كان الأمر مثيرا، هذا الذى حدث يوم الجمعة قبل الماضى، فقد بدا المؤتمر الصحفى الذى عقد بمقر الخارجية التركية، عقب مباحثات الوزير أحمد داود أوغلو، ونظيره العمانى يوسف بن علوى، وكأنه خصص للرد على تقرير «فريدوم هاوس» وليس الحديث عن العلاقات بين أنقرة ومسقط، بيد أن نصف الوقت المخصص، وربما أكثر راح فى التنديد بتلك المنظمة التى «إدعت زورا وبهتانا» أن حرية التعبير تراجعت فى الاناضول، وفى عبارات محددة شدد داود أوغلو على أن الصحافة فى بلاده تتمتع بحرية لا توجد فى دول أخرى من العالم، مطالبا الحضور ومعظمهم من الصحفيين والإعلاميين الاتراك رفض هذا التقرير الأمريكى السنوى المغرض . ولم ينتظر الرجل ردا، وكأنه على يقين أن الجمع سيبادر بتنفيذ دعوته، وشجب كل ما من شأنه الإساءة لديمقراطية بلادهم فى حين الحقيقة التى لم يتبينها أوغلو، هى تلك الهمهمات والنظرات الخجولة التى تبادلها أصحاب القلم وزملاؤهم الواقفون وراء الكاميرات. والحق أن المراقب لم يبذل جهدا يذكر، فسرعان ما تذكر واقعة انتشرت مفرداتها كالنار فى الهشيم وذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعى وفيها إعترافات رئيس تحرير صحيفة «خبر تورك» فاتح ألطايلى والتى أدلى بها لشبكة «سى أن إن تورك» بتعرّضه لضغوط ضخمة من الحكومة، لعزل صحفيين وتعديل أخبار أو منع نشرها, ومضى ألطايلى قائلا: لست وحدي، فكل الصحفيين فى تركيا واقعون تحت هذا الضغط وهذه التدخلات. فكل يوم تنهمر التعليمات والكلّ خائف ثم خلص إلى النتيجة المأساة وهى أن حكومة أردوغان تدوس شرف الصحافة بأقدامها ولا تسمح بصوت معارض لها. هذا الماضى القريب جدا سرعان ما لحق به حاضر آن مخيف، فلم يكد يمر يوم على غضب وزير الخارجية واستهجانه من حملة «الافتراءات الموجهة ضد حكومة العدالة والتنمية الشامخة»، إلا ويصدر وتخرج منظمة العفو الدولية ببيان شديد اللهجة ينتقد قمع السلطات الأمنية لآلاف المتظاهرين فى عيد العمال. ولمزيد من إحراج دولة أردوغان تم بالتزامن فى العاصمة الفرنسية باريس تسليم جائزة حرية الصحافة العالمية لعام 2014 التى تمنحها اليونسكو وتحمل أسم الكولومبى الراحل جييرمو كانو، للصحفى التركى أحمد شيخ الملاحق بتهمة التآمر على الحكومة وتم توقيفه منذ مارس 2011، وذلك خلال موكب احتفالى فى مقر المنظمة ذائعة الصيت ولم تنس اليونسكو إن تصف الشيخ بالمستقل، المدافع الشرس عن حقوق الإنسان، والمندد فى مقالاته بالفساد وانتهاك حرية التعبير لبنى وطنه، والمصادفة أن زميله نديم سينير وهو أيضا تركى الذى اعتقل معه وسبق ونال جائزة معهد الصحافة الدولية لعام 2011، كان ضمن المجموعة المتهمة بأنها ساعدت شبكة مناهضة للنظام. وبطبيعة الحال ومع هذا السيل من القيود وتلفيق التهم، كان لابد وان وتتعرض تركيا بانتظام إلى النقد من منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والتى تقف بالمرصاد ضد انتهاك حرية الصحافة ويكفى أنها صارت فى حقبة العدالة والتنمية فى المرتبة 154 من بين 179 دولة فى الترتيب العالمى العام المنصرم وفقا لمعيار إحترام حرية الصحافة الذى تعده منظمة مراسلون بلا حدود. وحتى يتكمل المشهد العبثى اعلنت اللجنة العليا للانتخابات النتائج الرسمية للانتخابات المحلية التى جرت نهاية مارس الماضى، وبالطبع احتل العدالة المركز الأول بنسبة 45%، يأتى هذا فى الوقت الذى كتب عنه مراد يكتين الكاتب المشهور فى راديكال اليومية اليسارية بمرارة واصفا كيف فاز تزويرا مستغلا كافة إمكانات ومؤسسات الدولة التى كان يفترض أن يمتنع عن استغلالها بالمخالفة لكل الاعراف والقواعد. وليته اكتفى فقط بذلك، بل ذهب إلى إساليب حكام العالم الثالث بقطع التيار الكهربائى بشكل متزامن وعلى فترات طويلة فى عدد من المناطق التى كان يجرى فيها عدّ الأصوات وفرزها فى صناديق الاقتراع والتى كان فيها التنافس قوياً ومحتدماً بين المرشحين، ولأنه خشى خسارته فيها، كان له ما اراد وفاز مرشحوه عنوة، هذا إضاقة إلى عشرات الشكاوى من تدخل قوى الامن فى المناطق النائية بوسط الاناضول وشرقها لمصلحة مرشحى الحكومة، بل ومنعها احياناً مراقبى الاحزاب الاخرى من دخول أماكن الاقتراع. بالتوازى مع هذا لا تتوقف أحاديث الفساد كاشفة هى الأخرى المزيد من الجوانب التى تكرس وعلى نحو نهائى شكل الحكم الذى يجنح للاستبداد والتسلط والهيمنة، وها هو البرهان يجسده البرلمان حينما شرع فى مناقشة قضايا الفساد المتهم فيها ثلاثة وزراء سابقين ومعهم أبناؤهم وبعض رجال الأعمال وعلى غير العادة لم تبث الجلسة على شاشات التلفاز بسبب تعمد الحزب الحاكم بما لديه من أغلبية عقدها الاثنين الفائت بدلا من الثلاثاء الموعد المعتاد حتى لا تبث من خلال الشبكة الفضائية «تى آر تى» المخصصة لنقل جلسات البرلمان والتى تعطل يوم الاثنين، بما أضطر نواب المعارضة لتصوير وقائع الجلسة مستخدمين أجهزة الايباد وهواتفهم المحمولة وبثها مباشرة على المواقع الالكترونية. ومن المفارقات العجيبة التى تزخر بها الميديا، أن قطاعات لا بأس من المجتمع مقتنعة تماما بأن الحكومة فاسدة، ومع ذلك تؤكد أنها ستصوت مجدداً للحزب الحاكم، والسبب غياب البديل الناضج وهو ما دعا المواطن البسيط أن ينحاز إلى الاستقرار السياسى والاقتصادى ولا بأس لو إختفت الحرية بالتزامن مع إقتراب الذكرى الأولى لأحداث حديقة جيزى الدامية بتقسيم والتى بدأت إرهاصاتها نهاية ذات الشهر من العام الماضى.. ورغم إنها وئدت بقسوة إلا أن أنينها مازال يسمع فى أركان الميدان العتيق.