وكان الشراب قد أثقل الرءوس، فسألت صديقي غير الخليجي مستشار الجائزة الخليجية المليونية: كيف تمنحون الجائزة لرواية متواضعة؟ ضحك وقال إن الجائزة تقررها هيئة الجائزة، ومن حكم في ماله ما ظلم. أما لجنة التحكيم فهي مجرد قناع، ترسل الكتب إلى المحكمين/الأقنعة، ويختارون أعمالا، والأصح أنهم يرشحون أعمالا للفوز، ويرسلون التقارير، لا يتقابلون ولا يعرف بعضهم بعضا، إلا في حفل توزيع الجوائز. في نوبة جوائز سألني كاتب مغربي عضو لجنة تحكيم: قرأت رواية فلان؟ ابتسمت ولم أعلق. فهم سخريتي، وزاده صمتي حيرة، قال إنه يريد أن يريح ضميره قبل توزيع الجائزة. كانوا قد أعلنوا اسم الفائز، وقلت إنني توقفت عن قراءة جديدة، وهذا الجديد عمره ربع قرن مثلا. هز عضو لجنة التحكيم/القناع رأسه وقال: بفلوسهم! يخلق الكتاب أوهاما، وبعد خيبة الأمل، يلجأون إلى مقولات كبرى، منها أن الجوائز لا تصنع مبدعا. وقد عزيت نفسي مرتين مع روايتي «أول النهار».. الأولى بعد وصولها للقائمة الطويلة في الدورة الأولى لجائزة البوكر 2008، والثانية حين أخبرني عضو لجنة تحكيم جائزة مصرية أن رئيس لجنة التحكيم، وهو شيخ يتصابى ولا يكف عن الالتفاف حول خيام الكاتبات، قال في الاجتماع الأخير قبل إعلان الجائزة: «سعد القرش صغير في السن وقدامه وقت، نعطي الجائزة لفلان لأنه تجاوز الستين وصاحب عيا». ثم تلقيت يوم «موقعة الجمل» 2 فبراير 2011 اتصالا من رقم دولي مجهول. لم أشغل نفسي من أي دولة، لكنها دولة لم يأتني منها اتصال. قدرت أن من يتصل لأمر مهم سيحاول مرة ثانية. وفي اليوم التالي لم ألتقط من اسم المتصل، في زحام ميدان التحرير، إلا كلمة «مجذوب». دعاني إلى ندوة بالسودان يوم 16 فبراير. كررت الاعتذار، وأصر قائلا إنهم يريدون تكريمي. عجبت في صمت: من يعرفني في السودان لكي يدعوني إلى ندوة، فضلا عن التكريم؟! شكرته واقترح أن نؤجل اتخاذ قرار. يوم السبت 12 فبراير 2011، لم أكن قادرا على الكلام، صوتي ضائع من فرحة أمس، وجاءتني رسالة: «ألف مبروك، ودعوتنا قائمة. أرجو الرد سريعا». كانت خبر حصولي على «جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي» سرا، هكذا أوصى مجذوب عيدروس الأمين العام للجائزة، ولكن تجارب «أول النهار» السابقة علمتني ألا أفرح ما لم يتأكد لي الأمر، فكتبت رسالة هاتفية: «أخشى أن أكون خالفت الشروط التي لا أذكرها الآن، وأضعكم في حرج. وتقتضي الأمانة إيضاح أن روايتي «أول النهار» نشرت 2005 بالقاهرة». استيقظت ظهر اليوم التالي، لأجد ثلاث رسائل هاتفية: الأولى: «أرجو أن توضح كيف خالفت الشروط». الثانية: «شكرا لك على التوضيح». الثالثة: «شكرا لك على التوضيح وليس هناك شرط يمنع، على الأقل هذه الدورة، أرجو إرسال صورة الجواز الآن». خشيت أن أفرح بالجائزة. لم أقل لأحد إنني فزت، وسوف أسافر لتسلم الجائزة، حسبت ذلك خيانة للثورة، وصرف الانتباه، انتباهي على الأقل، عنها قليلا. وضع خلع مبارك حدا أقصى للسعادة، ولم يترك لي فرصة للفرح بأي شيء آخر، فليكن الفرح بالجائزة سرا، حتى لو جاءت من السودان، وباسم الطيب صالح، ومن لجنة تحكيم لا تعرف اسمي، ومن حسن حظي أن لجنة التحكيم تخلو من مصريين. مررت بميدان التحرير. الديموغرافيا تتغير، ظهرت وجوه وانصرف مخلصون يؤمنون بأن الثورة ليست مهنة، وإنما مرحلة يليها إتمام نسف البيت، قبل إعادة بنائه. كانوا حسني النية، فتركوا الميدان لوجوه لم تظهر من قبل، وليس صعبا قراءة الريبة. رفعت لافتات صغيرة تدعو إلى تطبيق ما يقولون إنه الشريعة الإسلامية. سحبت حقيبتي قاطعا الميدان نحو قهوة علي بابا. كان شحاته العريان يقف مستندا إلى السور. لم يلاحظ أنني مسافر، وحثني على ضرورة الإصرار على تنفيذ مطالب الثورة، بعد غد «جمعة النصر»، وأنا لا أستطيع أن أقول إنني فزت بجائزة، وسأغيب 48 ساعة، وتفوتني «جمعة النصر». قلت: «طبعا يا شحاته، طبعا». كنت أستعجل عبور الميدان، حيث ينتظرني الدكتور عمار علي حسن الفائز بجائزة في القصة القصيرة، وكان الدكتور أحمد كريم بلال الفائز بجائزة في النقد قد سبقنا. قال لي شحاته وأنا أبتعد: «مبروك». تساءلت: كيف علم بأمر الجائزة؟ ثم أدركت أنه يهنئني بالحرية، وقلت له: «مبروك». في المطار اتصل بي أسامة عفيفي. جاءت ردودي مقتضبة، وهو لم يطمئن. سألني: انت فين؟ بتردد: في المطار. المطار؟ معقول؟ خلفية الصوت تقول إنك فعلا في مطار. مسافر للسودان. سودان ايه؟ سودان الطيب صالح. حدثته عن الجائزة. قلت إنني خجلت أن أخبر أحدا، واعتبرت الفرح بالجائزة أنانية، ومغادرة القاهرة خلاصا شخصيا وتفضيلا للجائزة على نصر لم يكتمل، وها أنا أتسلل في الليل سرا. طمأنني. قال إن علي أن أفرح كثيرا، ويكفي أن الجائزة تحمل اسم الطيب صالح، وتأتي من السودان، عقب ثورة 25 يناير. وكان الكاتب المغربي هشام بن الشاوي الذي كتب مقالا عن «أول النهار» في 2010، يكتب لي عن إحباطه وخيبة أمله في الجوائز، وعدم ثقته بلجان التحكيم، وكنت أتفق معه، ولا أجد ردا ولا عزاء، وبعد تجربتي مع جائزة الطيب صالح اقترحت عليه أن يشارك، على ضمانتي، ولن يخسر شيئا، وبعد تردد أرسل مخطوطة روايته «قيلولة أحد خريفي»، ربما لإرضائي، لكي يثبت لي أن الجوائز سواء. وفي الدورة الثانية لجائزة الطيب صالح 2012، تنافست 124 رواية، وكان هشام أحد الفائزين الثلاثة!