيص 408 قطع أراضٍ للمواطنين بمنطقة الرابية    البترول: مصر تُصدر 150 ألف متر مكعب من الغاز المسال إلى تركيا لصالح توتال إنيرجيز    «مصر» ضمن المرشحين لجائزة أفضل منتخب إفريقي في 2025    نائب وزير الصحة يتفقد جاهزية الخدمات الطبية والطوارئ بميناء رفح البري    نائب ترامب: واشنطن تعمل على ضمان ألا تشكل حماس تهديدا مرة أخرى    منال عوض: نسعى لحل مشاكل المواطنين والتواجد المستمر على أرض الواقع    جوائز كاف - بيراميدز ينافس صنداونز على أفضل ناد.. وغياب الأهلي والزمالك    مفتي الجمهورية: الله تولى بنفسه منصب الإفتاء وجعله من وظائف النبوة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاربعاء 22-10-2025 في محافظة الأقصر    حكم القيام بإثبات الحضور للزميل الغائب عن العمل.. الإفتاء تجيب    حين يتأخر الجواب: لماذا لا يُستجاب الدعاء أحيانًا؟    سماء الفرج    موعد شهر رمضان المبارك 1447 هجريًا والأيام المتبقية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هس لا تتكلم.. فمخابرات العالم تسمعك
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 07 - 2014

كل يوم تستطف أيام عمري أمامي، ليصبح كل يوم هو بناء يجاور آخر ، ولكل بناء مفتاح ، ما إن أديره حتى تخرج الساعات تروي ما جرى. ,وإذا قيل لي أن هناك من يسمع كل كلمة أتحدث بها ، وينصحني بالصمت فأنا أضحك من إندفاع يحكي كل ما دار في العمر ، ويستكشف ما سوف يدور في المستقبل، و عندما يمارس البعض تجاه البعض الآخر دور الجاسوس الراغب في معرفة ما في تلافيف القلب،
فأنا لا أنسى فرحتي عندما تم اكتشاف جهاز الموجات الصوتية التي تتجسس على بطن زوجتي ليخبرني أن ابني القادم هو ولد ، وكدت أرقص قيل لي ان الجنين الثاني هو بنت ، وإنزعجت حين قال الطبيب قبل ميلاد ابني الثالث أنه لن يخرج إلا بعملية قيصرية ، وهكذا صار « التجسس « وعمل المخابرات والمباحث هو من وظائف الأطباء أيضا ، ألم يقولوا لي منذ أربع سنوات أن ثلاثة من شراين قلبي صارت شبه مسدودة وتحتاج إلى دعامات ، وعرفوا ذلك بجهاز حديث شديد التجسس على أحوال القلب ؟
لكن التجسس على أحوال الصحة يختلف عن التجسس على أحوال الحياة في المجتمع ، وها أنا ذا أرى ساعات عمري تندلق أمام ذاكرتي فأرى في يوم قديم صورة أول مخبرة تنقل الأخبار إلى السلطة ، وهي الفراشة «صبحية «المسئولة عن نظافة الدور الثاني حيث يوجد فصلي بمدرسة نبوية موسى ، وهي من تسللت إلى مكتب مالكة المدرسة نبوية موسى لتخبرها بأن هناك طفلا في الروضة، يلعب مع زميلة له لعبة عروسة وعريس أثناء فسحة الغداء التي تستمر ساعة كاملة ، ففاجأتني نبوية موسى مع زميلتي بنت الطبيب الخاص بأسرتي ونحن نلعب لعبة الدكتورة والمريض ، فكانت النتيجة هي فصلي مع زميلتي من الروضة ، ليحار أبي بحثا عن مدرسة إبتدائية تقبلني .
ويأتي عام 1949 لأجد نفسي تلميذا في مدرسة محرم بك الخاصة والتي أسسها والد الدكتور عصمت عبد المجيد، وهو فهمي بك عبد المجيد وأرادها مدرسة بديلة لكلية فيكتوريا وسان مارك ، وليلتحق بها أبناء الطبقة المتوسطة العليا، فأعاني من أني أفقر تلميذ فيها ، و لذلك كانت فرحتي لا نظير لها بقرار طه حسين باشا تأميم التعليم لأن أعدادا كبيرة من الفقراء دخلوا المدرسة وكنت بالنسبة إليهم قريبا منهم ولكني لست منهم ، كما أني كنت قريبا من التلاميذ الأثرياء ولست منهم أيضا . وحين قام الملك فاروق بتطليق الملكة فريدة ، خرج من بيننا من يهتف في طابور الصباح « يسقط الملك الفاسد « ، وهو زميلنا محمد قناوي الذي اكتشفنا بعد ذلك بسنوات إنضمامه لحزب شيوعي ، وبطبيعة الحال ، لو أن أحدا سأل أي طالب بمدرسة محرم بك الخاصة عن معنى كلمة شيوعية ، لأجاب « لابد أنها صنف طعام يمت بصلة قرابة للملوخية أو الطعمية أو المهلبية أو أي شيء من هذا القبيل ، فمن ذا الذي يوجد في مدرسة إبتدائية وثانوية يعرف معنى الشيوعية ، المهم أن ناظر المدرسة وقف امام باب الخروج ليصرخ فينا « أخبرني واحد منكم أنكم قمتم بالإضراب حتى تدخلوا سينما بلازا لتشاهدوا فيلم أفاجاردنر ، وسأرسل إلى آبائكم خطابات بعلم وصول لأخبره بأنكم تفسدون حياتكم بتلك الإضرابات « . ورغم أني لم أذهب لفيلم آفا جاردنر إلا أني إكتشفت أن للناظر عيونا وآذانا تتلصص علينا نحن طلبة المدرسة .
ولم يكن هناك مفر من أن ننظر جميعا إلى زميلنا شريف لبيب ابن حكمدار الإسكندرية ، لنسأله « هل وضع أبوك جواسيس علينا لتخبر الناظر بما نفكر فيه ؟ « ومازالت ابتسامة شريف لبيب عالقة في ذاكرتي ، وهو يقول لنا « من أنتم حتى يتجسس أبي عليكم ؟ أبي يتابع الأحزاب القوية ، كالأحزاب الشيوعية أو الإخوان المسلمين «. وإعتبر محمد الزلباني مندوب الإخوان المسلمين بالمدرسة أن شريف لبيب قدم له شهادة فخر بأن تنظيم الإخوان هو القوى ، وأخبرنا أن الملك اتفق مع النحاس باشا على الإفراج عن الإخوان المسلمين الذين اعتقلهم إبراهيم باشا عبد الهادي بعد مقتل رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي ، وأضاف أن شعبة الإخوان بشارع الإسكندراني ستستقبل محمد مالك و هو من كان مكلفا باغتيال الملك فاروق عند زيارته للمعرض الزراعي الصناعي الأول عام 1949، ولا أنسى أني قلت للأستاذ حنفي مدرس اللغة العربية الذي كان ضابطا احتياطيا بحرب فلسطين ، « كنت أتمنى أن يقوم أحد ضباط الجيش بحكاية اغتيال الملك بدلا من محمد مالك « فنهرني الرجل وأوصى زميله الأستاذ شوقي عبد الناصر أن يخبر أبي بضرورة أن أصمت ولا أتحدث في مثل تلك الأمور ، وكان الأستاذ حنفي يعلم بصداقة أبي مع شوقي عبد الناصر ، فنحن جيران حي واحد ، ولم نكن في ذلك الوقت نعلم أن شوقي عبد الناصر هو شقيق جمال عبد الناصر ، ومازلت أذكر كلمات الأستاذ شوقي لي « لن أخبر والدك بما أخبرني به حنفي أفندي ، لأن قتل الملك لا يخلص مصر من كل أوجاعها ، فالمطلوب أكبر من ذلك» . وفي عصر ذلك النهار ترددت كثيرا في الذهاب إلى شعبة الإخوان المسلمين ، خوفا من أن يلحقوا بي ما فشلوا فيه من قبل ، حيث سبق لي الذهاب إلى الشعبة لحضور إجتماع أسرة كونها محمد الزلباني ، وكان هناك شخص أكبر منا سنا يحدثنا عن قيمة جماعة الإخوان ، ولما وجدني سارحا بعيدا عن الاستماع ، سألني « فيماذا تفكر ؟ « اجبته « أفكر في إيجاد حل لمشكلة نضج الشاب وقدرته على الإنجاب ، مع إستحالة زواجه أثناء التعليم ، فضحك الأكبر منا , قال « إصبر . فهي فركة كعب وستتخرج من المدرسة الثانوية ، ثم الجامعة لتتزوج « قلت « وهل سأظل طوال السنوات معذبا بصور البنات اللاتي يحتضن حقائبهن إلى الصدور البارزة ؟ « . وهنا جاء محمد الزلباني ليهمس لأذني بضرورة مغادرة الشعبة، كيلا يكلف أحدهم مجموعة من شعبة الملاكمة بتلقيني درسا صعبا ، فأسرعت بمغادرة المكان.
لكن رغبتي في رؤية محمد مالك دفعتني للذهاب ، فهو من نشرت أخبار اليوم صورته وأن من يقبض عليه سوف ينال ألف جنيه مكافأة ، وقد قبض عليه محمد لبيب حكمدار الإسكندرية والد زميلنا شريف ، وعلمت أن والده اشترى له دراجة « رالي « لها ناقل حركة لثلاث سرعات « فيتيس «، وعندما سألت شريف « هل اشترى لك والدك الدراجة من مكافأة القبض على محمد مالك ؟ « قال « نحن نستطيع شراء دراجات البلد كلها دون حاجة لمكافأة الملك « . وفي شعبة الإخوان المسلمين رأيت محمد مالك لأجده شابا طويلا عريضا، قريب الشبه جدا من رشدي أباظة ، لكن شعره أشقر ، وسألته « كيف علموا بحكاية استهدافك للملك ؟ « قال لي « الجواسيس منتشروين حتى داخل الإخوان المسلمين « . وكان القول فاجعا لمن يدعون أنهم أطهر مخلوقات الأرض . وحمدت الله على عدم وجود من سبق وسألته قبل ذلك عن حق الارتواء العاطفي لمن وصل إلى سن البلوغ .
وما أن قامت ثورة يوليو حتى فرحنا طلبة مدرسة محرم بك لأن جمال عبد الناصر له شقيقان يعملان بمدرستنا ، الليثي عبد الناصر مدرس الجغرافيا وشوقي عبد الناصر مدرس اللغة الإنجليزية ، وبقدر ما كان شوقي قريبا من قلوبنا جميعا ، بقدر ما كان الليثي بعيدا ، فهو كثير الشخط ، سريع الزهق من أي سؤال لا يرغب الإجابة عليه ، ولذلك التف الطلبة حول شوقي عبد الناصر الذي قال لنا إن الثورة تؤسس منظمة للشباب وأن من يرأسها سيأتي لزيارتنا ، وهو « الصاغ وحيد رمضان « . وحين عرض شوقي عبد الناصر على شخصي الإنضمام للمنظمة قلت له « أنا لا أحب الإنضمام لأي تنظيمات منذ ما حدث في شعبة الإخوان المسلمين « ورويت له ما حدث . ضحك كثيرا ليقول « أنت إبن ثورة يوليو.. شئت أم أبيت «. وجاء وحيد رمضان ليعلن لنا « أعداء الثورة أربعة .. إمعة .. أو صاحب منفعة .. أو موتور .. أو مأجور « . ومن الغريب أنه بعد أشهر من هذا الإعلان كان وحيد رمضان هو صاحب المنفعة الضائعة ، فقد كان يحلم بكرسي الوزارة ، وكان موتورا من أفضلية بعض من ضباط الثورة عليه ، وصار مأجورا لحقده الشخصي ضد عبد الناصر ، ليقضي شهورا رهن الإعتقال ، ثم يرسل إلى إحدى الدول الشرقية دبلوماسيا ولم يهبط أرض مصر إلا بعد رحيل جمال عبد الناصر . وفي أول حديث له بعد العودة قال إنه كان يتحسس كلماته لأن الحوائط في كل ركن كان يذهب إليه كانت له آذان متعددة .
.................
في الجامعة وفي مبنى كلية الآداب الذي صار الآن مقرا لإدارة جامعة الإسكندرية ، دخل الأستاذ الدكتور نجيب بلدي أستاذ الفلسفة الحديثة ، ليعلن لنا في نوفمبر 1958 أن برقية وصلت إلى العميد بعدم تدريس الفلسفة الحديثة بالكلية ، لأنها فلسفة ملحدة سواء أكانت ماركسية أو وجودية ، وقال « حين كنت أقوم بإعداد الطعام مع صديقي جان بول سارتر وحبيبته سيمون دي بوفوار ، قال سارتر لي : لماذا تعود إلى مصر ؟ إن مكانك عندنا ، فليس هناك من يقوم بتدريس الفلسفة الحديثة مثلك . فرددت عليه : إن طه حسين حين أرسلني للبعثة أوصاني بضرورة العودة، فلا مهرب من أن نزرع أفكار العصر الحديث في وجدان الشباب . ولذلك أنا سأطلب منكم طلبة السنة الأولى أن تختاروا ثلاثة منكم ليزوروني في بيتي ، وسأطلب نفس الطلب من طلبة السنوات الثلاث الأخرى ، وبذلك يكون عندي إثنا عشر تلميذا ، ولا أعرف هل سيكون أحدهم هو يهوذا أم لا .. يهوذا الذي خان المسيح ، فهل سيوجد من يبلغ عني سعد عقل ضابط المباحث العامة عما سأدرسه لكم أم لا .. أنا لا يهمني يهوذا ، لكن ليعلم من سأختارهم أن هناك دينا عليهم سداده ، فمن يتعلم ما أحكيه عن الفلسفة الحديثة ، عليه أن ينقل ما تعلم لزملائه .
وفوجئت بأن د. نجيب بلدي قد إختارني ضمن من سيلقي عليهم دروس الفلسفة في منزله الفخم والبسيط والمطل على البحر . ولم أفاجأ بإستدعاء ضابط المباحث الأشهر بالإسكندرية سعد عقل لي ليسألني عما يدور في تلك الدروس ، فقلت « يمكنك أن تسأل ولي أمري شوقي عبد الناصر ، وسيحكي لك عما أدرسه مع زملائي في منزل د. نجيب بلدي أما أن تطلب مني أن أحكي لك أنا فدعني أقول لك إنه علم لن ينفعك » . أيقن سعد عقل أنه لن يستطيع تجنيدي كعنصر يأتي له بأية معلومات ، ليفاجئني في اليوم الأول من عام 1959 باستدعائي لأني قابلت الراحل عبد الستار الطويلة الصحفي بروز اليوسف ، وكان يبحث عن وسيلة للهرب خارج مصر إلى أن تم اعتقاله ؛ فهو واحد من الشيوعون ومطلوب للاعتقال » . وتعجبت عندما استدعاني سعد عقل ضابط المباحث ليسألني عن سبب مقابلة عبد الستار في شارع صفية زغلول ، فأخبرته بأن سبب المقابلة يعلمه ولي أمري الأستاذ شوقي عبد الناصر شقيق جمال عبد الناصر ، ويمكنه أن يخبرك ». وكانت إجابتي مزعجة له ، ودفعه غيظه منى إلى ارتكاب حماقة جعلتني أتنفس بصعوبة ، فقد استدعى من قررت أن أهبها عمري وبادلتني نفس القرار ، ليحذرها مني ، فأنا بالنسبة لأي بنت شاب بلا مستقبل .. ألمس السياسة في مناطقها الصاعقة ، فلم تأبه الحبيبة له .
تمر أربعة أعوام وتسافر الحبيبة إلى باريس لتدرس ؛ فإنخلع قلبي أنا الذي تم تعييني في روز اليوسف بسبعة عشر جنيها ، لكن والدها قال « لا يمكن ان أزوج ابنتي لصحفي يزامل الفنانين والفنانات وإن إتجه إلى السياسة فمصيره السجن « ولم تخفت شمعة الحب أبدا . فقررت السفر إلى باريس مهما كلفني ذلك ، ولن انسى اللحظة التي وقفت فيها في مصلحة الجوازات لإستخرج جواز السفر ، لأجد أسطورة كراهية اليسار المصري وهو الضابط حسن المصيلحي ، الذي أشرف على اعتقال عدد كبير من كتاب ومحرري روز اليوسف. وما أن أستشهد المناضل شهدي عطية خلال التعذيب ونشر نعي وفاته بالأهرام ، حتى عاتب زعيم يوغسلافيا جوزيب بورس تيتو صديقه جمال عبد الناصر ، فأصدر عبد الناصر أمرا ببدء تخفيف القيود على معتقلي اليسار ، ونقل كل الضباط المسئولين عن متابعتهم ، وكان أولهم حسن المصيلحي الذي تم نقله إلى الجوازات . وأول ما قرأ وظيفتي كمحرر بروز اليوسف حتى قال بصوت عال « أكيد شيوعي ابن .. « فقلت له حاسب على كلامك » ، فقال : أخيرا بقى لكم صوت يا أولاد ال .. » ، فأخرجت له لساني وأنا أسحب جواز سفري من يده .
.................
ولم أتوقع أن تجري أحداث الحياة معي بتلك الصورة الغريبة ، فلم أكد أصل إلى باريس حتى قابلني مستشار بالسفارة المصرية ، قدم لي نفسه باسم محمد شاكر ، ليقول لي بما أنك صحفي من القاهرة فلماذا لاتحضر المؤتمر الصحفي للجنرل ديجول ؟ « . ولم أكن أحب ديجول ، لأني أعلم أن الساسة هم أهل كذب، خصوصا وأني قرأت عنه عبارة تقول « تحرر المغرب العربي من حكم فرنسا ، وسيعود إلى الهمجية ، تلك سمة العرب الأساسية « . وحين قلت ذلك للمستشار بالسفارة ، أجابني « لكن من المهم لعملك كصحفي أن تحصل على تصريح من أكبر رئيس دولة أوروبية تقف بالمرصاد لكل من الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ، فهو حالم بتوحيد أوروبا «. ووافقت على أن يرسلوا باسمي رجاء حضور المؤتمر الصحفي السنوي لديجول ، ومع سؤالي عن مستقبل العلاقات بين العرب وفرنسا » . ورغم فخامة قصر الأليزيه ، لم تخفت كراهيتي لديجول؛ فأنا كشاب في الرابعة والعشرين تحركني عواطفي أكثر مما تحركني أحلام المجد . وفوجئت بأن الجنرال أجاب على سؤالي كأول سؤال في مؤتمره الصحفي ، وأعلن أن فرنسا ستقف في جانب من لا يطلق الرصاصة الأولى إن قامت حرب بين العرب وإسرائيل . وفرحت السفارة بهذا الخبر ، وأعطاني السفير خبرا يؤكد فيه أن الجنرال ديجول أوقف تسليح إسرائيل ، فما كان مني إلا أن أرسلت الخبر إلى إحسان عبد القدوس الذي أعاد لي الخبر بالبريد العاجل على نفس الورقة التي كتبته عليها وملصق به قصاصة من جريدة الأهرام فيها قائمة بأسلحة فرنسية تم تسليمها إلى إسرائيل ، فما كان مني إلا أن دخلت السفارة ، وفتحت مكتب السفير عبد المنعم النجار دون استئذان ، لأعلن له أنه أعطاني خبرا كاذبا ، وسألته بجسارة « من عينك في هذا المنصب الرفيع ؟ « .أجابني « جمال عبد الناصر طبعا » قلت بقلة أدب واضحة « ظلمك ، فهذا الموقع أكبر منك كثيرا، فآخرك هو جرسون في جامع عمر مكرم » . وعلا صوته غضبا من وقاحة جراءتي التي لم أحسبها ، وراح يهددني بسحب جواز سفري ، فأعلنت له أني لا أخشى لا السفير ولا الغفير . ولم أكن أعلم أنى سأتسبب في أن يكتب عني تقريرا يمكن أن يرسلني وراء الشمس كما يقال . فضلا عن أنه دأب على مضايقة من كنت أرى مستقبلي في عينيها ، ولن أنسى كيف جمع المبعوثين ، وطلب منهم أن يبلغوا عن أي مبعوث لا يؤيد ثورة يوليو ، وكان في الصف الأول الدكتور إبراهيم صالح الذي وصل إلى منصب نائب رئيس محكمة النقض ، وكان مازال يدرس الدكتوراة ، وهو من وقف للسفير أمام المبعوثين ّ أرسلتنا مصر لنعود متعلمين ، لا أن نكون مخبرين « وترك الاجتماع خارجا ،و انسحب معه العديد من المبعوثين .
وحين أقترب موعد عودتي إلى القاهرة ، جاءني المستشار السياسي الذي طلب مني حضور مؤتمر ديجول ، ليقول لي أن السفير كتب في شخصي تقريرا كاذبا سوف يتسلمه «محمد زغلول كامل » وكيل لإدارة المخابرات ، وسألني هل تعرف أي مسئول سياسي في مصر « أجبته أني أعرف كيف أصل إلى عبد الناصر بذات نفسه » فضحك ليرجوني أن أهبط قليلا عن عبد الناصر ، فقلت له أعرف شعراوي جمعة محافظ السويس ، وانشرح وجه المستشار السياسي ليعلن لي « كان رئيسي كنائب مدير مخابرات قبل أن يترقي لمنصب محافظ السويس ، واسمي محمد شكري حافظ .. أنا ضابط المخابرات الذي يعمل بالسفارة هنا . وحين تنزل إلى القاهرة اتصل بشعراوي جمعة ليطلب لك ميعادا مع المسئول المباشر عني ، فقد كتب السفير عنك تقريرا سيئا وغير حقيقي ، وأرسلت أنا تقريرا آخر بمعلومات حقيقية عنك ».
تمنيت في الطائرة التي عادت بي إلى القاهرة أن تنفجر أو تشتعل أو يحدث لها أي حادث نهائي وبات . وما إن وضعت قدمي بأرض المطار حتى ذهبت من فوري إلى السويس لأروي لشعراوي جمعة كل ما حدث ، فقال لي أنه سيحدد لي موعدا مع زغلول كامل بشرط أن أحكي له كل شيء دون زيادة أو نقصان، فهو ليس شخصا سهلا. ودخلت مبنى المخابرات لأول مرة. وكنت غاية في التوتر ، وما إن دخل زغلول كامل وصافحته حتى سألته « لماذا تتصورون أنكم أسيادنا ؟ أنتم تعلمون أن ثورة يوليو بجلالة قدرها قامت لتضع من تصوروا أنهم سادتنا في المتحف ، فهل تبحثون عن متحف لتجلسون فيه؟ وكيف لسفير أن يهدد شابا بأنه سيذهب به وراء الشمس ؟ « كنت مندهشا من تحول خوفي إلى اندفاع لم أطلبه من نفسي . طالبني زغلول كامل بالهدوء واحتساء الليمون والقهوة ، وقال إنه قام بتقريع السفير كما يجب، خصوصا وأن من شهد لي هو محمد شكري حافظ الذي أكد أني كنت مشرفا لهذا البلد ، رغم ممارستي للسياسة بمنطق الحب والكراهية وهذا خطأ جوهري ، فضلا عن خطأ ثانوي آخر هو إعجابي الواضح في كتاباتي بآراء سارتر في ديجول كرجل يرقص على الحبال ، وأني أتناسي أن السياسة تحتاج من الزعماء الرقص على الحبال والأمواس أيضا « .
لم تمر سوى شهور حتى وجدت زغلول كامل يتصل بي ليخبرني أنه ترك المخابرات وصار يعمل بمكتب الرئيس عبد الناصر بذات نفسه .
فرحت له كثيرا. ولم يقطع التواصل معي طوال خمسين عاما . وكان يشهد لي بأني واحد لم يتغير أبدا في أفكاره الأساسية ، وإن كان النضج يلمس أيامي كلما كبرت .
ولم أعد أهتم منذ ذلك التاريخ بمن يتسمع على آرائي ، فليس لأحد عندي شيئا يمكن أن يؤاخذني عليه ، وليست لي أطماع في أي منصب أرقى من مكانة كاتب صحفي ، خصوصا وأن أحمد بهاء الدين تنبأ لي عام 1966 بقوله» لن تتولى في حياتك أي منصب قيادي في الصحافة لأنك لا تجيد الطاعة ، وتندفع لقول ما ينبت في رأسك من أفكار حتى ولو كانت مزعجة ؛ لذلك استمر في دراسة أحوال النفس البشرية ، فقلب القارئ يحتاج إلى فهم حقائق الغابة النفسية التي تتحكم في أيامه «.
أيقنت أن المباحث أو المخابرات أو أي عفريت ابن عم قرد لا يملك لأحد أي شيء ، لكن يقيني يهتز عندما اتذكر ذلك السفير لمصر بباريس وهو من رفضت استقباله إسبانيا كسفير لمصر بها ، ورفضه المغرب ايضا ، وقبله ديجول كيلا يحرج عبد الناصر . ولن أنسى قول شعراوي جمعة عنه « كان واحدا ممن حامت حولهم شبهات تسريبهم بما علموه عن تنظيم الضباط الأحرار للملك فاروق ، وهو واحد ممن أسرعوا إلى تنظيم الضباط الأحرار لإعلامهم أن الملك يعرف عنهم كثيرا من التفاصيل ، وأصر جمال عبد الناصر على عدم بقائه في مصر بعد قيام الثورة بأيام فارسله إلى الخارج. لأصطدم به بعد سنوات ، ومازلت أكرر لنفسي عندما أريد قول رأي مختلف عن السائد « هس لا تتكلم فأجهزة المباحث والمخابرات تسمعك « لكني أجدني مندفعا لقول رأيي . ولم يحدث لي طوال خمسة وخمسين عاما سوى شدة الأعصاب بعد قول اي رأي شديد الاختلاف مع السائد .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.