كثيرة هى القضايا العادلة فى حياتنا. قليلة هى المرات التى حققنا فيها انتصارا يناسب عدالة هذه القضايا. والأمثلة لا حصر لها. الصراع العربى الاسرائيلى أمام المحافل الدولية يؤكد أننا كنا أسوأ محام لأعدل قضية. ملايين الألغام من مخلفات الحرب العالمية الثانية فى صحرائنا الشمالية الغربية مثال آخر. تحصد هذه الألغام أرواح البشر وتعطّل جهود التنمية. أما نحن فلم نحصد تعويضاً ولا التزاماً من الأطراف المسؤولة بإزالة هذه الألغام ولا حتى حصلنا على الخرائط التفصيلية لمواقع هذه الألغام. أسرانا الذين قتلوا ودفنوا أحياء بخسة وغدر فى صحراء سيناء. سد النهضة الإثيوبى الذى يمضى تشييده على قدم وساق ليهدد شريان الحياة فى مصر، بينما نحن حيرى قليلو الحيلة. أموالنا المنهوبة فى الخارج ونحن عاجزون عن استردادها لكننا نتدفق دهشة وبراءة وربما سذاجة. آخر القضايا التى أذاقتنا الألم والحسرة هى مقتل عشرة من المصريين الأقباط فى ليبيا. هدفى المباشر من الحديث عن هذه القضية ليس توجيه اللوم لجهات أو سلطات مصرية عن تقصيرها، وإن كان الأمر لا يخلو بالفعل من التقصير فى مجمل التعامل مع الحالة الليبية. لكن الهدف المباشر من هذا الحديث هو ما سبق أن أشرت إليه من أن المنظومة القانونية المصرية (فى جوانبها الموضوعية والإجرائية) لم تعد تُسعف كثيراً فى الدفاع عن مصالح الدولة المصرية وعن حقوق المواطنين المصريين خارج مصر، وذلك بسبب ترهل هذه المنظومة القانونية وبطء تحديثها وضعف مواكبتها للكثير من الظواهر والمتغيرات التى أصبحت تفرض نفسها على حركة التطور القانونى فى مختلف أرجاء العالم. حادثة قتل المصريين فى ليبيا مثل حوادث أخرى مشابهة تقدم لنا مثالاً على تقصير منظومتنا القانونية فى الدفاع عن مصالح مصر وحقوق المصريين. فقد كانت هذه الحادثة مناسبة لأن نكتشف أن القانون المصرى لا يطبق على الجرائم التى يكون المجنى عليه فيها مصريا إذا وقعت هذه الجريمة خارج مصر. والحالة الوحيدة التى يطبق فيها القانون المصرى على جرائم وقعت خارج مصر هى أن تمثل هذه الجرائم إضراراً بأمن الدولة أو تشكل جريمة تزوير فى أوراق أو أختام رسمية للدولة أو تزييفاً لعملتها. يترتب على ذلك أنه فى حادثة قتل المصريين الأقباط فى ليبيا ليس لمصر من الناحية النظرية القانونية أن تطالب السلطات الليبية بتسليم المتهمين بقتل أقباطها لأن أحد شروط التسليم أن يتوافر للدولة التى تطالب بالتسليم (وهى هنا مصر) الاختصاص التشريعى بملاحقة المتهمين. ومثل هذا الاختصاص لا يعطيه القانون المصرى لنفسه برغم أن المجنى عليهم هنا مصريون. والغريب أن القانون المصرى يعطى لنفسه اختصاصاً ويسرى على الجرائم التى تقع خارج مصر اذا كان الجانى فيها مصريا وعاد الى مصر (!!). معنى ذلك أن مصر تبدو أكثر اهتماما بالجرائم التى يرتكبها مصرى فى الخارج بينما تبدو (وهنا مبعث المفارقة) أقل اهتماما بل غير مهتمة على الإطلاق إذا كان المجنى عليه مصريا. هذا الوضع القانونى يعنى أن مصر مدعوّة إلى تعديل تشريعها الوطنى بما يتيح سريان قانونها على الجرائم الجسيمة التى ترتكب ضد مصرى خارج مصر، وهو ما يُعرف قانونا بمبدأ الشخصية السلبي. وكثير من تشريعات العالم تفعل ذلك وتمنح لنفسها اختصاصا قضائيا وسرياناً تشريعياً لمحاكمة المتهمين بارتكاب هذه الجرائم. وفى حال تعذر ذلك يمكنها على الأقل أن تطالب بتسليم مرتكبى هذه الجرائم. والواقع أن مازال ممكنا حتى فى ظل الوضع التشريعى القائم أن تطالب مصر بتسليم المتهمين الليبيين بقتل مواطنيها استنادا لأحكام الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب لسنة 1998 والتى أودعت ليبيا وثائق التصديق عليها لدى الجامعة العربية فى عام 1999. كما تمثل العديد من الاتفاقيات الدولية الأخرى أساساً قانونياً صالحا لأن تطالب مصر بتسليم قتلة مواطنيها مثل اتفاقية الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية. لكن حتى فى هذا الفرض أيضاً فإن ليبيا يمكن أن تتمسك بقاعدة حق الدولة فى الامتناع عن تسليم مواطنيها المتمتعين بجنسيتها. وهذا عرف قانونى ينص عليه أحيانا فى الدساتير والقوانين فى معظم دول العالم. ما نخلص إليه فى نهاية المطاف أن مصر ليس لديها حتى الآن تشريع وطنى (متكامل) خاص بالتعاون القضائى الدولى وتسليم المجرمين. قد يوجد لدينا نص مبعثر هنا أو هناك، وقد يصدر تعديل تشريعى جزئى ينظم هذا المسألة أو تلك. لكن هذا كله لا يغنى عن ضرورة أن تمتلك مصر تشريعا مفصلا ومتكاملا ومتسقا ينظم كل الموضوعات السابق ذكرها. نحتاج اليوم أكثر من أى وقت مضى لمثل هذا التحديث التشريعى لا سيما فى ظل تنامى موجات العنف والإرهاب العابر للحدود، وكذلك لمواجهة قضايا استرداد الأموال المصرية المنهوبة والمطالبة بتسليم الأشخاص المتهمين بارتكاب جرائم الفساد. أما القول بوجود اتفاقيات دولية يمكن أن تستند اليها مصر، سواء على المستوى العربى أو العالمى فهذا لا يغنى عن وجود تشريع وطنى منظم لهذه المسائل لأن طلبات التعاون القضائى الدولى وتسليم المجرمين الموجهة من مصر لدولة أجنبية يجب أن تتضمن صورة من نصوص التشريع المصرى المنظم لهذه الأمور وخصوصاً النص الذى يقر اختصاص القانون المصرى بمحاكمة الشخص المطلوب تسليمه من الدولة الأجنبية. مجرد تساؤل من يصدق أن مصر لديها مشروع لقانون عقوبات جديد أنجزته لجنة من كبار أساتذة مصر فى ستينيات القرن الماضى ولم ير النور حتى اليوم؟ ومن يصدق أن لدينا مشروعا متطورا لقانون للتعاون القضائى الدولى وتسليم المجرمين أعدته لجنة وطنية فى عام 2002 وأيضا لم يقدر له أن يرى النور حتى اليوم؟ لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم