في اليوم الأول من رمضان غيب الموت العالم والمفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمود العزب مستشار شيخ الأزهر لشئون الحوار, أحد الأزهريين الأوفياء الذين فضلوا الانضمام الى هذا الفريق على المنصب الأكاديمي المرموق في جامعة السوربون. أسهم فى صياغة وثيقة الأزهر وهيئة كبار العلماء، وظل يعمل – عن اقتناع وإخلاص وروية ووطنية عالية – فى جانب من أهم جوانب العمل في مشيخة الأزهر الشريف حتى آخر لحظة من لحظات حياته، ولن ينسى له الوطن – بمسلميه ومسيحييه - قيامه على فكرة بيت العائلة الذي أقام بناءه فى العديد من محافظات مصر، ليرتفع بالعمل من أجل العلاقات الوطنية والأخوية والروحية بين المسلمين والأقباط في مصر، إلى المستوى المؤسسي الذى يحفظ لحمة النسيج الوطني، وجوهر الوحدة الوطنية، بتعاون من الجميع واقتناعهم واطمئنانهم وحرصهم المتبادل. أسس لعلاقات إسلامية مسيحية دولية تقوم على رؤية جديدة ونطاق أرحب، واجتاز به في حكمة وكرامة الأزمة التى سببتها بعض مواقف السابقين، وقاد فى علم وإخلاص حوار الأديان والحضارات عن الجانب المصرى فى روما وباريس وميونخ ومراكز دولية أخرى. كان أديباً شاعرا، وقد أبدع فى المجال الوطني، وترك نصوصا ستبقى بعده طويلا كما ستبقى جهوده العملية التي نهض بها فى خدمة مصر والأزهر والإسلام .كما كان – رحمه الله - مفكرا مسلما عاملا من أجل سلام حقيقي كوني يقوم على الحق والعدل، والتفاهم الفكري العميق.
وفي آخر حوار ل «الأهرام» مع الراحل الدكتور محمود العزب مستشار شيخ الأزهر لشئون الحوار, والذي أجريناه معه قبل 4 أيام من رحيله بمكتبه بمشيخة الأزهر، أثرنا معه عددا من القضايا التى تشغل بالنا جميعا مما أفرزته ثورة يناير المجيدة, التي يرى انها كانت بمثابة الزلزال الذى أخرج ما فى أعماق مصر والمنطقة من سلبيات وأمراض وأسباب للتخلف والقهر والديكتاتورية, وإشكالية الخطاب الدينى فى مصر والعالم الإسلامي, ومفهوم الإسلام السياسى, وسبل مواجهة الفكر التكفيرى, والحوار بين المذاهب الإسلامية, وكذلك بين الأديان للبحث عن المشترك الإنساني من القيم العليا, وجهود بيت العائلة المصرية فى إصلاح الخطاب الدينى والوطنى, وإحياء دور الأزهر الشريف كأكبر مؤسسة دينية فى العالم.. كيف ترى مفهوم الإسلام السياسى الذى شاع فى الفترة الأخيرة؟ الإسلام السياسى مصطلح نشأ فى الغرب, ويعنى استخدام بعض الأحزاب أو الجماعات أو التنظيمات الإسلام فى سبيل الوصول إلى مكاسب سياسية أو حزبية أو مذهبية. ونحن نختلف مع هؤلاء تمام الاختلاف لأسباب بديهية وأهمها أن قيم الإسلام قيم إلهية مطلقة ثابتة وأصيلة وقيمه العليا لا تتغير بالزمان أو المكان أما قيم السياسة والحزبيات فهى قيم إنسانية متغيرة ولا يصح بديهيا تسخير المطلق الإلهى الثابت لخدمة النسبى الإنسانى المتغير بل يجب على عكس ذلك أن يتأثر السياسى بأخلاق الدين من ناحية الصدق والالتزام بالأمانة والعمل الجاد والتسامح مع المختلف وإعلاء مبدأ حق الاختلاف. ما هى سبل مواجهة الفكر التكفيرى؟ الفكر التكفيري والتبديعى والمتطرف بشكل عام أى المنحرف عن سبل الإسلام الوسطى والدعوة السمحاء خطر يهدد العالم الإسلامي منذ فترة ليست قصيرة وأكثر أسبابه معروفة وربما كان أهمها ضحالة التكوين وسطحية التعليم وانتشار الشكليات الخارجية التي لا تعبأ بالمضامين الحقيقية لقيم الدين العليا مما مهد الطريق لدخول ثقافات وأشكال خطاب ديني جاءت من الخارج ونسى أنها إقليمية ومحلية ولكن أرادت لها ظروف معينة أن تكون عالمية فأضرت بالإسلام والمسلمين. أما سبل مواجهته فتتمثل فى العودة إلى أخذ الخطاب الدينى من مصادره الصحيحة المتعارف عليها من مدرسة الإسلام الوسطى المعروفة منذ أكثر من 1000 سنة وهى الأزهر الشريف, والبعد عن المصادر المتشددة والإقليمية الأحادية النظر والتى لا تؤمن بالاختلاف والتنوع والتعدد الذى هو سنة الله في خلقه، وعدم التجرؤ على صعود المنابر والتعرض للإفتاء والخطاب لتوجيه عامة المسلمين إلا لمن حصل على دراسات علمية أكاديمية موثوق بها وأثبتت كفاءتها عبر التاريخ، والبحث الجاد عن روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها وأهدافها العليا المتفق عليها عند العلماء المعتبرين خلال تاريخ الإسلام وحضارته وعلومه والتأكيد على عصور الازدهار والتقدم خصوصا فى عهد الصحابة وما تلاه من القرون الأربعة الأولى التى ارتقى فيها العلم ووضعت قواعده الراسخة حيث كانت اللغة العربية لغة العلم والبحث الأولى إن لم تكن اللغة الوحيدة فى العالم, والنهوض بتكوين صحيح للأئمة والدعاة والقساوسة وكل من يقوم بتوجيه الخطاب الديني والارتفاع بمستوى تكوينهم العلمى والثقافى ليركزوا على احتياجات المجتمع المصرى للرقى والإيمان والعمل والاستقامة التى يدعو إليها الدين, وعدم استخدام المنابر فى الدعوة إلى سياسة حزبية أو فئوية لجماعة أو فئة من الفئات, وأن تكون المنابر لله وحده لقوله تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا), والتركيز على التنوع والتعدد واحترام الرأى المخالف والنقاش والتحاور بالحكمة والموعظة الحسنة. وكل هذه مبادئ واردة فى القرآن الكريم وهو الأساس الأول للمسلمين فى عقيدتهم وشريعتهم. ماذا عن إشكالية الخطاب الدينى فى مصر والعالم الإسلامي؟ لا يختلف أحد حول إشكالية الخطاب الدينى ودورها السلبى فى المجتمع المصرى والمجتمعات العربية الإسلامية خلال أكثر من ربع قرن مضت وحتى الآن والمشكلة معقدة وإنما تحتاج إلى تحليل لسياقها التاريخى وأسبابها التى تراكمت وهى أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية, كما لا يخفى على أحد ظهور عوامل وتغييرات حقيقية على أرض الواقع فى الفترة القليلة الماضية على مستوى مصر وفى الأزهر الشريف على وجه الخصوص. ويفهم من كلمة إشكالية أن المشكلات متداخلة ومعقدة وتحتاج إلى تحليل دقيق وإذا بحثنا على الجانب التاريخى وجدنا أن أزمة الخطاب الدينى تكونت نتيجة تراكم مشكلات كبرى على المستويات الثلاثة: مستوى عالمى ومستوى عربى إسلامى ومستوى مصرى. أما على المستوى العالمى فقد كانت للأحداث العالمية الكبرى ومنها صراع القوتين العظميين خلال الحرب الباردة كان لذلك انعكاس واضح على تغير الخطاب الدينى العالمى والإسلامى على وجه الخصوص, وكان لإنشاء القاعدة التى تكفلت بها الولاياتالمتحدةالأمريكية دور كبير فى تجليات أزمة الخطاب الدينى حيث كان يتم تجنيد شباب العالم الإسلامي لما كان يسمى بالجهاد في أفغانستان والحقيقة أن هذا كان بالدرجة الأولى لمحاربة ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتى لمصلحة المجتمع الرأسمالى بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية, وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى عاد الكثير من شباب العالم الإسلامى لبلادهم الأصلية بعد ما اتقن الجهاد والحرب وبدأ يقاتل داخل بلاده وكانت توجهاته آتية مما كان يسمى تكفير المجتمع (ولابد من مراجعة قضايا التكفير والهجرة والتنظيمات الإسلامية السياسية المختلفة) واستخدم العالم الرأسمالى بالآلات الإعلامية الجهنمية. هذه الأمور فيما أصبح يسمى فيما بعد (الإسلاموفوبيا ) أى التخويف غير المبرر من الإسلام والمسلمين وبدأ تصوير أحداث العنف التي تتم فى كثير من بلاد العالم الإسلامى مثل قتل السياح والسائحين والكثير من أبناء الشعب الذين يخالفون هؤلاء الشباب المقاتل في الرأى والمذهب أو العقيدة, وهنا نلاحظ اختفاء لغة الحوار وانخفاضا واضحا فى مستوى الثقافة العامة والدينية على وجه الخصوص, وكان يتم تمويل هذه التنظيمات بسخاء من بلاد أجنبية، كما أسهم الصراع العالمي والتركيز على العولمة فى إشعال ما يسمى (صراع الحضارات) وهى فكرة غربية وأمريكية وجهت كل جهودها لإشعال الحروب والضغوط وتسويق الأسلحة وكانت الحروب هذه المرة على أرض البلاد الفقيرة التى صدر إليها الصراع. هنا كان يراد إضعاف الوسطية وهى الضمان الأول لاعتدال الإسلام والمسلمين والتي تتجلى فيها قيم الاسلام العليا والقيم المشتركة بينه وبين الأديان السماوية والحضارات الإنسانية الراقية، وكانت الضغوط الخارجية وتمويل الصراعات وتشجيع العنف اقتصاديا وإعلاميا الدور الأكبر فيما آلت اليه الأمور وكان يراد إبعاد كل لغة عالمية وأكاديمية وحضارية تتناسب مع عمق الإسلام بوصفه الدين الذى يراعى التنوع والاختلاف والتكامل بين الأمم وكانت الأمة الإسلامية قد ضربت بذلك مثالا لازدهارها في عصور الحضارة الإسلامية وكانت وسائل الإعلام والقنوات الفضائية وما يسمى الإعلام الدينى يستبعد تماما الحديث عن الحضارة الإسلامية وعن رقى المسلمين فى العلوم والفنون خلال تقدم المسلمين في عواصم يذكرها التاريخ مثل القاهرة وبغداد وقرطبة وأصبح الحديث عن الدين يتم في فراغ يصادر فيه الأخلاق ويفرغ الدين من مضامينه العليا ويركز فيه على الأمور الثانوية وليس القيم العليا والكبرى ومقاصد الشريعة الإسلامية المتفق عليها. هل نحتاج لحوار بين أصحاب المذاهب الإسلامية أم أننا بحاجة إلى حوار بين الحضارات؟ نحتاج إلى إجراء حوار متحضر وراق بين أصحاب المذاهب الإسلامية للاتفاق على المشترك الأصيل لتحقيقه معا وتحديد المختلف الطارئ الثانوي لاحترامه منطلقين في الأزهر الشريف من احترام كل من يصلى الى القبلة ويتفق على الأصول الصحيحة وأمرنا الله بتقبل الآخر ثم ننادى بالحوار بين المختلفين في أي مجال من المجالات ونركز على الحوار الوطني أولا على الحوار الداخلي وهذا ما يقوم به الأزهر الشريف منذ 3 سنوات حتى الآن والذي أنتج وثائق الأزهر حيث نجح الأزهر في جمع كل الأطراف الفاعلة في الحياة الوطنية والفكرية والدينية وأدار بينها حوارا ناضجا شهد له الجميع داخل مصر وخارجها ولابد من قراءة وثيقة الدولة حول مستقبل مصر ثم وثيقة منظومة الحريات الأربعة الأساسية (حرية الاعتقاد – حرية الرأي– التعبير السلمى عن الرأي– حرية البحث العلمي وحرية الإبداع الملتزم بقواعد الأخلاق والقيم) وبعد ذلك أو مع ذلك نتوجه إلى حوار الحضارات ونقاوم ونرفض صراع الحضارات وصدامها الذي نشأت الدعوة اليه في الغرب وندينه تماما. كيف يمكن إحياء دور الأزهر الشريف كأكبر مؤسسة دينية في العالم؟ دور الأزهر الشريف اكبر مؤسسة دينية وسطية وعلمية وحضارية في العالم بدأ عمليا منذ 3 سنوات ويتحقق على ارض الواقع من خلال العمل الدؤوب في الرابطة العالمية لخريجي الأزهر الشريف التي أنشأها شيخ الأزهر الدكتور احمد الطيب عندما كان رئيسا للجامعة ولها فروع في بلاد العالم الإسلامي وتعقد مؤتمرات في البحث العلمي للرقي بالعلوم الاسلامية جمعا بين الأصالة العريقة والحداثة غير المخلة وبالإضافة الى انه تمت مراجعة قانون 103 لسنة 1961 لشئون الأزهر واعيد تكوين هيئة كبار العلماء التي كانت موجودة قبل سنة 1961 والتي تقوم على انتخاب شيخ الأزهر من بين أكفأ علمائها وهذا يعتبر أهم أسس استقلال الأزهر الشريف, وبالتالى لن يكون اختيار إمام الأزهر من شأن رئيس الجمهورية وإنما من شأن هيئة كبار العلماء, كما تم تحديد سن قانونية لإحالته الى المعاش كما تم استرجاع مناهج الوسطية التي كان بعضها قد اصابه خلل والتركيز على كتب التراث الصحيحة والمعتمدة التي أثبتت كفاءتها في تكوين أزهري صميم عميق المعرفة وجيد البحث كما انه تم إنشاء 3 مراكز للغات الأوروبية (مركز للإنجليزية يساعد فيه المجلس البريطاني, ومعهد للغة الفرنسية يساعد فيه المركز الثقافى الفرنسي, ومركز آخر يساعد فيه معهد جوته الألمانى) هذه المراكز موجودة داخل جامعة الأزهر وتقدم تعليما للطلاب المتفوقين في كليات الشريعة وأصول الدين والدعوة واللغة العربية ليعدوا للدراسة في أوروبا لينقلوا فكر الغرب وحضاراته وفلسفاته الينا لنكون على صلة بأحدث المناهج العلمية في العالم ولمساعدة علماء المسلمين في مزيد من الفهم وتكوين فكر واقعى صحيح الى غير ذلك من المشروعات التي تشير بحق الى ان مؤسسة الأزهر تسير بخطى حثيثة نحو استرداد دوائر الأزهر الثلاثة (الدائرة الوطنية والدائرة العربية الإسلامية والدائرة العالمية). لقد ذكرت من قبل أنه لابد من حوار الأديان للبحث عن المشترك الإنساني فماذا تقصد بذلك ومع من يكون الحوار؟ لقد ذكرت ان الأديان لا تتحاور بنفسها وإنما يتحاور المؤمنون بها فيما بينهم وان كنا نستبعد الحوار حول العقيدة فهي لا تخضع للمناقشة وانما يجب البحث عن المشترك الإنساني من القيم العليا كما قلنا سابقا لتحقيقها على ارض الواقع وتحديد القيم الخاصة بكل دين او ثقافة لاحترامها وتعايشها في سلام ويكون الحوار بين طرفين او أطراف مختلفة لتحقيق التعايش او التضامن والتعاون مع احترام قواعد الحوار التي لا مجال للتفصيل فيها الآن وان كان أهمها ضرورة تحقيق درجة من المعرفة بالذات ثم المعرفة بالآخر والاحترام المتبادل للاختلاف والالتزام بالرأي المختلف واعتقاد بنسبية الرأي الإنساني فلا احد يملك الحق المطلق وإنما نبحث عنه معا وبالتالي ضرورة الاعتقاد بنسبية الرأي واحترام الرأي الآخر. ما هي جهود بيت العائلة المصرية في الفترة المقبلة ؟ لقد كررنا الحديث عما يقوم به بيت العائلة من إصلاح حقيقي للخطاب الديني والوطني ومناهج التعليم وننظر في المستقبل المزيد من التواصل خصوصا في الصيف القادم مثل عقد معسكرات شبابية لشباب من المسلمين والمسيحيين معا رياضية وثقافية وعلمية لمزيد من بث روح المواطنة فيهم ونتمنى أن يساعد الإعلام في عرض هذه الجهود العملية لانتشار مبدأ التعايش والتضامن ومبادئ المواطنة على كل المستويات. كيف يمكن أن ندرس لغة وآداب الحوار في المدارس والجامعات؟ أنا في الواقع أرى أن مبادئ الحوار وآدابه وثقافته ونشر لغته بين الناس هو أمر في غاية الأهمية وان كان الحوار لا يتحقق بشروطه وآدابه إلا في المجتمعات التي تعم فيها الحرية وحق الاختيار وآداب المفردات المستخدمة ونتمنى ان تدرس هذه اللغة وتلك الآداب في المدارس والجامعات المصرية كما أدعو الإعلام إلى ان يعقد حولها ندوات وجلسات لتعريف الناس بها.