استبشر المصريون خيرا حين أعلنت المشيخة العامة للطرق الصوفية عن إجراء انتخابات مجلسها الأعلى بعد خلافات فى البيت الصوفى دامت لأكثر من 5 سنوات متواصلة، انتقلت فيها الخلافات بين أهل الزهد والورع والتقوى من ساحات الذكر إلى قاعات المحاكم. وما بين اتهامات من تيارات متشددة لأتباع الطرق الصوفية بالشرك وممارسة البدع والخرافات بسبب الممارسات الخاطئة والدخيلة على أهل التصوف فى الموالد والاحتفالات الدينية، بدأت المشيخة العامة للطرق الصوفية عهدا جديدا بعد انتخاب عشرة أعضاء جدد من بين 21 شيخ طريقة ترشحوا بالانتخابات التى جرت الأسبوع قبل الماضي..ونحن بدورنا نتساءل: كيف يمكن النهوض بالتصوف وإعادته إلى سابق عهده الراسخ فى قلوب المصريين نقيا خالصا، محبا لله بعيدا عن البدع والخرافات التى نالت من صورته وفضت الأتباع والمريدين من حوله؟ كلما تمكنت الدنيا من القلوب وطغى الجانب المادى على الروحى وجفت المشاعر وتقطعت الوشائج بين البشر بعضهم البعض، وبينهم وبين خالقهم، كان التصوف بمفهومه ومعناه الحقيقى هو القادر على بعث هذه الروح من جديد وإصلاح فساد القلوب وإزالة ما شابها من صدأ..لكننا اليوم وبالرغم من مسيس حاجة الأمة إلى قيم وأخلاق ومشاعر المتصوفة لمداواة القلوب وإنقاذها من الغرق فى كدر الدنيا، والطمع فى حطامها الزائل، يقف التصوف عاجزا عن تلبية هذا النداء، ونراه يشكو هذه المرة أتباعه. فبالرغم من تعدد الطرق وزيادة عدد المريدين، فإن التصوف فى القرن الحادى والعشرين بات أقل تأثيرا فى المجتمع، بل وصار متهما فى أحايين كثيرة، وفقد كثيرا مما كان يكنه الناس فى صدورهم للمنتسبين إليه. الأمر الذى طالب معه علماء الدين بتنقية التصوف من السلبيات والممارسات الخاطئة، وتجديده بما يعينه على أداء رسالته فى خدمة الدين والدعوة إلى الله. الحالة المتردية للتصوف حاليا، كما يرى الدكتور القصبى محمود زلط عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، ليست هى الأولي، فيشير القصبى إلى أن التصوف تعرض منذ نشأته إلى الآن لمحاولات الأدعياء والدخلاء لتشويه صورته وطمس حقيقته، وهو الأمر الذى تصدى له المصلحون بكل حزم ودون هوادة، ويرى أن كثيرا من الصوفية أو المنتسبين حديثا للطريق الصوفى قد انحرفوا عن مساره الصحيح، وجعلوه ضربا من البدع والخرافات الاعتقادية والعلمية والسلوكية، وبات التصوف الآن فى أحسن حالاته، مواكب وموائد ورقصا وطبلا وزمرا يصاحب حلقات الذكر واختلاط الرجال بالنساء وحديثا عن الكرامات والخوارق وأخذ العهود على التزام أوراد الطريقة، وقد تكون مشتملة على ألفاظ سريانية أو غير عربية. أما حقيقة متابعة النبى المعصوم صلى الله عليه وسلم وقطع الخلاق واليأس مما فى أيدى الخلائق والأخذ بالحقائق وغير ذلك مما يعبر عن حقيقة التصوف فقد اختفى أو كاد يختفى بين الناس. ويقسم الدكتور إمام رمضان أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد بجامعة الأزهر التصوف إلى ثلاثة أقسام، سنى وبدعى وفلسفي، ويشير إلى أن معظم ما نراه الآن من المنتسبين للتصوف هو التصوف البدعي، لما شابه من سلبيات وانحرافات لا تمت لحقيقة التصوف بصلة، وتبرز صور ذلك فى أن التصوف الآن صار تصوفا شكليا لا مضمون له ولا روح.. فإذا كان التصوف يعرف بأنه روح الدين فأين هذه الروح من المنتسبين للتصوف الذين يلهثون وراء حطام الدنيا ويتشبثون بمتاعها الزائل وتحركهم شهواتهم وغرائزهم؟!.. أين الروح والأمور القلبية فى تلك السلوكيات، ولعل مما ساعد على ذلك ما تعرف عليه المتصوف بتعدد الطرق، وتوارثها، فليس معقولا أن يرث أحد التدين، فالتصوف درجة سامية من درجات التدين، وهذا رزق من الله يهبه بعض خلقه، فكيف ننصب من حرم هذا الرزق شيخا للطريقة يتبعه الناس وهو يحتاج إلى من يأخذ بيديه لطرق الهداية والسمو الأخلاقي. أضف إلى ذلك ما نراه عند الأضرحة والموالد التى ما أنزل الله بها من سلطان الظاهر فيها أنها أوقات للتقرب إلى الله، وما يرتكب باسمها من ذنوب أعظم مما يرجى فيها من حسنات. وبرغم ما ينسب للمتصوفة من سلبيات يؤكد الدكتور عبد الهادى القصبى شيخ مشايخ الطرق الصوفية، أهمية التصوف فى غرس القيم والأخلاق، لأن التصوف هو علم الأخلاق، والهدف من احتفالاته هو اقتفاء أثر الصالحين باعتبارهم النموذج والقدوة وبيان أخلاقهم وآثارهم الطيبة فى الصدق والأمانة والحب والتآخى والانتماء للوطن، وغير ذلك من القيم. لكن للأسف التصوف شأنه شأن كل مؤسسات الدولة وقطاعاتها، انتقل من مراحل قوة إلى ضعف، وواجبنا أن نعيده إلى ما يستحق من مكانة. عشوائية التراخيص وأرجع عبد الهادى القصبى المظاهر الغاضبة التى تصاحب التصوف فى الموالد والمناسبات وغيرها، إلى أن تلك الاحتفالات تتم فى ميادين وساحات مفتوحة، ولا تكون قصرا على أهل التصوف فقط، بل عامة الناس، والكل يحتفل بطريقته، وقد يكون المحتفل خارج نطاق أهل التصوف. وقال إن مشيخة الطرق الصوفية تراعى دائما موافقة الكتاب والسنة فى سائر احتفالاتها، لكنها ليست لها هيمنة على الشارع، بل على اهل التصوف المسجلين لدينا فقط، وإذا صدر سلوك مخالف عن أى من هؤلاء نحاسبه ونناقشه ونصحح له ما وقع فيه من خطأ. أما التجاوزات والبدع لغير المتصوفة فلا نملك محاسبة مرتكبيها، والمسئول عن ذلك هو من يسمح لهم بذلك، وهذه مهمة الأحياء التى تمنح تراخيص الاحتفالات لمن تشاء ولسنا نحن أصحاب التراخيص، لذا يجب على أجهزة الدولة خاصة فى المناسبات الدينية والقومية، أن تضبط هذه الأمور، وتراعى ما لهذه المناسبات من جلال واحترام، حتى يمكننا الحفاظ على التصوف وتحويل تلك الاحتفالات إلى مؤتمرات علمية يستفيد منها الحضور. توريث الطرق وأضاف أن الأصل فى أهل التصوف أنهم أهل خير ونقاء، لذلك تكون الأولوية لابن شيخ الطريقة بعد غياب الأب عن المنصب، فالابن غالبا ما يكون مؤهلا لذلك، لأنه يتعلم التصوف فى حضرة أبيه ويمارسه على الواقع، لذا فقد منحه قانون التصوف الأولوية فى خلافة أبيه للمشيخة، شريطة أن تتوافر فيه شروط معينة تضمن تأهيله لهذا المنصب وكفاءته له، فإذا كان غير ذلك حُرم من المنصب وإن كان أبوه شيخا, كما أننا لا نتردد فى محاسبة من يسيء للتصوف بسلوكه، سواء من الأتباع أو شيوخ الطرق الذين يجب أن يكونوا قدوة لغيرهم. واستطرد قائلا: تنقية التصوف حاليا فى مقدمة اهتماماتنا، حتى يعود إلى سابق عهده من الصفاء والنقاء، وبدأنا ذلك بالفعل بأن دعونا إلى تخصيص معاهد ومدارس صوفية بمصر لنشر الفكر الوسطى الصحيح كما تعلمناه عن النبى صلى الله عليه وسلم. وبالفعل يوجد الآن معهد صوفى للعشيرة المحمدية تشرف عليه المشيخة العامة للطرق، يتم فيه تدريس علوم التصوف من خلال أكابر العلماء المتخصصين بالأزهر وغيرهم، وهذه خطوة على طريق الإصلاح. سبل التجديد وعاد الدكتور القصبى زلط ليؤكد ضرورة أن تكون تنقية التصوف وتجديده هدفا يلتف حوله كل العاملين فى حقل الإسلام من علماء ومفكرين ودعاة ومصلحين.. ويرى أن ذلك يقتضى أولا: تحكيم الكتاب والسنة مصدرى التصوف الأصليين، مع إحياء منهج السلف الصالح الذى أكثر من الأسس التى قام عليها التصوف قولا وعملا. الأمر الثاني: مراجعة أقوال مشايخ الصوفية، فذلك خير سلاح لإصلاح التصوف وتنقيته، إذ يقال للمشاغبين والمحرفين والمبدلين وأصحاب الأهواء: إذا كنتم صوفية فهؤلاء سلفكم ليسوا مثلكم، وإنما هذه أقوالهم وأحوالهم بين أيدينا وأيديكم، فهلا اقتديتم بهم؟! ورحم الله الشعرانى حين جعل الاقتداء بمشايخ الصوفية إحدى العلامات التى يعرف بها الصادق من الكاذب، فقال:«والضابط فى تمييز الصادقين من الكاذبين إقامة الأعمال كلها على قانون الشريعة ومتابعتهم لآدابها والتأدب بآداب أهل الطريق . أما الأمر الثالث لتصحيح التصوف، كما يرى القصبى زلط، فهو تحكيم العقل، فالصوفية الصادقون من أكثر الناس اهتماما بالعقل والفكر، ولولا ذلك ما كانت طريقتهم أقوم الطرق.