بعد ساعات ندخل فى حالة من الصمت الانتخابى الإعلامى لمدة ثمان وأربعين ساعة, يعقبها خروج كبير متوقع لملايين المصريين لاختيار رئيس جديد للبلاد من بين مرشحين اثنين, هما المشير عبد الفتاح السيسى والسيد حمدين صباحى، ومثلما كانت الحملة الانتخابية كاشفة للمواقف، والتوجهات جاء تصويت المصريين فى الخارج مانحا للأمل فى عملية انتخابية، تغسل جراح الماضى القريب وتصوب خيارات لم تكن فى موضعها جلبت على بلادنا متاعب وأحزانا وتخبطا. وبقدر فداحة التجربة بقدر ما نخرج اليوم منها أكثر قوة وتصميما على بنيان جديد للدولة المصرية، وعلى وضع أولويات ثوراتها فى المقدمة وأولها العدالة الاجتماعية التى ضلت طريقها لأربعة عقود ولم يعد وطننا يطيق حمل التجارب الفاشلة ولم يقبل البقاء على حافة الحلم الذى طال انتظاره .. ------ عاينت شخصيا، فى الأيام القليلة الماضية خلال زيارة قصيرة لمدينة دبى للمشاركة فى منتدى الإعلام العربى حالة الفرحة والسرور التى يعيشها المصريون فى الخارج بعد إدلائهم بأصواتهم فى انتخابات الرئاسة، وتشبثهم بالأمل فى غد أفضل وأن ترى مصر طاقة نور جديدة تزيح عتمة الأيام الحالكة التى عاشتها تحت حكم كل من الرئيسين الأسبق حسنى مبارك والسابق محمد مرسى.. لقد استوعب المصريون فى الداخل والخارج أن خيارات الصناديق قد لاتأتى بالأفضل دائما، ولكن الخطأ والتجربة أمر وارد فى السياسة، والعبرة بالخروج السريع عن المسار الأعوج وتصويب العملية، على نحو يعيدها إلى المسار الصحيح.. واستوعب المصريون أن الثقة فى حاكم يأتى بالصناديق ليست ضمانة وحيدة لقدرته على القيام بأعباء المنصب الرفيع، ولكنها مجرد نقطة البدء التى بعدها تظهر قدرات الرئيس وإنحيازاته ومهاراته الحقيقية فى مقعد الحكم.. وأستوعب المصريون أن ثقة الأغلبية لم تكن أبدا «جواز مرور» لسيطرة فريق أو جماعة على السلطة أو لاستنساخ الماضى دون حسيب أو رقيب، ولنا الموعظة فى ثورة 30 يونيو.. فى الأيام الماضية، رأيت حبا جارفا لمصر من أبنائها ومن عشاقها فى منطقة الخليج ودولة الإمارات وفى حينه كان مشهد واحد كفيلا بتلخيص مواقف كل من رئيس دولة الإمارات الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان ونائب رئيس الدولة رئيس الوزراء حاكم دبى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم وولى عهد أبو ظبى الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، وذلك عندما وقف وزير الأوقاف الإماراتى يناشد المصريين بأن يصونوا بلدهم ولا يضيعوها.. وما أجمل عبارة الوزير الإماراتى الدكتور حمدان المزروعى عندما قال «أنتم من إذا رأيناهم بخير اطمأنت قلوبنا وأنفسنا.. وإذا رأينا الضرر وقع بكم خفنا على ديننا وأنفسنا».. ------- خرج المصريون من محنة عام تحت حكم جماعة إرهابية أكثر إصرارا فى حسم خياراتهم المستقبلية وفى الوقوف وراء من يمكنه قيادة وطنهم فى تلك اللحظة الفاصلة فى تاريخهم.. فطرة المصرى ساعة الخطر قادته إلى الخروج التاريخى فى نهار يوم عظيم قبل شهور ليقتص من جماعة مارقة وبنفس درجة الوعى والإدراك صبر على إرهاب الفئة الخارجة على القانون ورد بطريقته الخاصة فى الاستفتاء على الدستور الجديد، وها هو يستعد مجددا لانتخاب رئيس جديد يحمل على كتفيه عبئاً ثقيلاً لم يسبقه إليه زعيم أو قائد فى السابق.. رئيس يأتى والاقتصاد متراجع والجنيه المصرى يتعرض لضغوط غير عادية والاستثمارات فى أدنى مستوياتها منذ سنوات والسياحة أحد مصادر الدخل الرئيسية محل إستهداف وغول البطالة يتوحش ويضرب بعنف فى قلب المجتمع ويزيد من إحباط ثروتنا البشرية وفوق ما سبق جماعات إرهابية تمارس العنف والقتل والتدمير بغية العودة إلى السلطة.. وفى اطراف الدولة، حدود مصر مهددة من تنظيمات وجماعات الإرهاب التى تآمرت مع الطغمة الحاكمة فى السابق وحاولت أن تجعل من بلادنا ملاذا لأحلامها الفاشية المريضة.. ------ فطرة المصريين هى التى قهرت هؤلاء.. وفطرة المصريين هى التى ستقود مجتمعنا إلى جادة الصواب بالوقوف وراء حاكم جديد يضع المصلحة الوطنية فوق أى اعتبار ويملك نظرة شاملة للأمن القومى المصرى والعربي.. البرامج الانتخابية والإستراتيجيات عناصر مهمة ويتوقف عليها أشياء كثيرة ولكن الروح الجديدة الوثابة التى تبنى على ثقة المواطن فى قيادة أفضل هى الرصيد الحقيقى الذى يمكن التعويل عليه.. الروح الجديدة تجلت قبل أيام فى تدفق المصريين فى الخارج على البعثات الدبلوماسية لانتخاب الرئيس الجديد، والروح الجديدة هى التى سنراها بإذن الله بعد ثمان وأربعين ساعة فى كل مقار الانتخاب فى الداخل.. وكلما زاد حجم تفويض الوافد الجديد إلى قصر الاتحادية كانت ثقته أعلى وقراراته أكثر صلابة فى مواجهة التحديات الضخمة التى تنتظره.. الروح الجديدة هى التى قادت شعوبا أخرى إلى صناعة المستحيل بعد حروب طاحنة وهى الروح التى دبت فى جسد أمم أخرى كانت فى مراتب متأخرة بين الشعوب ورفعت تلك الأمم إلى القمة.. تلك روح «الاصطفاف» الوطنى التى ينبغى أن تخرج من مرحلة الشعارات إلى واقع جديد على يد رئيس تلتف حوله أغلبية حاسمة من أجل أن يعمل من صباح اليوم التالى على ملفات مصيرية هى الأمن والاقتصاد والبطالة والعدالة الاجتماعية المنشودة.. ------ صناعة الأغلبية الحاسمة أو كتلة التغيير المساندة لرئيس جديد تتطلب منا جميعا أقصى درجات المسئولية فى الأيام القادمة بالحرص على التصويت والتصدي، أيضا، لنغمة أن المعركة الانتخابية محسومة مقدماً لمرشح بعينه وأن ما يحدث هو تحصيل حاصل لا يغنى ولا يثمن.. تلك هى السلبية بعينها التى يريد خصوم الثورة الشعبية التى أطاحت بجماعة الإخوان تصديرها من أجل إضعاف الإجماع حول مرشح يحرز تفوقا ظاهرا فى الشارع المصرى والبناء على الإحجام عن التوجه للصناديق بموجات عنف جديدة تزيد من وطأة الأزمات وتهيئ المناخ لانقسامات أكبر حسب ما يحلم المروجون للمقاطعة. الشواهد تقول إن المصريين قد أعدوا العدة لتوجيه ضربة قاصمة لأصحاب السيناريو السابق.. وعن وعى وإدراك ستخرج عشرات الملايين يومى الاثنين والثلاثاء المقبلين.. الخروج هذه المرة يحمل معانى كثيرة لمستقبل بلدنا: يحمل رسالة شكر إلى القوات المسلحة التى استجابت لإرادة الشعب وانقذت هوية الوطن ووجوده من الضياع وأوصلتنا إلى تلك اللحظة الجديدة.. يحمل رسالة تقدير إلى الرئيس... القاضى الجليل عدلى منصور لقيادة المرحلة الانتقالية التى تحملت عبء المرحلة الصعبة.. يحمل رسالة عرفان إلى كل شهداء الجيش والشرطة الذين ضحوا من أجل أن يحيا الوطن سليما معافى دون إرهاب قلة تحمل سلاح الغدر والخسة.. يحمل رسالة إلى شهداء الثورة المصرية فى 25 يناير أن دماءهم تصنع فارقا اليوم وأن الغد سيأتى بكل ما حلم به شباب وشابات خرجوا من أجل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.. .. سنكسب جميعا عندما يترك البعض منا مقاعد المتفرجين إلى صناديق الانتخاب.. وسنكسب فرصة لا تعوض فى صياغة مستقبل أمة لا تملك رفاهية الانتظار! لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام