رغم حالة التفاؤل التى صاحبت توقيع حركتى حماس وفتح اتفاق المصالحة بينهما, وتشكيل حكومة توافق وطنى من كفاءات, فإن تحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام يحتاج إلى مراجعة حقيقية من كلا الطرفين لمنهجهما وسياساتهما التى أفرزتها السنوات الماضية. فحالة الانقسام بين غزة والضفة شكلت سهما فى جسد القضية الفلسطينية, وساعدت إسرائيل فى مساعيها المتواصلة للقضاء على الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى, وتمرير سياسة الأمر الواقع فى تهويد القدس ونشر سرطان المستوطنات فى الأراضى الفلسطينية, والزعم بغياب شريك قادر على صنع السلام. فقد أطاحت حركتا فتح وحماس بالثوابت الفلسطينية, فبدلا من التوافق والاصطفاف حول القضية المركزية وهى تحرير الأرض وإعادة اللاجئين وإعلان الدولة على حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية, دخلتا فى صراع وتنافس سياسى على السلطة والمحاصصة حول الكراسى الوزارية, حيث لا سلطة ولا دولة على الأرض, كما أظهرت خبرة السنوات الماضية أن الدم الفلسطينى لم يعد خطا أحمر, كما كان يحرص قادة الحركتين الرئيس عرفات والشيخ ياسين, وتصادم القادة الجدد واستخدموا كل أساليب التصفية والاعتقال السياسى ضد أنصار كل منهما, وكانت المحصلة النهائية أن كل مساعى المصالحة واتفاقاتها السابقة منذ عام 2002, وتلك التى رعتها القاهرة وأطراف أخرى, تحطمت جميعها على صخرة العناد وتشبث كل طرف بمواقفه, وتدخلات وضغوط أطراف خارجية, خاصة إسرائيل, لا ترغب فى نجاح المصالحة وتعمل على إعاقتها. اتفاق المصالحة الحالية الذى جاء بصورة مفاجئة ودون رعاية خارجية لأول مرة, رغم أنه يستند لوثيقة القاهرة, جاءت لظروف داخلية وخارجية شكلت ضغوطا على الطرفين للإسراع فى المصالحة, فالسلطة الفلسطينية بعد فشل محادثات السلام الحالية مع إسرائيل, التى رعتها الولاياتالمتحدة, وتهديد الحكومة الإسرائيلية بقطع أموال الضرائب التى تحصلها لمصلحتها, وكذلك تهديد الولاياتالمتحدة بقطع مساعدتها, تريد توظيف ورقة المصالحة وإظهار أن القيادة الفلسطينية هى الممثل الوحيد والشرعى للشعب الفلسطينى، وذلك لإنجاح محاولاتها بالانضمام للمنظمات الدولية, وكذلك رفض اتفاق الإطار الذى قدمه جون كيرى كأساس جديد للمفاوضات ويتضمن تنازلات جوهرية تتعلق بالأرض واللاجئين, أما حماس فقد أصبحت تحت الحصار الداخلى والخارجى بعد تغير الأوضاع الإقليمية فى الشهور الماضية, مع تراجع حلفائها الرئيسيين السوريين والإيرانيين والإخوان المسلمين فى مصر, وتواجه أزمة مالية خانقة, كحال السلطة الفلسطينية, بما يهدد بانهيارهما. المصالحة الحالية أقرب إلى الوضع الهش الذى فرضته ضغوط دفعت كل طرف إلى انتهاج سياسة برجماتية, لكنها كغيرها قابلة للانهيار مع تزايد حجم الضغوط الإسرائيلية والأمريكية الرافضة للحكومة الجديدة, ومع الاستغراق فى التفاصيل وعدم حسم القضايا العالقة التى صاحبت تشكيل حكومة التوافق الوطنى, مثل وزارة الأسرى التى تصر حماس على استمرارها دفاعا عن قضية الأسرى فى السجون الإسرائيلية, بينما تريد السلطة استبدال هيئة مستقلة بها, تفاديا لضغوط المانحين الدوليين الذين رهنوا اعترافهم ومساعدتهم للحكومة الجديدة باستبعاد وزارة الأسرى, وكادت تلك المسألة تعرقل إعلان الحكومة لولا اسنادها لرئيس الوزراء رامى الحمد لله لاستيعاب تحفظات حماس, إضافة إلى قضايا المعتقلين السياسيين لدى كل طرف ووضع الأجهزة الأمنية فى الضفة والقطاع, حيث ستظل أجهزة حماس الأمنية على حالها, وهو ما يمثل لغما أمام عمل الحكومة الجديدة. ورغم ذلك فإن اتفاق المصالحة وما تمخض عنه من تشكيل حكومة كفاءات والإعداد للانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتشكيل لجنة لتطوير منظمة التحرير, يمثل خطوة إيجابية وفرصة سانحة, وتحركا للأمام مقارنة بوضع الجمود والانقسام الحادث منذ سنوات وأضر بالقضية الفلسطينية, لكن نجاح تلك المصالحة وتثبيت أركانها على الأرض ومنع العودة للانقسام يتطلب أولا مراجعة كل طرف سياساته ومنهجه واعترافه بأخطائه السابقة وتصحيحها, وثانيا إعادة اللحمة الوطنية بين كل فصائل الشعب الفلسطينى ووقف كل حملات الكراهية والتحريض بين أبناء الوطن الواحد وتأكيد حرمة الدم الفلسطينى, وثالثا إعادة الاعتبار لمرجعية النضال الفلسطينية التى تقوم على وحدة الهدف فى تحرير الأرض واستعادة الحقوق المشروعة, مع تنوع وسائل تحقيق هذا الهدف ما بين التفاوض الذى تتبناه السلطة ويفرض عليها التزامات دولية, وما بين المقاومة المشروعة التى تتبناها حماس, مع استمرار الاحتلال, وفى إطار تكامل الأدوار وليس تعارضها ودون التنازل أو التضحية بالثوابت الخاصة بالأرض واللاجئين, وهذا يفرض أهمية توحيد الأجهزة الأمنية الفلسطينية فى كل من الضفة والقطاع, بحيث تكون تحت قيادة الحكومة الجديدة, وإتاحة حرية الحركة بين المناطق الفلسطينية وعدم التشبث بالتفاصيل, وتوحيد الصف بما يقوى الموقف الفلسطينى تجاه العدوان الإسرائيلى وسياسة التعنت فى عملية السلام, خاصة أن الظروف الحالية ليست فى مصلحة أي من الطرفين مع تراجع الموقف العربى وانشغال دوله بتفاعلات وتداعيات ثورات الربيع العربى, والانحياز الأمريكى لإسرائيل, وبالتالى دون مراجعة حقيقية وتغيير جذرى فى المنهج والسياسات من جانب فتح وحماس, فإن المصالحة والحكومة الجديدة ستكون هشة تسير وسط حقل من الألغام وقابلة للانفجار فى أي لحظة. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد