بين دخله المتدني.. وانفاقه الذي يصل أحيانا الي حد الاسراف, يبقي المواطن المصري لغزا يستعصي علي الحل او الفهم.. ففي الوقت الذي تعددت في الاضرابات وتعالت الأصوات المطالبة بزيادة دخول المصريين الي ما يكفل لهم الحد الأدني من الحياة الكريمة يشير أحدث تقرير صادر عن مركز البحوث الاجتماعية والجنائية الي أن شركات المحمول تكسب35 مليار جنيه سنويا يدفعها55 مليون مواطن, كما يقول إن قمامة المصريين هي الأغلي في العالم حيث أن60% منها مخلفات صالحة للاستهلاك. ثم يعود التقرير ويقول إن52,7% من المصريين يعيشون علي خط الفقر, و19,6% منهم تحت خط الفقر. خلاصة الأمر أن المواطن المصري يعيش في حالة فصام بين دخله واستهلاكه فرغم تدني الرواتب والأجور للسواد الأعظم نجده يعشق الاسراف ويشجع علي تخزين السلع ويرفض ثقافة المقاطعة. وهو ما تجلي بوضوح في أزمة اللحوم الأخيرة فرغم تعدد دعوات المقاطعة إلا أن أحدا لم يستجب وكانت النتيجة أن سعر الكيلو ارتفع الي55 جنيها في المناطق الشعبية ووصل الي80 جنيها في الأحياء الراقية بسبب كثافة الاقبال علي الشراء. نفس الأمر حدث من قبل في أزمة البوتاجاز مما رفع سعر الاسطوانة من ثلاثة جنيهات الي40 جنيها. وفي الوقت الذي لاتتوقف فيه التحذيرات بشأن الاسراف في المياه نجد أن المصريين هم أكثر شعوب العالم استهلاكا لها حيث يصل استهلاك الفرد الي500 لتر يوميا معظمها يضيع في ري الحدائق وغسيل السيارات ورش الشوارع. فتري هل نحن شعب يعشق الاستهلاك وأن الاسراف أصبح جزءا لايتجزأ من سلوك وثقافة المصريين؟ التحقيق التالي يسعي للاجابة عن هذا التساؤل. في البداية يقول محمد حسن- مدرس- انه رغم الظروف الحياتية الصعبة إلا أننا نفتقد بالفعل الي ثقافة الترشيد ونعشق الاسراف في الاستهلاك وشراء ما يفوق احتياجاتنا بدعوي الخوف من ارتفاع اسعار السلع من ناحية وبذريعة أن تبقي البيوت مليئة بخيرات الله كما نقول ويتجلي هذا الاسراف في المواسم مثل رمضان فأغلبنا قبل بداية الشهر يشتري ما يزيد علي احتياجاته وكأن الأسواق ستخلو من البضائع. أما مني سعيد- ربة منزل- فتري أن المصريين أبرياء من تهمة الاسراف في ظل دخولهم المحدودة والارتفاع الجنوني في الاسعار موضحة أن أي موظف الآن لايستطيع راتبه أن يفي بمتطلبات الحياة اليومية. استهلاك المحمول كارثة وتقول إن هناك بعض الأوقات القليلة التي أشعر فيها انني مبذرة خاصة عند دعوة شخص حيث اضطر لشراء كميات كبيرة حتي لو كان المدعو شخصا واحدا لاظهار الكرم بأي شكل. وتؤكد هويدا شوقي- موظفة- أن الكارثة الحقيقية تتجلي في استهلاك المحمول فنجد البيت الواحد لايكتفي بجهاز واحد وخط واحد بل أصبح كل شخص يمتلك أكثر من جهاز وخط أيضا في ظل الاعلانات والاغراءات التي تقدمها شركات المحمول لجذب المستهلكين فرغم أن جهاز المحمول كان من الكماليات إلا أنه أصبح من الأساسيات التي لاغني عنها وشركات المحمول هي الرابحة في النهاية. أما أحمد عبد المقصود- موظف- فيري أن تهمة الاسراف تخص الأغنياء فقط وأن كثيرا من الفقراء يبحثون عن قوت يومهم حتي ولو في القمامة ويؤكد أنه ينفق راتبه علي الاحتياجات الأساسية فقط ورغم ذلك لايكفي!! أكثر الدول استهلاكا للمياه ويقول اسماعيل إبراهيم- مخرج بالتليفزيون- أصبحت المياه الصالحة للشرب سلعة نادرة يصعب الحصول عليها ورغم ذلك نسيء استغلالها ونحن بالفعل أكثر الدول استهلاكا للمياه بسبب مواسير المياه المتهالكة من ناحية واستخدامها في غسيل السيارات وري الحدائق والشوارع بشكل مبالغ فيه من ناحية أخري. وطالب بضرورة تطبيق آلية للترشيد وفقا لخطط متبعة ومدروسة من قبل الجهات المعنية لأن هذه ثقافة مجتمعية وتطبيقها بشكل صحيح ومقنن قد يصل الي نتائج جيدة. ويوافقه الرأي حسن حمدي- عامل- في أن أغلب الصنابير التي توجد بالشوارع نجدها مفتوحة بدون مبرر وتتسرب منها المياه بشدة واغلبها يحتاج الي صيانة. ويتابع قائلا الكارثة الكبري في استهلاك الكهرباء والأجهزة الكهربائية فنجد اللمبات مضاءة بدون داع والتليفزيون مفتوح طوال اليوم رغم عدم متابعننا له ولا نجد أجوبة واضحة لمثل هذه التصرفات. أما حنان شوقي- ربة منزل- فتؤكد أنه رغم الارتفاع الجنوني للسلع الغذائية والاستهلاكية إلا أن المستهلك مشارك في هذه الأزمة لأنه لا يمارس ثقافة المقاطعة مهما كانت الأسباب ويضع نفسه فريسة سهلة لجشع التجار. ويري الدكتور حمدي عبد العظيم عميد اكاديمية السادات سابقا أن هناك خطأ في مفهوم الاستهلاك لدي المصريين وأصبح سلوكا متوارثا فنجد أن معظمهم يشتري احتياجاته من المأكولات والمشروبات أكثر من اللازم وهذا يمثل دخلا ضائعا ويؤدي الي اهداره دون داع والبعض يراه نوعا من الكرم والسخاء وفي ظل ارتفاع الأسعار يتجه البعض الي الشراء بكميات أكثر خوفا من التوقعات المستقبلية بارتفاع الأسعار وهذا يمثل عبئا زائدا علي دخل الأسرة كما أن بعض التجار يلجأون الي ترويج الشائعات عن رفع سعرسلعة ما لاحتكار السوق واصطناع أزمة ورغم أن بعض السلع الغذائية لاتقبل التخزين لفترة طويلة إلا أنها اصبحت ثقافة متوارثة ويري ضرورة تكاتف وزارة التجارة والصناعة مع جهاز حماية المستهلك لضبط الأسواق ومراقبتها للحفاظ علي توازن العرض مع الطلب مع تكثيف جهود التوعية خاصة بين الأميين لأنهم يمثلون بيئة خصبة لانتشار أي شائعة. ويري الدكتور مختار الشريف- خبير اقتصادي- أن ثقافة الترشيد غائبة في كل مجالات حياتنا ليس في الغذاء فقط فمثلا الأجهزة لاتخضع للصيانة الدورية مما يعني غياب ثقافة الاستهلاك وهذا لايعني تقليل الاستخدام ولكن تقنين الاستخدام. وتابع قائلا ثقافة التخزين عند المصريين تعد جزءا من التقاليد خاصة في الريف وهذا يستلزم تطوير ثقافة الانسان المصري بحيث يحدد احتياجاته ويشتري علي اساسها. الترشيد غائب ويضيف الدكتور الشريف أن ثقافة التخزين تعد وسيلة لمواجهة المجهول فضلا عن الاسراف في استهلاك المياه والكهرباء والكثير من التصرفات التي يقوم بها البعض دون وعي بمخاطرها ومضارها علي المجتمع مما يؤكد الجهل في التعامل مع هذه النعمة وهذا يستلزم مراعاة الهيئات المعنية لخطورة الوضع لأن زيادة الاستهلاك بلا مبرر تؤثر علي الأنشطة الأخري فبدلا من اهدارها توجه في مجالات أخري. ويتابع قائلا فنحن كمصريين اعتدنا البذخ بدرجة كبيرة لدرجة وجود فاقد كبير وقد نجد الحل في استخدام البدائل الغذائية للبروتين التي تعطي نفس القيمة الغذائية بالتعاون مع خبراء التغذية بدلا من الأقبال علي اللحوم وغيرها مما يساعد علي زيادة سعرها بشكل جنوني.. أما الاسراف الاستهلاكي لدي الشباب فيرجع الي غياب التوعية لذا يجب أن يدرب الطفل علي مفهوم الاستهلاك الصحيح فهذه الأرقام المهدرة قد تساعد في حل الكثير من أزمات المصريين عن طريق ضبط الأسواق والبطالة وتطبيق سياسة الادخار. ويؤكد الدكتور محمد ندا استاذ الموارد والتنمية البشرية أن المشكلة الأساسية في الاستهلاك هي نقص الموارد وغياب الترشيد ففي مصر نجد حجم القمامة يثبت سوء الاستخدام خاصة في المواسم والاعياد وهي غير مرتبطة بانخفاض الدخول فيجب توزيع ميزانية الأسرة بنسب معينة مع التوعية بثقافة الترشيد في المدارس والجامعات لمعرفة السعرات الحرارية اللازمة لكل فرد فالوصول الي الصحة السليمة ليس بكثرة الأكل كما يظن البعض ولكن بتحديد الوحدات السعرية اللازمة. وتؤكد الدكتورة سهير عبد العزيز استاذة علم النفس والاجتماع بجامعة الأزهر ومديرة المركز الدولي للدراسات والتنمية وعميدة كلية الدراسات الانسانية أن استهلاك أجهزة المحمول يعتبر- تعويصنا عن الحرمان الذي يعيشه الشعب المصري والبعض يعتبرها من المظاهر الاجتماعية التي أصبح لاغني عنها لكن هذا لايعني الاسراف في استهلاكها فالشباب في أمس الحاجة لنشر ثقافة العمل المنتج ليشعروا بقيمة المادة ومن المفترض أن يمارسها الشباب منذ الصغر. وأرجعت السبب وراء ذلك الي انتشار الاعلانات التجارية التي تستخدم عبارات براقة لجذب المستهلكين وهذا يستلزم توفير الفرصة المناسبة للشباب منذ الصغر للمشاركة في عمليات الاختيار والشراء مع تعويد الشباب علي الاقتصاد والتوفير وتقليل الفاقد في كل نواحي الحياة الاستهلاكية لأن النمط السلوك الاستهلاكي لدي الفرد يتأصل لديه منذ الصغر ويتأثر بالعديد من العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية مثل: التقليد والمحاكاة والاعلانات التجارية والدخل النقدي ووسائل الاعلام المختلفة. نحن شعب استهلاكي وتؤكد أن تزايد معدلات النمو الاستهلاكي الحالية رغم الأزمة العالمية خطوة متوقعة ولاتدعو للعجب فنحن شعب استهلاكي بصرف النظر عن دخله ولهذا فان نسب الاستهلاك لدينا دائما ما تكون مرتفعة بعيدا عن أي أزمات والشعب المصري بطبيعته يميل الي التظاهر والمحاكاة وهي أمور تلعب دورا مؤثرا في الاستهلاك وكذلك زيادة المعدلات السكانية أما تأثر النمط الاستهلاكي عند الشباب بثورة الاتصال وتكنولوجيا المعلومات فأدي الي ظهور انماط استهلاكية جديدة كخطوط الانترنت وهواتف المحمول الحديثة ووجود أكثر من خط عند الشاب وبذلك وضعنا أنفسنا بين مطرقة التكنولوجيا وسندان ضبط الانفاق وترشيد الاستهلاك. ويري أيمن عقيل رئيس مركز ماعت لحقوق الانسان أن مصر مازالت لاتمتلك قانونا ينظم مياه الشرب رغم أن الابحاث تؤكد اننا قد نعاني من الجفاف في المرحلة المقبلة إلا أن الاهمال في الاستهلاك أزمة تستلزم الوصول الي حل لانقاذ ما يمكن انقاده وهذا جزء من ثقافة المجتمع ففي الدول المتقدمة لاتري مثل هذه السلوكيات اما في مصر فرغم تدني الاجور فإن الفقير يأكل والغني يأكل وكلاهما يسرف حسب امكاناته. ويقول إن ثقافة التخزين عند المصريين ثقافة متأصلة قائلا أنا عن نفسي اعاني منها وأجدني أقبل علي شراء منتجات وبضائع لاتتوافق معي وبكميات أكثر من احتياجاتي. ويؤكد صلاح سليمان رئيس مؤسسة النقيب لحقوق الانسان أنه رغم وجود أزمة عالمية في المياه وخلافاتنا مع دول حوض النيل إلا أنه بتقنين الاستخدام قد نصل الي حل ويمكن تطبيق ذلك علي استهلاكنا للغذاء فمثلا رغيف الخبز يجب أن نتعلم كيفية ترشيد استخدامه بدلا من القائة في القمامة مؤكدا أن الترشيد لايعني الانقطاع عن الشراء ولكن تحقيق فطرة الاكتفاء الذاتي. ويضيف سليمان أن أكثر من80% من حصتنا من المياه تهدر في الزراعة نتيحة استخدام اساليب بدائية مثل الشادوف والساقية وهنا يستلزم تحديث المنظومة بأكملها لتحسين استغلال الفائض مع تحقيق معادلة تناسب الأجر مع عدد ساعات العمل حتي يشعر المواطن بقيمة الأجر ولايسيء استخدامه. وهذا قد يساعد في تغيير توجهات المواطنين. وتؤكد سعاد الديب رئيسة الجمعية الاعلامية لحماية المستهلك أن ثقافة ترشيد الاستهلاك مرتبطة بالمستهلك والتاجر في ذات الوقت فالتاجر قد يرفض بيع كميات محدودة فيضطر المستهلك الي شراء ما يفوق احتياجاته ويعتبر ذلك نوعا من التباهي الاجتماعي موضحة أن ثقافة التخزين التي يلجأ اليها المصريون لاتتناسب مع كثير من المنتجات وأغلبها يتعرض للتلف وقد تتسبب في التسمم نتيجة تخزينها بطريقة خاطئة لذلك تجب مراعاة شروط التخزين السليمة حتي لاتهدر من حيث الأماكن المناسبة ودرجات الحرارة الملائمة. وفي ظل الاعلانات والقنوات المفتوحة يتجه المستهلك الي شراء اشياء لاتتناسب مع احتياجاته وهنا يجب توخي الحذر من الاعلانات التي تضخم الحقائق. وتضيف أن المستهلك قد يتجه الي الشراء خوفا من المستقبل وهنا تجب ضرورة ضبط الاسواق واذا تم الاعلان عن زيادة في الأسعار تتم بشفافية بين الجهات الانتاجية والرقابية والمجتمع المدني ولكن في ظل غياب التنسيق بين الجهات وعدم الالتزام بالشفافية تتسرب بيانات غير دقيقة مما يؤدي لزيادة الاسعار وحدوث بلبلة عند المستهلك.