شكلت زيارة وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى لجنوب السودان وطرحه مبادرة تشكيل حكومة انتقالية, رهانات لدى البعض بأن هناك حلا فى الأفق للصراع المستعر بين طرفى الأزمة منذ خمسة أشهر, مع استمرار حالة اللاحسم سياسيا وعسكريا, بينما تتفاقم تداعياته الإنسانية والأمنية. لكن التفاؤل حول فرص الدور الأمريكى, يتجاهل العديد من الاعتبارات والظروف التى يشهدها الصراع فى الجنوب, فالغرب وخاصة أمريكا, كثف ضغوطه وآلياته للإسراع باستقلال دولة الجنوب كهدف أساسى, دون بناء مقومات حقيقية للدولة ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والأمنية التى تمكنها من الحياة, وولدت دولة الجنوب بشكل غير طبيعى, فلا مؤسسات سياسية قوية ولا مؤسسات أمنية سواء جيش أو شرطة ولا حتى مؤسسات اقتصادية قادرة على توظيف موارده الطبيعية الهائلة خاصة من النفط, كما لم تبن الدولة على أسس الديمقراطية الحديثة التى ترتكز على المواطنة وتداول السلطة بشكل سلمى, وتتراجع معها القبلية والعرقية, ولهذا كان الصراع, الذى اندلع فى منتصف ديسمبر الماضى, كاشفا للتناقضات الجوهرية التى يعيشها الجنوب, وأبرزها الفشل فى إدارة الصراع بطريقة سلمية واللجوء إلى خيار الحرب والقتال, وهو ما يطرح التساؤلات حول مستقبل تلك الدولة وفرص استمرارها بعد حالة التعثر خلال السنوات الثلاث الماضية. فمع غياب مفهوم الدولة فى الجنوب أديرت العملية السياسية وفقا للقبلية والشخصنة تجسدت فى صراع الرئيس سيلفا كير ونائبه أريك مشار على السلطة واستناد كل طرف لقبيلته وتحالفاته لإقصاء الطرف الآخر, ودخل شركاء النضال فى الحركة الشعبية من أجل استقلال الجنوب, فى محاولة للاستئثار بالسلطة وإقصاء الآخرين وكسب الشرعية لمصلحته, وتوسع الصراع من صراع بين رأسى الحركة الشعبية إلى صراع متعدد الأبعاد, سواء فى بعده المسلح, وبعده القبلى بين الدينكا التى ينتمى إليها كير والنوير التى ينتمى إليها مشار, وبعده الخارجى وفشل جهود منظمة الإيجاد فى تسوية الصراع, مع تشابك أدوار خارجية أخرى, سمتها الأساسية تعقيد الصراع وليس حله. وساعدت بيئة الفقر والبطالة والفساد وثقافة الكراهية فى تغذية الصراع وتأجيجه. ولذلك فإشكالية الحل الخارجى, أنه يركز على مجرد إطفاء نار الصراع لكن دون البحث فى مسبباتها وعلاجها بشكل جذرى, فالاتحاد الإفريقى, وعبر الإيجاد, لم يفلح خلال شهور من الوساطة والمفاوضات المتعددة بين طرفى الأزمة, سوى فى إنجاز اتفاق هش لوقف العداء بينهما والإفراج عن المعتقلين, لكنه لم يدخل حيز النفاذ واستمر الصراع فى حالة من الشد والجذب بين طرفيه ولعبة السيطرة على المدن الاستراتيجية مثل ملكال وبور وبنتيو وفقا لموازين القوى بينهما, كما أن الولاياتالمتحدة, والتى كانت القوة الأساسية وراء استقلال الجنوب واعتبرته إنجازا رائعا لسياساتها الخارجية, بل يكاد يكون الوحيد لإدارة أوباما, أظهر استمرار الصراع وجرائم الإبادة والقتل الجماعى على الهوية وإثارة المنظمات الحقوقية الدولية ووسائل الإعلام العالمية فشل هذا الإنجاز ولهذا استشعرت الحرج, وجاء كيرى يبحث عن اتفاق لفرضه على طرفى الصراع من خلال تشكيل حكومة انتقالية تضم عناصر من الحكومة والمعارضة, وهو بالطبع حل هش, فمن الصعب أن يتعاون كير ومشار فى حكومة واحدة بعد أن أدت أحداث القتل الدموية إلى انعدام الثقة بينهما, وإحداث شرخ بين القبائل, كما أن خلفية وشخصية الرجلين المتناقضة, حيث كير العسكرى مع مشار الأكاديمى, تزيد من صعوبة التوافق بينهما, ويجعل الصدام بينهما قابلا للانفجار فى المستقبل. وبالتالى فإن حل أزمة جنوب السودان ينبغى أن يكون داخليا بالأساس وليس حلا يفرض من الخارج, حيث إن خبرات وتجارب الحلول المفروضة من الخارج غالبا ما تكون هشة وتنتهى بالفشل, والحل الداخلى هو بأيدى الجنوبيين أنفسهم, خاصة سيلفا كير ومشار, من خلال إجراء مصالحة وطنية حقيقية بين شركاء الأمس وتحقيق التوافق واللحمة بين أبناء الجنوب, وإعلاء المصلحة العليا على المصالح الشخصية والقبلية, حتى وإن اقتضى الأمر تشكيل حكومة وطنية دون الرجلين, باعتبارهما مسببي الأزمة, خاصة أن سليفا كير ذاته أعرب للرئيس الكينى عن استعداده للتنحى إذا كان ذلك فى مصلحة الجنوب, وأن تضم تلك الحكومة جميع ألوان الطيف السياسى الجنوبى, وأن يكون هناك قناعة حقيقية لدى جميع أطراف الصراع أن تكلفة الحرب والقتال أغلى جدا من تكلفة السلام والتعاون, وتوجيه الجهود صوب التنمية والازدهار الاقتصادى وتوظيف موارده الطبيعية من النفط لمعالجة الفقر والبطالة وبناء مؤسسات الدولة الحقيقية بإنشاء جيش موحد يضم جميع الميليشيات المسلحة, وشرطة قوية قادرة على بسط الأمن, ومؤسسات إدارية لمحاربة الفساد وتوجيه المساعدات الخارجية وعائدات النفط لمصلحة المواطنين, وليس لجيوب النخبة الحاكمة, وترسيخ الديمقراطية الحقيقية التى تستوعب جميع الاختلافات القبلية, لبلد يتكون من 64 قبيلة, وأن يكون الدور الخارجى, سواء الأفريقى أو الأمريكى, مكملا ومساعدا فى اتجاه إنجاح الحل الداخلى, أما الإصرار على فرض الحل الخارجى فهو رهان خاسر يكرس الصراع ويطيل من أمده وتداعياته السلبية فى داخل الجنوب وخارجه. لمزيد من مقالات احمد سيد احمد