هذا كتاب جدير باهتمام المثقف العربي، كما حظى باهتمام المثقفين فى مختلف بلاد العالم. المؤلف فرنسي، توماس بيكيتى (Thomas Pikett) وعنوان الكتاب: رأس المال فى القرن الحادى والعشرين وقد دخل على الفور قوائم الكتب الأكثر مبيعات رغم أنه ليس رواية ولا كتابا فى السياسة بل كتاب علمى فى الاقتصاد وملىء بالأرقام والرسوم البيانية. الكتاب يتناول موضوعا مثيرا بطبيعته، وهو اللا مساواة بين الناس فى الدخل والثروة ولكنه لا يعتمد قط على الإثارة ولا يقصد حفز الناس على الثورة (مثل كتب كثيرة غيره) إنما يثير الكتاب اعجابك (بل دهشتك) بأشياء أخري. المؤلف يعتبر صغير السن بالنظر إلى ما أنجزه بهذا الكتاب (فهو من مواليد 1971) والكتاب خال تماما من المصطلحات التى تحتاج إلى شرح (بل يحتاج فهمه فقط إلى معرفة بسيطة ببعض الأفكار الاقتصادية الأساسية) والأسلوب واضح وسلس للغاية وجمله قصيرة وتذهب إلى المعنى المقصود مباشرة دون لف أو دوران ودون إطناب لا مبرر له. الكتاب ضخم حقا (570 صفحة دون الهوامش والمراجع) ولكن قراءته ليست مهمة ثقيلة، فهو ضخم فقط لكثرة ما فيه من أفكار وعناوين الفصول وكذلك العناوين الفرعية فى داخل كل فصل، تعبر بصدق عن محتواها دون إبهام ومحاولة للتجمل مما يسهل القراءة ويمكن القارئ من تأجيل قراءة بعض أجزاء الكتاب، الأقل أهمية فى نظره حتى ينتهى من الأجزاء الأهم. والكتاب فوق ذلك يأسرك بصدقه وعدم غروره، فهو لا يبدو مختالا بما صنعه (ككثيرين غيره) ويبدو من السهل أن يعترف بأن إمكانات التحسين والتصحيح والإضافة مازالت كبيرة. المؤلف أستاذ فى كلية باريس للاقتصاد ولكن له موقف جذاب للغاية (على الأقل فى نظري) من علم الاقتصاد فهو يأسف لما حدث من ابتعاد علم الاقتصاد عن بقية العلوم الاجتماعية (ومن ثم فهو يفضل الاسم القديم، (الاقتصاد السياسي) ويضايقه ما يلاحظه من شعور بالتعالى من جانب الاقتصاديين إزاء المشتغلين بالعلوم الاجتماعية الأخري، كما يأسف لشيوع سيطرة الرياضة على الكتابات الاقتصادية، ويرى أنها فى كثير من الأحيان وسيلة لإخفاء خواء وضحالة محتوى الكتابة الاقتصادية. ولكن كل هذا ما كان ليحقق هذا النجاح للكتاب، وهذه الدرجة العالية من الاهتمام لو لم يكن موضوع الكتاب الأساسى على درجة عالية من الأهمية، وكذلك ما وصل اليه المؤلف من نتائج يمكن اختصار الفكرة الأساسية فى الكتاب فيما يلي: إحصاءات الدخل والثروة، التى تتوافر لدينا من أكثر من عشرين دولة، وعبر فترة طويلة تزيد على قرنين من الزمان، تدلنا على حقيقة هامة لابد أن تنتج عنها زيادة اللا مساواة بين الناس أى اتساع الفجوة بين دخل الأغنياء ودخل الفقراء، وكذلك بين ما يمتلكه هؤلاء وأولئك من ثروة. هذه الحقيقة هى أن العائد على رأس المال (من ريع وأرباح وفوائد) يتجه إلى الزيادة بمعدل يزيد على معدل نمو الناتج القومى (أى اجمالى الدخل) هذا الفارق بين المعدلين لابد أن تنتج عنه زيادة الفجوة بين الأغنياء «الذين يحصلون على دخولهم مما يمتلكون من رأسمال» وبين الفقراء (الذين يحصلون على دخولهم من العمل) وهذا الفارق بين المعدلين يمكن ملاحظته بوضوح طوال هذه الفترة الطويلة (أكثر من قرنين) باستثناء فترة ما بين الحربين العالميتين وربع القرن التالى للحرب العالمية الثانية (1914 1970) ولكن هذه الفترة يمكن اعتبارها استثناء يصعب تكراره خلال فترة أطول بكثير، فهذه الفترة التى شهدت تحسنا فى درجة المساواة مدينة بهذا التحسن لما سببته الحربان العالميتان من تدمير شديد لرأس المال، ثم إلى ما اتخذته الدولة من إجراءات، بعد الحرب الثانية، بفرض ضرائب عالية على عوائد رأس المال والثروة، وتقديم مختلف مصادر الدعم لمحدودى الدخل. هذه الأحداث والاجراءات ليس هناك ما يدعو لافتراض أنها سوف تتكرر بالضرورة فى المستقبل، إذ أنها لم تكن تطورا حتميا مثل الأسباب التى تجعل العائد على رأس المال يزيد بمعدل زيادة الناتج القومي. ومن ثم فليس هناك ما يمنع الاتجاه السابق الذى ساد قبل الحرب الأولى (نحو المزيد من اللامساواة)، من أن يستمر فى القرن الحادى والعشرين، وهو ما بدأ بالفعل سبعينات القرن الماضى واستمر حتى الآن. وذلك ما لم يحدث تدخل متعمد من جانب الدولة لتصحيح الأوضاع وفرض درجة أعلى من المساواة، على الأخص بالضرائب التصاعدية على الدخل والثروة. إن الكتاب غنيّ بالأفكار، ولكن هذه هى الفكرة الأساسية فيه. فهل هى فكرة مهمة لدرجة أن نثير كل هذه الحماسة للكتاب؟ نعم إنها كذلك، ذلك أنها تنطوى إذا صحت على وصمة عار فى جبين الحضارة الحديثة، أو على الأقل فى جبين النظام الاقتصادى الذى تبناه العالم الحديث منذ بداية الثورة الصناعية إن وصف هذا النظام »بالرأسمالية«، وصف نادرا ما تصادفه فى كتاب بيكبثي، ولكنه وصف ملائم بالطبع، ويترتب عليه سبب آخر للأهتمام الشديد الذى حظى به الكتاب. إذ يترتب على هذه الفكرة الرئيسية أن النظام الرأسمالى لم يفشل فقط فى تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بل انه لا يحمل فى طياته أى مبرر للتفاؤل بأنه سينجح فى ذلك فى المستقبل. إن المدافعين المحدثين عن الرأسمالية يبنون دفاعهم عنها، ليس فقط على كفاءتها فى تحقيق التقدم التكنولوجى ونمو الناتج القومي، بل على أن هذا التقدم التكنولوجى سوف يؤدى بالضرورة إلى تقليل الفجوة بين الدخول، وزيادة درجة المساواة، مثلما فعل اقتصادى أمريكى شهير، هو سيمون كوزنيتس (simon kuznets) فى خمسينيات القرن الماضي، فزعم بأن المساواة تميل إلى الانخفاض حتى مرحلة معينة من تاريخ الرأسمالية، ثم تتجه بعد ذلك إلى الصعود، مما جعل كثيرين يعتقدون أن هذا هو الحادث الآن، وأن المستقبل سيشهد مزيدا من الاتجاه نحو المساواة. ها هو بيكيثى يقول لنا الآن أن الذى حدث فى أعقاب الحرب الأولى والثانية لم يكن بسبب شيء اصيل فى النظام القائم على حرية السوق، ولا كان نتيجة طبيعية للتقدم التكنولوجي، بل لأسباب عارضة ودخيلة على هذا النظام، وليس هناك إذن فى طبيعة هذا النظام ما يؤدى بالضرورة إلى تضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، بل العكس بالضبط هو الصحيح. إن هذا السبب وحده يجعلنا نفهم لماذا انتفض أنصار الرأسمالية جزعا من ظهور هذا الكتاب، فراحت صحفهم ومجلاتهم (كالفاينانشيال تايمز والايكونوميست البريطانية) تهاجم الكتاب وتبحث فيه عن سقطات وأخطاء. ولكن هذا ليس هو السبب الوحيد لما تعرض له الكتاب من هجوم من جانب اليمين، فهناك أسباب أخرى مهمة أيضا، كما أن الماركسيين من اليساريين وجدوا بدورهم فى الكتاب أسبابا للغضب، مما أرجو أن أتناوله فى المقال التالي. لمزيد من مقالات د. جلال أمين