ثمة سؤال لا نملك الفرار منه ولم نقدم عنه إجابة حتى اليوم. السؤال هو هل يعني إصلاح السلطة بالضرورة صلاح المجتمع ؟ ومن الذي يفسد الآخر : هل السلطة هي التي تفسد المجتمع أم أن المجتمع هو الذي يفسد السلطة ؟ حين نعود لكتابات المفكرين والمصلحين المصريين في أواخر القرن التاسع عشر والعشرين نكتشف تباين رؤيتهم في هذه المسألة. ولعلّ تباين الرأي ما زال قائماً حتى وقتنا هذا بين من يرون أن معركتنا الحقيقية هي معركة ثورة ومن يرون أنها معركة وعي. حسناً .. لقد جرّب المصريون معركة الثورة فزادت الأمور تعقيداً. لماذا زادت الأمور تعقيداً ؟ هذا سؤال واسع تتشعب إجابته وتختلف فيه وجهات النظر. لكن المؤكد أن هناك ثلاثة أسباب وراء تعقد المشهد الثوري وربما تراجعه إذا أردنا أن نسمي الأشياء بأسمائها. 1- أن هناك قوى إقليمية وعالمية ليس من مصلحتها نجاح ثورة مصرية يمكن أن تلهم شعوب المنطقة بثورات مماثلة 2- أن ضعف الوعي جعل الناس فريسة للدعاية المضادة فتنكر الجميع للثورة إلا قليلاً 3- أن النخب المصرية أسهمت في نجاح الثورة وانحازت لها في البداية ثم ما لبثت بعد فترة قصيرة أن اختارت الانحياز إلى تطلعاتها ومصالحها الخاصة. لنعترف أننا ( سلطة ومجتمعاً ) نتقاسم المسؤولية عما آلت اليه أحوالنا. فوراء كل سلطة مستبدة وفاسدة يوجد مجتمع أو بالأقل نخبة ارتضت بذلك وشرعنته واستفادت منه. ألم يكن » هايدجر« الفيلسوف الألماني هو الذي وضع هتلر فوق المساءلة ؟ يقولون في علم القانون الجنائي إنه لولا المحرض على الجريمة لما كان الفاعل الأصلي أحياناً . للدولة سلطات ودور ومؤسسات. وللمجتمع ثقافة وقيم وطاقات. فكيف حال الدولة والمجتمع اليوم؟ ينبئ واقع الحال أن الدولة العربية مأزومة والمجتمع العربي حائر. أزمة الدولة العربية أنها وصلت إلى نهاية طريق مسدود. والطرق المسدودة لا تتيح خيارات كثيرة. فإما الإصلاح أو الثورة. الإصلاح بحكم اللزوم العقلي يتطلب حلولا جذرية لمشكلات عميقة ومزمنة . أما الثورة - البديل الثاني- فتعني بحكم التعريف والمنطق القطيعة مع الأوضاع السابقة التي استمرت في الدولة العربية الحديثة لما يقرب من خمسين عاماً أو يزيد. وثورة بهذا المعنى لا بد وأنها تهدد مصالح البعض وتقلق مصالح البعض الآخر. التهديد ينصب على مصالح سياسية واستراتيجية واقتصادية لقوى كبرى مهيمنة. فهذه منطقة كانت ثروتها وموقعها نعمة ونقمة في آن معاً. وللثورة تطلعاتها الوطنية والقومية المشروعة وإلا لما استحقت بداهة وصف الثورة. جزء من مشكلة القوى الكبرى الغربية أن الثورات العربية قد كشفت عما تعانيه من حيرة وتناقض وربما انفصام. فالغرب بعواطفه يؤيد الثورات العربية لكنه بعقله السياسي يتوجس منها. أما القوى الكبرى الآسيوية مثل الصين وروسيا فيبدو أنها تحمل قدرا من الجفاء والنفور من الثورات العربية. مشهد الميادين الغاضبة والمظاهرات المليونية لن يسعد الصينيين والروس. من الناحية الداخلية هذا فأل سيء لهم ! ففي عصر الصور المؤثرة والسماوات المفتوحة لا بد وأن الشعوب تتعاطف وجدانياً وتتفاعل عقلياً. الشعوب تساءل نفسها كلما رأت شعباً آخر يثور. والثورات العربية لا تهدد مصالح القوى الكبرى فقط بل تقلق أيضاً نظماً وأنساقاً اجتماعية وثقافية عربية أخرى في الخليج مثلاً. هذه النظم لم تبلغ الدرجة نفسها من التطور المدني والحقوقي والسياسي الذي كانت قد أدركته مصر وتونس على سبيل المثال قبل اندلاع الثورة فيهما. من هنا تبدو أزمة الدولة في هذه النظم. فالخيار الإصلاحي الجذري يثير المخاوف فهو لدى البعض قفزة في الهواء غير محسوبة النتائج. أما الخيار الثوري فهو أيضاً في مجتمع ذي طابع قبلي ونسق ثقافي محافظ يبدو قفزة في الزمان ربما تأتي قبل موعدها. وبين قفزات ( المكان ) وقفزات ( الزمان ) يظهر البديل الثالث وهو الإصلاح بطريق التدرج والتراكم. لكن هل يسمح إيقاع العصر بهذا البديل الثالث ؟ الدولة العربية إذن مأزومة واقعة بين شقي رحى إصلاح مطلوب أو ثورة على الأبواب. والإصلاح بالقطعة لن يسد نهم الشعوب. فما أن تقدم السلطة جزءاً من الإصلاح الا وتطالب الشعوب بجزء تال. فإذا قدمت هذا الجزء ارتفع سقف مطالب الشعوب مرة أخرى. فما يقدم بالأمس لم يعد يكفي اليوم . وما يُقدم اليوم لن تقنع به الشعوب غداً. وهكذا سيصل السقف يوماً إلى منتهاه. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم