عبر تطبيق "نسك"، السعودية تبدأ اليوم إصدار تأشيرات العمرة للقادمين من الخارج    لن تُنهي الحرب، أمريكا تتحدى الغرب بعد فرض عقوبات على وزيرين إسرائيليين    6 منتخبات آسيوية تتنافس في الملحق لخطف بطاقتي التأهل للمونديال    في الجول يكشف قيمة صفقة انتقال العش إلى الأهلي بعد اتفاق الناديين على بند الشراء    فريق «هندسة القاهرة» الثالث عالميًا في «ماراثون شل البيئي» لعام 2025    محافظ الدقهلية يتحفظ على تروسيكل لأحد النباشين في جولة ليلية بالمنصورة    محافظ سوهاج يُتابع تنفيذ كوبري المشاة بمنطقة الثلاث كباري    ميتروفيتش يتألق بهاتريك ويقود صربيا لاكتساح أندورا في تصفيات المونديال    رومانو: صفقة قياسية.. ليفربول يوافق على طلبات ليفركوزن لضم فيرتز    السنغال تلحق بإنجلترا أول هزيمة أمام منتخب إفريقي في التاريخ    قائمة العين الإماراتي لمونديال الأندية 2025.. رامي ربيعة يتصدرها    رياضة ½ الليل| صفقات الزمالك الأجنبية.. رحيل الشحات "راحة".. والسيتي يضم شرقي    أسر الشهداء لوزير الداخلية: «كنتم السند في أطهر بقاع الأرض»    يحيى الفخراني عن فيلم عودة مواطن: نافس على جوائز عالمية وفشل في مصر (فيديو)    الصحة الواحدة.. رؤية شاملة تحولها من نظرية علمية إلى نمط حياة    مُخترق درع «الإيدز»: نجحت في كشف حيلة الفيروس الخبيثة    "يتحدث نيابة عن نفسه".. الخارجية الأمريكية ترفض تصريحات سفيرها لدى إسرائيل بشأن الدولة الفلسطينية    ارتفاع حصيلة ضحايا هجوم إطلاق النار بمدرسة بالنمسا إلى 11 قتيلًا    غدا.. 42 حزبا يجتمعون لتحديد مصيرهم بانتخابات 2025 (تفاصيل)    وزير الأوقاف يجتمع بمديري المديريات الإقليمية لمتابعة سير العمل    الموقف التنفيذي للمشروعات التنموية والخدمية بمدينة العاشر من رمضان    المرحلة الثانية من الأتوبيس الترددي BRT.. موعد التشغيل والمحطات    مقابل 92 مليون جنيه..أكت فاينانشال تزيد حصتها في بلتون القابضة إلى 4.64%    التعليم: عودة قوية لاختبار "SAT".. بمشاركة 100% دون شكاوى    إصابة شاب فلسطيني برصاص قوات خاصة إسرائيلية.. والاحتلال يقتحم عدة قرى وبلدات    ماسكيرانو يعلق على مواجهة الأهلي وإنتر ميامي في افتتاح كأس العالم للأندية    مندوب الجامعة العربية بالأمم المتحدة: لن نسمح بالتلاعب بمصير الشعب الفلسطيني    استعلام.. نتيجة الصف الخامس الابتدائي 2025 الترم الثاني برقم الجلوس بجميع المحافظات    تحرير 6 محاضر صحية في حملة رقابية ببني سويف    قبول دفعة ناجحين بالصف السادس الابتدائي للالتحاق بالمدارس الرياضية بالوادي الجديد    مرصد التعاون الإسلامي: الاحتلال يرتكب جرائم حرب بقصفه المستشفيات في غزة    "ليه وقفات نفتخر بيها".. ماذا قال يحيى الفخراني عن الزعيم عادل إمام؟    يحيى الفخراني عن اختياره شخصية العام الثقافية: شعرت باطمئنان بوجودي على الساحة    يحللون كل شيء.. 3 أبراج يفكرون في الأمور كثيرًا    فن إدارة الوقت بأنامل مصرية.. ندوة ومعرض فني بمكتبة القاهرة الكبرى تحت رعاية وزير الثقافة    يحيى الفخراني: مفاجآت بالجملة في العرض الثالث ل"الملك لير"    شيرين رضا تحتفل بعيد ميلاد ابنتها نور    أبرزهم أسماء جلال وتارا عماد.. 20 صورة لنجمات الفن في حفل زفاف أمينة خليل    "الأوقاف" تعلن أسماء الفائزين في مسابقة الصوت الندي 2025    "يمثل نفسه".. الخارجية الأمريكية تتبرأ من تصريحات سفيرها في تل أبيب    الحوثيون: نحذر كافة الشركات والجهات المختلفة من التعامل مع ميناء حيفا    أستاذ اقتصاديات الصحة: نسبة تحور "كورونا" ارتفعت عالميًا إلى 10%    دهون الكبد، الأعراض والتشخيص وطرق العلاج والوقاية    رئيس الوزراء يطالب بتكثيف الجهود للقضاء على مرض الجذام    أسر الشهداء يشكرون وزارة الداخلية ومدير إدارة العلاقات الإنسانية على رعايتهم طوال موسم الحج (صور)    القبض على لص «النقل الذكى»    في أول اختبار رسمي.. انطلاقة ناجحة لاختبارات SAT في مصر مشاركة 100% للطلاب دون أي مشكلات تقنية    أمين " البحوث الإسلامية " يتفقَّد إدارات المجمع ويشدد على أهميَّة العمل الجماعي وتطوير الأداء    خبيرة أسواق الطاقة: خطة حكومية لضمان استقرار السياسات الضريبية على المدى الطويل    لطلاب الثانوية العامة.. مراجعات نهائية مجانية لكل المواد تبدأ فى سوهاج غدا    «ملحقش يلبس بدلة الفرح».. كيف أنهى عريس الغربية حياته قبل زفافه ب48 ساعة؟    زواج عريس متلازمة داون بفتاة يُثير غضب رواد التواصل الاجتماعي.. و"الإفتاء": عقد القران صحيح (فيديو)    الجريدة الرسمية تنشر قانون تنظيم إصدار الفتوى الشرعية    التقويم الهجري.. سبب التسمية وموعد اعتماده    الإجازات الرسمية المقبلة في 2025.. إليك القائمة الكاملة    وثائق بريطانية: إثيوبيا رفضت التفاوض مع نظام مبارك بشأن مياه النيل    حكم توزيع لحوم الأضاحي بعد العيد وأيام التشريق؟.. أمين الفتوى يوضح    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 10-6-2025 في محافظة قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هس لا تتكلم.. فمخابرات العالم تسمعك
نشر في الأهرام اليومي يوم 10 - 07 - 2014

كل يوم تستطف أيام عمري أمامي، ليصبح كل يوم هو بناء يجاور آخر ، ولكل بناء مفتاح ، ما إن أديره حتى تخرج الساعات تروي ما جرى. ,وإذا قيل لي أن هناك من يسمع كل كلمة أتحدث بها ، وينصحني بالصمت فأنا أضحك من إندفاع يحكي كل ما دار في العمر ، ويستكشف ما سوف يدور في المستقبل، و عندما يمارس البعض تجاه البعض الآخر دور الجاسوس الراغب في معرفة ما في تلافيف القلب،
فأنا لا أنسى فرحتي عندما تم اكتشاف جهاز الموجات الصوتية التي تتجسس على بطن زوجتي ليخبرني أن ابني القادم هو ولد ، وكدت أرقص قيل لي ان الجنين الثاني هو بنت ، وإنزعجت حين قال الطبيب قبل ميلاد ابني الثالث أنه لن يخرج إلا بعملية قيصرية ، وهكذا صار « التجسس « وعمل المخابرات والمباحث هو من وظائف الأطباء أيضا ، ألم يقولوا لي منذ أربع سنوات أن ثلاثة من شراين قلبي صارت شبه مسدودة وتحتاج إلى دعامات ، وعرفوا ذلك بجهاز حديث شديد التجسس على أحوال القلب ؟
لكن التجسس على أحوال الصحة يختلف عن التجسس على أحوال الحياة في المجتمع ، وها أنا ذا أرى ساعات عمري تندلق أمام ذاكرتي فأرى في يوم قديم صورة أول مخبرة تنقل الأخبار إلى السلطة ، وهي الفراشة «صبحية «المسئولة عن نظافة الدور الثاني حيث يوجد فصلي بمدرسة نبوية موسى ، وهي من تسللت إلى مكتب مالكة المدرسة نبوية موسى لتخبرها بأن هناك طفلا في الروضة، يلعب مع زميلة له لعبة عروسة وعريس أثناء فسحة الغداء التي تستمر ساعة كاملة ، ففاجأتني نبوية موسى مع زميلتي بنت الطبيب الخاص بأسرتي ونحن نلعب لعبة الدكتورة والمريض ، فكانت النتيجة هي فصلي مع زميلتي من الروضة ، ليحار أبي بحثا عن مدرسة إبتدائية تقبلني .
ويأتي عام 1949 لأجد نفسي تلميذا في مدرسة محرم بك الخاصة والتي أسسها والد الدكتور عصمت عبد المجيد، وهو فهمي بك عبد المجيد وأرادها مدرسة بديلة لكلية فيكتوريا وسان مارك ، وليلتحق بها أبناء الطبقة المتوسطة العليا، فأعاني من أني أفقر تلميذ فيها ، و لذلك كانت فرحتي لا نظير لها بقرار طه حسين باشا تأميم التعليم لأن أعدادا كبيرة من الفقراء دخلوا المدرسة وكنت بالنسبة إليهم قريبا منهم ولكني لست منهم ، كما أني كنت قريبا من التلاميذ الأثرياء ولست منهم أيضا . وحين قام الملك فاروق بتطليق الملكة فريدة ، خرج من بيننا من يهتف في طابور الصباح « يسقط الملك الفاسد « ، وهو زميلنا محمد قناوي الذي اكتشفنا بعد ذلك بسنوات إنضمامه لحزب شيوعي ، وبطبيعة الحال ، لو أن أحدا سأل أي طالب بمدرسة محرم بك الخاصة عن معنى كلمة شيوعية ، لأجاب « لابد أنها صنف طعام يمت بصلة قرابة للملوخية أو الطعمية أو المهلبية أو أي شيء من هذا القبيل ، فمن ذا الذي يوجد في مدرسة إبتدائية وثانوية يعرف معنى الشيوعية ، المهم أن ناظر المدرسة وقف امام باب الخروج ليصرخ فينا « أخبرني واحد منكم أنكم قمتم بالإضراب حتى تدخلوا سينما بلازا لتشاهدوا فيلم أفاجاردنر ، وسأرسل إلى آبائكم خطابات بعلم وصول لأخبره بأنكم تفسدون حياتكم بتلك الإضرابات « . ورغم أني لم أذهب لفيلم آفا جاردنر إلا أني إكتشفت أن للناظر عيونا وآذانا تتلصص علينا نحن طلبة المدرسة .
ولم يكن هناك مفر من أن ننظر جميعا إلى زميلنا شريف لبيب ابن حكمدار الإسكندرية ، لنسأله « هل وضع أبوك جواسيس علينا لتخبر الناظر بما نفكر فيه ؟ « ومازالت ابتسامة شريف لبيب عالقة في ذاكرتي ، وهو يقول لنا « من أنتم حتى يتجسس أبي عليكم ؟ أبي يتابع الأحزاب القوية ، كالأحزاب الشيوعية أو الإخوان المسلمين «. وإعتبر محمد الزلباني مندوب الإخوان المسلمين بالمدرسة أن شريف لبيب قدم له شهادة فخر بأن تنظيم الإخوان هو القوى ، وأخبرنا أن الملك اتفق مع النحاس باشا على الإفراج عن الإخوان المسلمين الذين اعتقلهم إبراهيم باشا عبد الهادي بعد مقتل رئيس وزراء مصر محمود فهمي النقراشي ، وأضاف أن شعبة الإخوان بشارع الإسكندراني ستستقبل محمد مالك و هو من كان مكلفا باغتيال الملك فاروق عند زيارته للمعرض الزراعي الصناعي الأول عام 1949، ولا أنسى أني قلت للأستاذ حنفي مدرس اللغة العربية الذي كان ضابطا احتياطيا بحرب فلسطين ، « كنت أتمنى أن يقوم أحد ضباط الجيش بحكاية اغتيال الملك بدلا من محمد مالك « فنهرني الرجل وأوصى زميله الأستاذ شوقي عبد الناصر أن يخبر أبي بضرورة أن أصمت ولا أتحدث في مثل تلك الأمور ، وكان الأستاذ حنفي يعلم بصداقة أبي مع شوقي عبد الناصر ، فنحن جيران حي واحد ، ولم نكن في ذلك الوقت نعلم أن شوقي عبد الناصر هو شقيق جمال عبد الناصر ، ومازلت أذكر كلمات الأستاذ شوقي لي « لن أخبر والدك بما أخبرني به حنفي أفندي ، لأن قتل الملك لا يخلص مصر من كل أوجاعها ، فالمطلوب أكبر من ذلك» . وفي عصر ذلك النهار ترددت كثيرا في الذهاب إلى شعبة الإخوان المسلمين ، خوفا من أن يلحقوا بي ما فشلوا فيه من قبل ، حيث سبق لي الذهاب إلى الشعبة لحضور إجتماع أسرة كونها محمد الزلباني ، وكان هناك شخص أكبر منا سنا يحدثنا عن قيمة جماعة الإخوان ، ولما وجدني سارحا بعيدا عن الاستماع ، سألني « فيماذا تفكر ؟ « اجبته « أفكر في إيجاد حل لمشكلة نضج الشاب وقدرته على الإنجاب ، مع إستحالة زواجه أثناء التعليم ، فضحك الأكبر منا , قال « إصبر . فهي فركة كعب وستتخرج من المدرسة الثانوية ، ثم الجامعة لتتزوج « قلت « وهل سأظل طوال السنوات معذبا بصور البنات اللاتي يحتضن حقائبهن إلى الصدور البارزة ؟ « . وهنا جاء محمد الزلباني ليهمس لأذني بضرورة مغادرة الشعبة، كيلا يكلف أحدهم مجموعة من شعبة الملاكمة بتلقيني درسا صعبا ، فأسرعت بمغادرة المكان.
لكن رغبتي في رؤية محمد مالك دفعتني للذهاب ، فهو من نشرت أخبار اليوم صورته وأن من يقبض عليه سوف ينال ألف جنيه مكافأة ، وقد قبض عليه محمد لبيب حكمدار الإسكندرية والد زميلنا شريف ، وعلمت أن والده اشترى له دراجة « رالي « لها ناقل حركة لثلاث سرعات « فيتيس «، وعندما سألت شريف « هل اشترى لك والدك الدراجة من مكافأة القبض على محمد مالك ؟ « قال « نحن نستطيع شراء دراجات البلد كلها دون حاجة لمكافأة الملك « . وفي شعبة الإخوان المسلمين رأيت محمد مالك لأجده شابا طويلا عريضا، قريب الشبه جدا من رشدي أباظة ، لكن شعره أشقر ، وسألته « كيف علموا بحكاية استهدافك للملك ؟ « قال لي « الجواسيس منتشروين حتى داخل الإخوان المسلمين « . وكان القول فاجعا لمن يدعون أنهم أطهر مخلوقات الأرض . وحمدت الله على عدم وجود من سبق وسألته قبل ذلك عن حق الارتواء العاطفي لمن وصل إلى سن البلوغ .
وما أن قامت ثورة يوليو حتى فرحنا طلبة مدرسة محرم بك لأن جمال عبد الناصر له شقيقان يعملان بمدرستنا ، الليثي عبد الناصر مدرس الجغرافيا وشوقي عبد الناصر مدرس اللغة الإنجليزية ، وبقدر ما كان شوقي قريبا من قلوبنا جميعا ، بقدر ما كان الليثي بعيدا ، فهو كثير الشخط ، سريع الزهق من أي سؤال لا يرغب الإجابة عليه ، ولذلك التف الطلبة حول شوقي عبد الناصر الذي قال لنا إن الثورة تؤسس منظمة للشباب وأن من يرأسها سيأتي لزيارتنا ، وهو « الصاغ وحيد رمضان « . وحين عرض شوقي عبد الناصر على شخصي الإنضمام للمنظمة قلت له « أنا لا أحب الإنضمام لأي تنظيمات منذ ما حدث في شعبة الإخوان المسلمين « ورويت له ما حدث . ضحك كثيرا ليقول « أنت إبن ثورة يوليو.. شئت أم أبيت «. وجاء وحيد رمضان ليعلن لنا « أعداء الثورة أربعة .. إمعة .. أو صاحب منفعة .. أو موتور .. أو مأجور « . ومن الغريب أنه بعد أشهر من هذا الإعلان كان وحيد رمضان هو صاحب المنفعة الضائعة ، فقد كان يحلم بكرسي الوزارة ، وكان موتورا من أفضلية بعض من ضباط الثورة عليه ، وصار مأجورا لحقده الشخصي ضد عبد الناصر ، ليقضي شهورا رهن الإعتقال ، ثم يرسل إلى إحدى الدول الشرقية دبلوماسيا ولم يهبط أرض مصر إلا بعد رحيل جمال عبد الناصر . وفي أول حديث له بعد العودة قال إنه كان يتحسس كلماته لأن الحوائط في كل ركن كان يذهب إليه كانت له آذان متعددة .
.................
في الجامعة وفي مبنى كلية الآداب الذي صار الآن مقرا لإدارة جامعة الإسكندرية ، دخل الأستاذ الدكتور نجيب بلدي أستاذ الفلسفة الحديثة ، ليعلن لنا في نوفمبر 1958 أن برقية وصلت إلى العميد بعدم تدريس الفلسفة الحديثة بالكلية ، لأنها فلسفة ملحدة سواء أكانت ماركسية أو وجودية ، وقال « حين كنت أقوم بإعداد الطعام مع صديقي جان بول سارتر وحبيبته سيمون دي بوفوار ، قال سارتر لي : لماذا تعود إلى مصر ؟ إن مكانك عندنا ، فليس هناك من يقوم بتدريس الفلسفة الحديثة مثلك . فرددت عليه : إن طه حسين حين أرسلني للبعثة أوصاني بضرورة العودة، فلا مهرب من أن نزرع أفكار العصر الحديث في وجدان الشباب . ولذلك أنا سأطلب منكم طلبة السنة الأولى أن تختاروا ثلاثة منكم ليزوروني في بيتي ، وسأطلب نفس الطلب من طلبة السنوات الثلاث الأخرى ، وبذلك يكون عندي إثنا عشر تلميذا ، ولا أعرف هل سيكون أحدهم هو يهوذا أم لا .. يهوذا الذي خان المسيح ، فهل سيوجد من يبلغ عني سعد عقل ضابط المباحث العامة عما سأدرسه لكم أم لا .. أنا لا يهمني يهوذا ، لكن ليعلم من سأختارهم أن هناك دينا عليهم سداده ، فمن يتعلم ما أحكيه عن الفلسفة الحديثة ، عليه أن ينقل ما تعلم لزملائه .
وفوجئت بأن د. نجيب بلدي قد إختارني ضمن من سيلقي عليهم دروس الفلسفة في منزله الفخم والبسيط والمطل على البحر . ولم أفاجأ بإستدعاء ضابط المباحث الأشهر بالإسكندرية سعد عقل لي ليسألني عما يدور في تلك الدروس ، فقلت « يمكنك أن تسأل ولي أمري شوقي عبد الناصر ، وسيحكي لك عما أدرسه مع زملائي في منزل د. نجيب بلدي أما أن تطلب مني أن أحكي لك أنا فدعني أقول لك إنه علم لن ينفعك » . أيقن سعد عقل أنه لن يستطيع تجنيدي كعنصر يأتي له بأية معلومات ، ليفاجئني في اليوم الأول من عام 1959 باستدعائي لأني قابلت الراحل عبد الستار الطويلة الصحفي بروز اليوسف ، وكان يبحث عن وسيلة للهرب خارج مصر إلى أن تم اعتقاله ؛ فهو واحد من الشيوعون ومطلوب للاعتقال » . وتعجبت عندما استدعاني سعد عقل ضابط المباحث ليسألني عن سبب مقابلة عبد الستار في شارع صفية زغلول ، فأخبرته بأن سبب المقابلة يعلمه ولي أمري الأستاذ شوقي عبد الناصر شقيق جمال عبد الناصر ، ويمكنه أن يخبرك ». وكانت إجابتي مزعجة له ، ودفعه غيظه منى إلى ارتكاب حماقة جعلتني أتنفس بصعوبة ، فقد استدعى من قررت أن أهبها عمري وبادلتني نفس القرار ، ليحذرها مني ، فأنا بالنسبة لأي بنت شاب بلا مستقبل .. ألمس السياسة في مناطقها الصاعقة ، فلم تأبه الحبيبة له .
تمر أربعة أعوام وتسافر الحبيبة إلى باريس لتدرس ؛ فإنخلع قلبي أنا الذي تم تعييني في روز اليوسف بسبعة عشر جنيها ، لكن والدها قال « لا يمكن ان أزوج ابنتي لصحفي يزامل الفنانين والفنانات وإن إتجه إلى السياسة فمصيره السجن « ولم تخفت شمعة الحب أبدا . فقررت السفر إلى باريس مهما كلفني ذلك ، ولن انسى اللحظة التي وقفت فيها في مصلحة الجوازات لإستخرج جواز السفر ، لأجد أسطورة كراهية اليسار المصري وهو الضابط حسن المصيلحي ، الذي أشرف على اعتقال عدد كبير من كتاب ومحرري روز اليوسف. وما أن أستشهد المناضل شهدي عطية خلال التعذيب ونشر نعي وفاته بالأهرام ، حتى عاتب زعيم يوغسلافيا جوزيب بورس تيتو صديقه جمال عبد الناصر ، فأصدر عبد الناصر أمرا ببدء تخفيف القيود على معتقلي اليسار ، ونقل كل الضباط المسئولين عن متابعتهم ، وكان أولهم حسن المصيلحي الذي تم نقله إلى الجوازات . وأول ما قرأ وظيفتي كمحرر بروز اليوسف حتى قال بصوت عال « أكيد شيوعي ابن .. « فقلت له حاسب على كلامك » ، فقال : أخيرا بقى لكم صوت يا أولاد ال .. » ، فأخرجت له لساني وأنا أسحب جواز سفري من يده .
.................
ولم أتوقع أن تجري أحداث الحياة معي بتلك الصورة الغريبة ، فلم أكد أصل إلى باريس حتى قابلني مستشار بالسفارة المصرية ، قدم لي نفسه باسم محمد شاكر ، ليقول لي بما أنك صحفي من القاهرة فلماذا لاتحضر المؤتمر الصحفي للجنرل ديجول ؟ « . ولم أكن أحب ديجول ، لأني أعلم أن الساسة هم أهل كذب، خصوصا وأني قرأت عنه عبارة تقول « تحرر المغرب العربي من حكم فرنسا ، وسيعود إلى الهمجية ، تلك سمة العرب الأساسية « . وحين قلت ذلك للمستشار بالسفارة ، أجابني « لكن من المهم لعملك كصحفي أن تحصل على تصريح من أكبر رئيس دولة أوروبية تقف بالمرصاد لكل من الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة ، فهو حالم بتوحيد أوروبا «. ووافقت على أن يرسلوا باسمي رجاء حضور المؤتمر الصحفي السنوي لديجول ، ومع سؤالي عن مستقبل العلاقات بين العرب وفرنسا » . ورغم فخامة قصر الأليزيه ، لم تخفت كراهيتي لديجول؛ فأنا كشاب في الرابعة والعشرين تحركني عواطفي أكثر مما تحركني أحلام المجد . وفوجئت بأن الجنرال أجاب على سؤالي كأول سؤال في مؤتمره الصحفي ، وأعلن أن فرنسا ستقف في جانب من لا يطلق الرصاصة الأولى إن قامت حرب بين العرب وإسرائيل . وفرحت السفارة بهذا الخبر ، وأعطاني السفير خبرا يؤكد فيه أن الجنرال ديجول أوقف تسليح إسرائيل ، فما كان مني إلا أن أرسلت الخبر إلى إحسان عبد القدوس الذي أعاد لي الخبر بالبريد العاجل على نفس الورقة التي كتبته عليها وملصق به قصاصة من جريدة الأهرام فيها قائمة بأسلحة فرنسية تم تسليمها إلى إسرائيل ، فما كان مني إلا أن دخلت السفارة ، وفتحت مكتب السفير عبد المنعم النجار دون استئذان ، لأعلن له أنه أعطاني خبرا كاذبا ، وسألته بجسارة « من عينك في هذا المنصب الرفيع ؟ « .أجابني « جمال عبد الناصر طبعا » قلت بقلة أدب واضحة « ظلمك ، فهذا الموقع أكبر منك كثيرا، فآخرك هو جرسون في جامع عمر مكرم » . وعلا صوته غضبا من وقاحة جراءتي التي لم أحسبها ، وراح يهددني بسحب جواز سفري ، فأعلنت له أني لا أخشى لا السفير ولا الغفير . ولم أكن أعلم أنى سأتسبب في أن يكتب عني تقريرا يمكن أن يرسلني وراء الشمس كما يقال . فضلا عن أنه دأب على مضايقة من كنت أرى مستقبلي في عينيها ، ولن أنسى كيف جمع المبعوثين ، وطلب منهم أن يبلغوا عن أي مبعوث لا يؤيد ثورة يوليو ، وكان في الصف الأول الدكتور إبراهيم صالح الذي وصل إلى منصب نائب رئيس محكمة النقض ، وكان مازال يدرس الدكتوراة ، وهو من وقف للسفير أمام المبعوثين ّ أرسلتنا مصر لنعود متعلمين ، لا أن نكون مخبرين « وترك الاجتماع خارجا ،و انسحب معه العديد من المبعوثين .
وحين أقترب موعد عودتي إلى القاهرة ، جاءني المستشار السياسي الذي طلب مني حضور مؤتمر ديجول ، ليقول لي أن السفير كتب في شخصي تقريرا كاذبا سوف يتسلمه «محمد زغلول كامل » وكيل لإدارة المخابرات ، وسألني هل تعرف أي مسئول سياسي في مصر « أجبته أني أعرف كيف أصل إلى عبد الناصر بذات نفسه » فضحك ليرجوني أن أهبط قليلا عن عبد الناصر ، فقلت له أعرف شعراوي جمعة محافظ السويس ، وانشرح وجه المستشار السياسي ليعلن لي « كان رئيسي كنائب مدير مخابرات قبل أن يترقي لمنصب محافظ السويس ، واسمي محمد شكري حافظ .. أنا ضابط المخابرات الذي يعمل بالسفارة هنا . وحين تنزل إلى القاهرة اتصل بشعراوي جمعة ليطلب لك ميعادا مع المسئول المباشر عني ، فقد كتب السفير عنك تقريرا سيئا وغير حقيقي ، وأرسلت أنا تقريرا آخر بمعلومات حقيقية عنك ».
تمنيت في الطائرة التي عادت بي إلى القاهرة أن تنفجر أو تشتعل أو يحدث لها أي حادث نهائي وبات . وما إن وضعت قدمي بأرض المطار حتى ذهبت من فوري إلى السويس لأروي لشعراوي جمعة كل ما حدث ، فقال لي أنه سيحدد لي موعدا مع زغلول كامل بشرط أن أحكي له كل شيء دون زيادة أو نقصان، فهو ليس شخصا سهلا. ودخلت مبنى المخابرات لأول مرة. وكنت غاية في التوتر ، وما إن دخل زغلول كامل وصافحته حتى سألته « لماذا تتصورون أنكم أسيادنا ؟ أنتم تعلمون أن ثورة يوليو بجلالة قدرها قامت لتضع من تصوروا أنهم سادتنا في المتحف ، فهل تبحثون عن متحف لتجلسون فيه؟ وكيف لسفير أن يهدد شابا بأنه سيذهب به وراء الشمس ؟ « كنت مندهشا من تحول خوفي إلى اندفاع لم أطلبه من نفسي . طالبني زغلول كامل بالهدوء واحتساء الليمون والقهوة ، وقال إنه قام بتقريع السفير كما يجب، خصوصا وأن من شهد لي هو محمد شكري حافظ الذي أكد أني كنت مشرفا لهذا البلد ، رغم ممارستي للسياسة بمنطق الحب والكراهية وهذا خطأ جوهري ، فضلا عن خطأ ثانوي آخر هو إعجابي الواضح في كتاباتي بآراء سارتر في ديجول كرجل يرقص على الحبال ، وأني أتناسي أن السياسة تحتاج من الزعماء الرقص على الحبال والأمواس أيضا « .
لم تمر سوى شهور حتى وجدت زغلول كامل يتصل بي ليخبرني أنه ترك المخابرات وصار يعمل بمكتب الرئيس عبد الناصر بذات نفسه .
فرحت له كثيرا. ولم يقطع التواصل معي طوال خمسين عاما . وكان يشهد لي بأني واحد لم يتغير أبدا في أفكاره الأساسية ، وإن كان النضج يلمس أيامي كلما كبرت .
ولم أعد أهتم منذ ذلك التاريخ بمن يتسمع على آرائي ، فليس لأحد عندي شيئا يمكن أن يؤاخذني عليه ، وليست لي أطماع في أي منصب أرقى من مكانة كاتب صحفي ، خصوصا وأن أحمد بهاء الدين تنبأ لي عام 1966 بقوله» لن تتولى في حياتك أي منصب قيادي في الصحافة لأنك لا تجيد الطاعة ، وتندفع لقول ما ينبت في رأسك من أفكار حتى ولو كانت مزعجة ؛ لذلك استمر في دراسة أحوال النفس البشرية ، فقلب القارئ يحتاج إلى فهم حقائق الغابة النفسية التي تتحكم في أيامه «.
أيقنت أن المباحث أو المخابرات أو أي عفريت ابن عم قرد لا يملك لأحد أي شيء ، لكن يقيني يهتز عندما اتذكر ذلك السفير لمصر بباريس وهو من رفضت استقباله إسبانيا كسفير لمصر بها ، ورفضه المغرب ايضا ، وقبله ديجول كيلا يحرج عبد الناصر . ولن أنسى قول شعراوي جمعة عنه « كان واحدا ممن حامت حولهم شبهات تسريبهم بما علموه عن تنظيم الضباط الأحرار للملك فاروق ، وهو واحد ممن أسرعوا إلى تنظيم الضباط الأحرار لإعلامهم أن الملك يعرف عنهم كثيرا من التفاصيل ، وأصر جمال عبد الناصر على عدم بقائه في مصر بعد قيام الثورة بأيام فارسله إلى الخارج. لأصطدم به بعد سنوات ، ومازلت أكرر لنفسي عندما أريد قول رأي مختلف عن السائد « هس لا تتكلم فأجهزة المباحث والمخابرات تسمعك « لكني أجدني مندفعا لقول رأيي . ولم يحدث لي طوال خمسة وخمسين عاما سوى شدة الأعصاب بعد قول اي رأي شديد الاختلاف مع السائد .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.