قبل انتخابات الرئاسة كان تأسيس تأييد أكثر الرموز الناصرية للسيسى يحتمل الأقاويل الدعائية التى تصوره ناصرياً كشأن هذه الرموز نفسها. وفى مرة سمعت زميلاً ناصرياً يسأل «ما يدريكم أن السيسى ليس ناصرياً وأن ناصريته ليست أفضل من ناصريتكم؟ «وآخر يقول أن « تأييدنا للسيسى ينبع من أنه القائد الذى انحاز إليه الشعب». قدرت أن القولين ينتميان إلى ذات فكر الرؤى والأحلام الذى داعب جفون إخوان رابعة، وأوردهم - ولايزال - موارد التهلكة، كان بالإمكان دحض تلك الأقاويل بحقيقة «أن ما لاتدريه لايلزمك»، وأن القوى السياسية التى تستحق هذا الإسم تحترم الخيار الشعبى وتعمل على مقتضاه، لكنها لاتنساق وراءه، ولاتتخذه طريقاً لتأييد من لاتراه منسجماً مع رؤاها.لكنى كظمت غيظى فقد كان الكلام يرد فى حوار بين ناصريين يشاركوننى تأييد السيسى مما يحيل معارضتى فى معانيه لمزايدة لا مجال لها.وإن واجهت هذه الادعاءات فى حينه بمقال نشرته «الأهرام» بعنوان «السيسى ليس عبد الناصر»، وننوه أن واو العطف فى العنوان الماثل تشير لذلك المقال. اليوم اختلفت الحال وأصبح السيسى رئيساً مسئولاً أمام الناس، وأضحى على الذين أيدوه أن يعلموا أن حالهم من التأييد والدعم يجب أن يستمر لفترة طويلة مقبلة. ولن يتحقق ذلك إلا برؤى موضوعية إبداعية. ليس من حق أى قوى ان تنسب السيسى إليها، او تختطفه لحياضها بعد أن نال هذا الإجماع الشعبى الذى يفوق إستحقاقات جميع القوى السياسية مجتمعة، على الأخص أنه هو نفسه قد حسم نوع علاقته بجمال عبد الناصر كمثل أعلى تاريخى، كما حسم امره على ان الماضى لن يعود، سواء ذلك البعيد المجيد الذى جسده عهد عبد الناصر، أو هذا القريب البغيض الذى يجسده عهد مبارك، وأن المستقبل صفحة بيضاء سوف نكتبها جميعاً كما نشاء. نعم من المفيد للسيسى وعهده استدعاء صورة عبد الناصر بما تثيره من معان عزيزة لدى جماهير الشعب، لكن كإطار لخلفية المشهد يزيد عمقه وجلاله دون ان يكون موضوعه. استدعاء يؤكد أن علاقة السيسى بعبد الناصر والناصرية هى علاقة الوطنية الجامعة التى جسدها الشعب المصرى فى ثوراته المتتابعة طوال القرنين الماضيين بداية بثورة الشعب بقيادة عمر مكرم وانتهاءً بجمال عبد الناصر. هذه الوطنية الجامعة التى أنتجت نماذج عديدة متفاوتة الرؤى والقدرات والأفكار، فكان عمر مكرم نموذجاً متفرداً، أعقبه عرابى بنموذج آخر، ليجمع نموذج ثالث بين مصطفى كامل ومحمد فريد، قبل ان يسلم راية القيادة للمرة الأولى- لحزب،هو الوفد الذى قدم النموذج الرابع من سعد زغلول ومصطفى النحاس. بعدهم جاء جمال عبد الناصر ليمثل الرصيد الأبقى والأوفى لجميع النماذج السابقة فى نموذج إستثنائى غير قابل للتكرار. وعلينا أن نسلم بأن الإقرار الشعبى بقيادة السيسى للمرحلة الجديدة يرشحه كنموذج جديد بذاته - يضاف للسابقين . ولو كانت «ناصرية» السيسى حقيقة واقعية ممكنة لكنّا أول من رحب وبشر بها،لكنها غير قائمة، بل غير ممكنة حتى لو أراد السيسى نفسه. ناصرية عبد الناصر فكراً وممارسة تبلورت على امتداد قرن سابق عليه من نضال الحركة الوطنية المصرية التى بلغت ذروة بلورة مطالبها الوطنية فى السنوات العشر السابقة على ثورة يوليو1952. وليس كذلك حال السيسى الذى يقود مركباً يخوض بحراً هائجاً لم تتضح خرائطه بعد. وهى لم تبدأ فى الحقيقة إلا عام 1961، بعد تسع سنوات من انتصار ثورته، يساندها عالم متيم بالفكر الاشتراكى بكل مدارسه، إلى درجة ان الزملاء الماركسيين كانوا يكايدوتنا فى الجامعة بالزعم أن عبد الناصر لم يكن «اشتراكياً حقيقياً» بل سياسى مضطر لتطبيق الاشتراكية مستدلين بحديثه عن «حتمية الحل الإشتراكى». أيامها كنا نرد بالنفى القاطع مستدلين بتطبيق القرارات الإشتراكية فى سوريا زمن الوحدة مما عجل بفصم وحدة البلدين نتيجة رفض التجار السوريين لتلك القرارات مما اسهم فى نجاح الانفصال. اليوم فإن جميع تجارب التنمية بما فيها تلك التى تراعى حقوق الطبقات الشعبية تقوم على أرضية الاقتصاد الحر والاستثمار الخاص. فضلاً عن ان عالم اليوم لم يعد يقوم على المواجهات الحادة بين القوى المتحكمة فيه، وإنما على صراعات محكومة لايظهر منها على السطح إلا توترات يجرى حلها بالتنازلات المتبادلة والمناورات السياسية وهو ما يجسده الوضع الأوكرانى، حيث تلاعبت أمريكا على حدود روسيا ففرضت عليها معركة سوف يظهر أثرها السلبى على روسيا وأدوارها الدولية لاحقاً، كما ان الفجوة التكنولوجية بين الصينوأمريكا مازالت بعيدة تحول دون قيام الأولى بأدوار دولية مؤثرة للسنوات العشر القادمة على الأقل. وكل هذه الأحوال تستدعى أن نفكر مع القيادة الجديدة للبلاد بعيداً عن الضغوط الناجمة عن الرغبة فى استدعاء مراحل تاريخية لم يحن أوان استدعائها بعد. لمزيد من مقالات أحمد عبد الحفيظ