أشرف جمعة شاب فى منتصف العشرينيات من العمر، توقف بعربته أمام أحد أكشاك الفاكهة ومد يده بجنيهين طالباً «موزتين».. نظر له صاحب الكشك باستغراب ومد يده بموزة واحدة رافضاً أن يأخذ ثمنها، رد أشرف بغضب «يا حاج أنا معايا فلوس.. ونفسى فى موزتين أتسلى فيهم فى طريقى للشغل.. مش معقول أشترى كيلو أو نصف وأرمى الباقي». أشرف مجرد نموذج للعديد من الأمثلة التى تعانى من ثقافة الاستهلاك السائدة فى السوق المصرية، الأجانب يصيبهم الذهول من طريقة بيع الفاكهة واللحوم وغيرها من المنتجات فى مصر، فرغم ارتفاع مستوى معيشتهم فى بلادهم إلا أنهم اعتادوا أن يشتروا بقدر حاجتهم، ومن غير المفهوم بالنسبة لهم أن يشتروا شيئاً لا يحتاجونه أو يكون عرضة للفساد، فهذا بالنسبة لهم إهدار غير مبرر للأموال وأيضاً للسلع. الأستاذ حسن هيكل أمين عام جمعية »مواطنون ضد الغلاء« يقول «العادات الاجتماعية السائدة فى المجتمع المصرى تشجع على الاستهلاك والمنظرة عند الشراء وغالباً ما يكون مصير جزء كبير من المشتريات صناديق القمامة». ويقول «المواطن المصرى اعتاد الشراء بالكيلو ولكى نغير من هذه العادة لابد من أن نوفر له العرض بالقطعة، وهنا يأتى دور وزارتى التموين والزراعة اللتين تأخرتا بالفعل فى تقديم العرض بالقطعة فى منافذهما وفى المجمعات الاستهلاكية، رغم الدور الإيجابى للفكرة فى ضبط السوق وتلبية احتياجات الغلابة الذين تستهدفهم السياسة العامة للدولة». ليست بدعة ويطالب أمين الجمعية بإتاحة الفاكهة واللحوم مغلفة بالقطعة وعليها التسعيرة، كما هو الحال فى الدول المتقدمة، فالفكرة تطبيقها بسيط ولا تحتاج للكثير من المجهود، كما أنها ليست بدعة فأى مواطن سافر للخارج يدرك أن الفكرة مطبقة فى معظم دول العالم فهى لا ترتبط بمستوى دخل الفرد ولكنها ترتبط باحتياجاته التى ينبغى أن تقوم السوق على تلبيتها دون إرغامه على شراء ما يزيد على حاجته، فهذا نوع من البلطجة السوقية. ثقافة القوالب ويضرب هيكل المثل بثقافة بيع قوالب الجبنة التى انتشرت حالياً فى الأسواق، فإذا طلبت ربع كيلو مثلاً، يلتقط البائع قالباً ويضعه على الميزان ثم يقوم بتغليفه قائلاً «350 جراما يا بيه»، وإذا حاولت أن تجادله موضحاً أنك تريد ربع كيلو أى 250 جراما فقط، ينظر إليك باحتقار ويرد «هو ده اللى موجود». ويلقى أمين الجمعية باللوم على غياب ثقافة ترشيد الاستهلاك فى المجتمع المصرى سواء فى مراحل التعليم المختلفة، أو داخل المنزل، داعياً إلى تنظيم برامج لضبط السوق وترشيد الاستهلاك، والبدء بمحاصيل الفاكهة منذ مرحلة الجني، فلابد من فرز الثمار، والقضاء على فكرة التعبئة العشوائية فى «الأقفاص والأشولة» التى تزيد من نسبة الفاقد والتلف فى المحصول. ترحيب حكومي الأهرام عرضت فكرة البيع بالقطعة على الدكتور خالد حنفى وزير التموين والتجارة الداخلية الذى رحب بها، ووعد بدراستها وتطبيقها فى منافذ البيع بالوزارة عقب انتهاء شهر رمضان. وزير التموين قال «البيع بالقطعة له العديد من المميزات فهو يصب فى صالح المواطن البسيط، الذى سيتمكن من شراء السلع غالية الثمن دون الخوف من إهدارها، كما أنه يساعد فى نشر ثقافة الاستهلاك على قدر الحاجة وهى الثقافة السائدة فى المجتمعات المتقدمة التى تحترم احتياجات مواطنيها وتتجاوب معها». الوزير أكد أن فكرة البيع بالقطعة عند تعميمها ستصب فى صالح الاقتصاد ومحدودى الدخل معاً، فهى تساعد على تنشيط السوق، كما أنها تقلل من الفاقد أو التالف فى السلع المعروضة، وأيضاً فى المخزون المنزلى فى الأسر محدودة العدد، أو لدى الشباب المغترب. لا داعى للحرج الدكتور محمد منصور أستاذ الاقتصاد الزراعى بجامعة الأزهر أشاد بفكرة البيع بالقطعة، مشيراً إلى أنها تكاد تكون مطبقة فى المولات الكبيرة التى يمكن فيها شراء نصف كيلو فاكهة دون أن يشعر المشترى بأنه «يقل من قيمته»! يقول أستاذ الاقتصاد الزراعى «الفكرة إيجابية ولكنها تحتاج لتشجيعها، عن طريق توجيه المواطن للاستهلاك على قدر حاجته وليس إمكاناته، فلا يعنى شراء المواطن نصف كيلو من الفاكهة أنه غير قادر على شراء أضعاف هذه الكمية، ولكنه يعكس نوعاً من الرشد فى طريقة إنفاق الأموال وعدم إهدارها دون داع». ويوضح منصور أن «ثقافة السوق المصرية مبنية على واقع اجتماعى معين، والمناخ العام للشراء يشجع على ثقافة (الكيلو) التى تتلاءم مع الاحتياجات الأسرية». مستوى التعليم ويضيف أستاذ الاقتصاد الزراعى «تتلاءم ثقافة البيع بالقطعة مع الأسرة محدودة العدد ذات المستوى التعليمى المرتفع التى لا ترى غضاضة فى الشراء بالقطعة ما يتناسب فقط مع احتياجاتها دون خجل، فهى تتعامل بشكل أكثر واقعية وتقوم بالتصرف الذى تراه صائباً ولا تأبه كثيراً لآراء الآخرين». تقول راندا نصار مديرة شركة كبرى للعلاقات العامة، وتسافر كثيراً للعديد من الدول الأوروبية « اعتدت فى باريس على شراء الفاكهة بالقطعة وهو أسلوب شراء عملى للغاية، وغالباً ما اشترى قطعتين من كل نوع وأصنع طبقاً منوعاً يكفى استهلاكى اليومى دون فائض». الميل للفشخرة وتقول «ثقافة المصريين تميل إلى الفشخرة عند الشراء، ومعظمهم يرى أنه كلما زاد حجم المشتريات وقيمتها كان ذلك نوعاً من الوجاهة، لا يهم إذا كان سيتم التخلص من معظم الأطعمة سواء بعد تلفها، أو حتى بتوزيعها على البواب والعمال، فالمهم فقط الحفاظ على الشكل الاجتماعي، وهو مفهوم خاطيء تماماً وغير موجود فى الدول المتقدمة». وتضيف راندا «لم أجد فى القاهرة عند عودتى من الخارج سوى محل واحد فقط فى الزمالك يقوم بالبيع بالقطعة، ومعظم زبائنه من الأجانب الذين اعتادوا تلك الطريقة فى الشراء ببلدانهم، سواء للحوم أو الفاكهة، وأتمنى أن أجد العديد من المحال التى تنتهج نفس الطريقة فى البيع بجميع أحياء القاهرة وأيضاً المحافظات».