لمصر ميراث قانونى يستحق وصفه بدون مبالغة بأنه رائد فى محيطه العربي. صحيحٌ أننا تأثرنا بالقانون الفرنسى منذ أخذنا ما يعرف بمجموعة قوانين نابليون لكن المشرع المصرى طالما أضاف إلى هذه القوانين. ولم يدّخر الفقه المصرى جهداً فى إثرائها بأفكاره ونظرياته. بل إن المحكمة الدستورية العليا فى مصر قد سبقت فى العديد من أحكامها نظيرها فى فرنسا وهو المجلس الدستوري. وكان عهد رئيسها السابق المستشار عوض المر عهد نهضة دستورية غير مسبوقة فى تاريخ مصر. ولم يكن مجلس الدولة المصرى بدوره أقل تأثيراً وهو يُشيّد صرحاً من أحكام قضائية خلاّقة أرسى بها حلولاً مصرية خالصة ليشب سريعاً عن الطوق ويخرج من فلك مجلس الدولة الفرنسي. أما على صعيد النخبة القانونية المصرية فمن المعروف أن الكثير من الدساتير والقوانين العربية أعدّها مصريون، وما زال الدور القانونى العربى للمرحوم الدكتور عبد الرزّاق السنهورى ماثلاً فى الأذهان . ونحن نعرف كقانونيين انه لا تخلو مكتبة قانونى عربى من مؤلفات قانونية مصرية ومجموعات القضاء المصري. هذا جزء من « القوة الناعمة» المصرية خارج حدود الوطن. السؤال الآن إذا كانت مصر قد حققت كل هذا الإنجاز فى محيطها العربى من خلال تشريعاتها ومؤسساتها القضائية ونخبتها المميزة من الأكاديميين والقضاة فما الذى أفضى بنا اليوم إلى هذه الحال؟ عن أحكام القضاة ( لكى لا أقول القضاء ) ثمة ذهول قانونى من صدور حكم بإعدام طفل لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره ؟ لن أتحدث هنا عن تسييس أحكام ( القضاة ) لأن التفتيش فى الضمائر غير ممكن وغير مجد فى آن معاً. ولكنى أتحدث عن التزام ( القضاة ) وهم يضطلعون بعبء شاق بمبدأ المحاكمة القانونية العادلة والمنصفة. ولكل مفردة من هذه المفردات الثلاثة إجراءات يتعين اتباعها وضمانات تجب كفالتها بنص الدستور ذاته وقوانين الدولة المصرية العتيدة. أما عن التشريع المصرى فالسؤال أيضاً هو لماذا أصابنا الجمود والترهل القانونى الذى جعل بعض التشريعات العربية أكثر حيوية وحداثة من التشريع المصرى ؟ هذه حقيقة يعرفها القضاة الذين عملوا فى دول الخليج مثل دولة الإمارات العربية. ودولة الكويت وغيرهما سبقتنا بأكثر من عشر سنوات بتقرير حق الطعن بالنقض فى جرائم الجنايات. دول مثل المغرب والأردن وتونس لديها ومنذ سنين قوانين للحبس الاحتياطى أكثر تقدماً من التشريع المصري. المملكة المغربية مثلاً أصدرت منذ نحو عشر سنوات قانوناً للإجراءات الجنائية ( قانون المسطرة الجنائية ) لا يختلف كثيراً عن أرقى تشريعات العالم على صعيد التوازن بين تحقيق الأمن وحماية الحريات. صحيحٌ أن هذا المد الحقوقى فى المغرب قد شهد انتكاسة لاحقة لكن هكذا يمضى المخاض العسير للمجتمعات على درب التطور الإنساني. فهل يعقل ان تصبح مصر التى من خلالها نقل الأشقاء العرب التحضر القانونى دولةً عربيةً من الدرجة الثانية قانونياً ؟ حقيقة الأمر وربما المشكلة فى الوقت ذاته أن مصر تملك نخبة قانونية مميزة ومؤسسات قضائية عريقة لكن ما أصابنا من جمود وترهل عبر عقود مضت أفقدنا طاقات هذه ( الأصول ) البشرية والمؤسسية الثمينة. ويبدو أنه كان لدى السلطة فى مصر خوف مبالغ فيه وغير مبرر من الإقدام على عملية تطوير جذرى وشامل لمختلف جوانب المنظومة القانونية. وكانت النتيجة هذا الإرث المتضخم والمتضارب من تشريعات (مرتبكة) فى ذاتها (ومربكة ) فى تطبيقها. واليوم تطلق الدولة مبادرة مهمة من خلال تشكيل لجنة عليا للإصلاح التشريعي. ثمة شكوك تحيط بهذه اللجنة وهناك آمال تحفُّ بها. الشكوك مصدرها أن معظم تجاربنا السابقة مع اللجان العليا والقومية لا تبعث على السعادة. القليل منها حالفه النجاح والكثير لاحقه الفشل. والبعض يخشى من ازدواجية عمل اللجنة مع اختصاص مجلس الدولة. لهذا ربما كان الأمر يتطلب سرعة إصدار لائحة تنفيذية تضع الأمور فى نصابها لكى لا يرتبك عمل اللجنة مستقبلاً. ثم ان العديد من التشريعات التى صدرت فى الآونة الأخيرة راكمت من الظنون والشكوك ورسّخت انطباعات سلبية فى توقيت غير مناسب بالمرة. من جهة أخرى ثمة تفاؤل من إنشاء اللجنة مبعثه الأمل ( الذى لا نملك سواه ) فى أن يكون وجود مثل هذه اللجنة حلاً لمعالجة التشريعات الأخيرة التى أثارت المخاوف وأسهمت فى تعقيد المشهد السياسي. يعزز من هذا الأمل الهمة الملحوظة فى أداء رئيس الوزراء ابراهيم محلب على صعيد قضية مكافحة الفساد والإهمال والتسيب . والإشارات الإيجابية التى صدرت عن رئيس الدولة وأهمها على الإطلاق التصدى لظاهرة التفاوت الهائل بين الأجور ووضع حد أقصى للأجور كان رئيس الدولة أول من أعلن الالتزام به. بين الإغراق فى الشكوك والاستغراق فى الآمال ثمة موقف ثالث أنحاز له هو التفاؤل المشروط. نعم نتفاءل بوجود لجنة عليا للإصلاح التشريعى بشرط تحديد منهج هذا الإصلاح وأولوياته. إذا تحقق هذا سيكون ممكناً التوافق على كثير من التفصيلات الأخري. منهج الإصلاح التشريعى يثير ابتداء ملاحظات إجرائية حول طبيعة دور اللجنة وآلية عملها. بالطبع سيكون للجنة دور حاسم حتى انعقاد مجلس النواب الجديد. ففى خلال هذه الفترة سيعتمد رئيس الجمهورية بشكل أساسى على المنتج التشريعى للجنة فيما سوف يصدره من قرارات بقوانين بحكم ما له من اختصاص تشريعى فى ظل غياب البرلمان حالياً. ومن هنا جاءت بعض التحفظات المعبّرة عن الخوف من تشكيل اللجنة فى هذا التوقيت، وأنه كان يجدر الانتظار إلى حين انتخاب وتشكيل البرلمان الجديد ليمارس اختصاصه التشريعى بحكم الدستور. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم