بعد نحو 40 عاما من اعتقاله في فترة السبعينيات أفرج الفنان الناقد الدكتور عز الدين نجيب عن الرسوم «الخطية» التي رسمها داخل الزنزانة لوجوه أبطال الزنزانة من المبدعين والمناضلين الذين شاركهم السجن بسبب آرائهم السياسية، نجيب جمع هذه الرسوم والذكريات الخاصة بها في كتاب شيق بعنوان «رسوم الزنزانة» لم يتضمن «رسوم الجدران وتهاويمها» لأنه لم يكن بوسعه أن يحملها معه! وكان قد تم مؤخراً اختيار الناقد الفنان عز الدين نجيب رئيساً لتحرير سلسلة «ذاكرة الفن» التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب، ورئيساً لتحرير سلسلة «آفاق الفن التشكيلي» وذلك تقديراً لمكانته كقامة كبيرة في مجال الفن التشكيلي، وهو واحد من القلائل الذين تركوا بصماتهم في مجال الفن التشكيلي واهتموا بالحرف التراثية وبالفنانين الذين تجاهلهم الكثيرون فأنصفهم في كتاباته وفي تقديمه لكتابات الآخرين عنهم ، تربي في بيئة ريفية وكانت أسرته تعمل في مجالي الزراعة والتعليم فورث منهم حب تخريج أجيال جديدة من المتعلمين وانتاج الزرع من الأرض الطيبة وانعكس ذلك علي انتاجه الفني والنقدي بل وعلي كتاباته الأدبية. وفي حوارنا معه كشف «نجيب» عن صفحات من حياته، وعن طموحاته للمستقبل، وعن سعيه الي إنشاء مجلس أعلي للحرف التراثية. نشأتك في الشرقية ووسط أسرة متوسطة يعمل أغلب أبنائها بالتعليم والزراعة.. هل أثرت علي اتجاهك الفني؟ وكيف تأثرت بالمرحلة التاريخية التي نشأت فيها؟ إنني أدين بجذوري الثقافية إلي الأسرة التي نشأت فيها، وإلي بلدتي مشتول السوق التي شهدت سنوات صباي حتي المرحلة الثانوية. إنها جميعاً تلخصها كلمة «الأصالة» بجو الترابط والتراحم والمحبة وعدم الكراهية والقدرة علي العطاء للآخرين بغير إنتظار مقابل، وعلي التسامح حتي مع من آذاك، وعلي المواجهة بغير لف أو دوران، وأغلب تلك الصفات كانت من شمائل أبي. فضلاً عن ارتباطي بحياة الفلاحين وكفاحهم، حتي أن مشروع تخرجي من كلية الفنون الجميلة عام 1962 كان عن واقع الفلاحين، وكنت آنذاك مسحوراً بكتابات يوسف إدريس في قصصه القصيرة وعبد الرحمن الشرقاوي، خاصة في رواية الأرض، واستعرت منها واقعة غرق البقرة في بئر الساقية وتوجه الجميع لإنقاذها، لتكون أكبر لوحات مشروع البكالوريوس، وقد انعكس ذلك كله في كثير من قصصي القصيرة الأولي، خاصة في المجموعتين: أيام العز، والمثلث الفيروزي، وكم أَحِنّ اليوم إلي ما كان يختزنه ذلك العالم من براءة وبكارة وفطرة، أصبحت الآن مثل العنقاء والخل الوفي في عالمنا المعاصر، بل حتي في البلدة نفسها التي نشأت فيها. إنصاف الصامتين من مؤلفاتك «الصامتون: تجارب في الثقافة والديمقراطية بالريف المصري» حدثنا عن أبرز ما جاء فيه وكيف ينصف الناقد والمؤرخ الفني أمثال هؤلاء الفنانين؟ وكيف يكون للإعلام دور في إلقاء الضوء عليهم؟ وهل يعد كتاب «طيور تأبي الرحيل» للناقد الفنان محمد كمال خطوة في طريق إنصافهم؟ «الصامتون» هو عنوان الكتاب الذي صدر لي عام 1985 في طبعته الأولي، وعنوانه الفرعي هو: «تجارب في الثقافة والديمقراطية بالريف المصري»، وموضوعه هو تجربتي الثقافية بقصور الثقافة بين عام 67 ، 1968. والصامتون هم الفلاحون والمواطنون والمهمشون المحرومون من أي خدمة ثقافية، فوق حرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً بالرغم من أنهم زرعوا الخير وقدموا العطاء للمصريين جميعاً، وبالرغم من أن ثورة 1952 قامت من أجل إنصافهم ورد الاعتبار إليهم. وقد أسستُ قصر الثقافة بعاصمة الإقليم، وجهزتُ سيارة قديمة وتم استغلالها كقافلة للثقافة تطوف بالقري النائية تحمل إلي الفلاحين زاداً ثقافياً لأول مرة في حياتهم، من سينما ومسرح وموسيقي وغناء وفن تشكيلي وندوات. وعندما وقعت نكسة 67 حدث شرخ عميق في العلاقة بين الدولة والفلاحين وازدادت أزمة الثقة بينهم وبين النظام، وإن ظل حبهم للزعيم عبد الناصر راسخاً، وظل لديهم الأمل في الإنصاف، واستطاعت القافلة أن تكون منبراً يخاطبون من خلاله المسئولين بقضاياهم وهمومهم وآمالهم في العدل والكرامة واسترجاع الحقوق الضائعة، واستطعت توصيل صوتهم إلي أعلي المستويات الممكنة، بعد أن خرجوا لأول مرة عن صمتهم التاريخي وظهرت شخصيتهم الإيجابية المستعدة للمواجهة والنضال مهما كلفهم ذلك، وفي الوقت نفسه كشفوا عن مواهب هائلة لدي أبنائهم في الشعر والغناء والموسيقي والرسم، وقامت القافلة بإعارة مئات الكتب من مكتبة القصر إلي أبنائهم المتعلمين، وتشكلت حلقات شبابية في كل قرية للمناقشة في كل المجالات فاكتسبوا هم وآباؤهم نوعاً جديداً من الوعي بواقعهم وبالعالم وتطلعوا إلي آفاق جديدة تمنحهم الأمل في الخلاص. وعندئذ تحركت جميع قوي السلطة المحلية (من المباحث إلي الاتحاد الاشتراكي إلي المحافظ) ضد القصر والقافلة، وبدأ صراع عنيف لإيقاف التجربة، وسعي المحافظ بكل طاقته لإغلاق القصر والقافلة، أو علي الأقل لفرض الوصاية عليهما. وتصاعد الأمر إلي وزير الداخلية شعراوي جمعة الذي استدعاني أكثر من مرة لإثنائي عن مواصلة التجربة، غير أن د. ثروت عكاشة وزير الثقافة ونائب رئيس الوزراء آنذاك وقف مدافعاً عنها بقوة أمام الحكومة والرئيس عبد الناصر، نافياً الاتهام الموجه إليَّ وإلي الشباب العاملين معي في القصر بالشيوعية، وكشف هذا الصراع عن صراع أكبر داخل السلطة ذاتها بين تيارات متعارضة تمثل مراكز القوي التي كانت ضمن أسباب هزيمة 67. وقد رفض عبد الناصر إغلاق القصر أو اعتقال العاملين فيه. وأيد استمراره في دوره الذي بدأه لمناقشة بيان 30 مارس، وكان البيان بمثابة خارطة الطريق التي طرحها علي الشعب طالباً الاستفتاء عليها للتخلص من مراكز القوي والإعداد لمعركة التحرير والنصر.. وما أن تم تصويت الشعب علي بيان 30 مارس معطياً كل التأييد والصلاحيات للرئيس من أجل التغيير، حتي صدرت الإشارة من وزير الداخلية بانتهاء دور القصر، وأبلغني شخصياً أنه سيأتي بنفسه إلي كفر الشيخ لافتتاحه، وكان ذلك رسالة واضحة بتجميد القصر وانتهاء مهمتي، وهو ما حدث فعلاً، لكن التجربة حرثت الأرض حرثاً ومهدت لقوي التغيير التي توالت بعد ذلك خلال الأجيال التالية، التي خرج من بينها شعراء وفنانون وسياسيون ومسرحيون ذاعت شهرتهم أو أصبحوا قادة للوعي في بلدهم. الناقد محمد كمال مؤلف كتاب طيور تأبي الر حيل»، واحد من أبناء كفر الشيخ الموهوبين الذين تأثروا بتلك التجربة ولا شك، وتعلم منها الانحياز إلي المهمشين والمناضلين من أجل الحق والعدل، ونضج وعيه علي أصداء الحراك الثقافي والثوري القديم بكفر الشيخ، لكن العامل الحاسم هو موهبته النقدية اللافتة، التي غذاها بروح عصامية عالية بحثاً عن المعرفة، وصقل موهبته بالعمل المستمر والاتصال بالجماهير والبحث عن الموهوبين المهمشين في شتي الأقاليم، وهذا الكتاب يضم مجموعة دراسات عن أولئك الفنانين الذين أبوا الرحيل من بلادهم جرياً وراء الأضواء والمكاسب في القاهرة، فالتحموا بأرض أوطانهم وحققوا إبداعات مميزة لم تحفل بها المؤسسات الرسمية، فكان دوره هو رفع هذا الظلم عنهم، وكان دوري هو إتاحة الفرصة لصدور كتابه من خلال لجنة الكتاب الأول بالمجلس الأعلي للثقافة التي أتشرف بعضويتها، وبذلك جمع بيننا المبدأ والرسالة والطريق، وإن اختلفت الوسائل. استقلال الفنانين شاركت في تأسيس نقابة الفنانين التشكيليين واتحاد الكتاب المصريين وجمعية نقاد الفن التشكيلي ولجنة الدفاع عن الثقافة القومية والجمعية المصرية لأصدقاء المتاحف وجمعية أصالة لرعاية الفنون التراثية المعاصرة. ما الدور الذي حققته كل هذه المؤسسات وما أبرز الرسائل التي تؤديها وما الذي لم تحققه حتي الآن؟ هذه الجمعيات والنقابات والاتحادات التي شاركت في تأسيسها منذ السبعينيات كانت بمثابة البناء التحتي للعمل الثقافي والمستقل للمثقفين والمبدعين، والرد علي النظم الاستبدادية المعادية للثقافة والإبداع، بتوحيد صفوفها في مواجهة التهميش والاقصاء والسجون أحياناً، وقد ذقت مرارتها عدة مرات عقاباً علي المشاركة في مثل هذه المؤسسات، مثل جمعية «كتاب الغد» التي سجنتُ ستة أشهر في عام 1975 مع مجموعة من المبدعين في مختلف المجالات لاتهامنا بأننا نمارس من خلالها العمل لقلب نظام الحكم!.. وقد سجلت هذه التجربة في أحدث كتبي بعنوان (رسومات الزنزانة)، إن تلك المنظمات الأهلية أسهمت في تشكيل النواة الصلبة لإرادة المقاومة والدفاع عن القيم الأصلية للوطن. وأعتقد أن المرحلة المقبلة تتطلب مزيداً من تأكيد دور هذه المنظمات في مناخ الديمقراطية الوليدة. أزمة النقد الفني من وجهة نظرك ماهي طبيعة الأزمة التي يعانيها النقد الفني الآن؟ ومن هم أبرز النقاد الحاليين؟ وما هو العلاج الذي تقترحه للخروج من الأزمة؟ الأزمة الحقيقية للنقد اليوم تكمن في نقد الكتابات النقدية أكثر مما تكمن في غياب المنابر والقنوات كما كان الوضع في الماضي القريب، ويكفي أن أشير إلي أن وزارة الثقافة بصدد إصدار سلسلتين شهريتين للنقد التشكيلي، إحداهما من هيئة الكتاب والثانية من هيئة قصور الثقافة، وسوف تصدر الأجزاء الأولي من كل منهما بعد أيام في معرض الكتاب، لكن ما يهدد استمرارهما هو ما نسميه القحط النقدي المنهجي. وتحتاج أغلب الدراسات المقدمة إلي إعادة صياغة واستكمال أدوات النص النقدي بعيداً عن النقل المباشر والمفرط من المراجع أو عن الصياغة الإنشائية أو عن الركاكة اللغوية. وفي الصيف الماضي كُلفت برئاسة لجنة لمنح جائزة الدولة التشجيعية في النقد، وكنا نطالب دائماً بتخصيص جائزة لهذا المجال، لكن اللجنة اعتذرت عن الاستمرار لعدم توافر النص الذي يستحق الجائزة. بالرغم من أن بعض المتقدمين للمسابقة يمارسون الكتابة عن الفن منذ سنوات بعيدة وينشرون كتاباتهم في صحف عديدة. فنانون وشهداء - من أبرز الكتب التي أصدرتها «فنانون وشهداء: الفن التشكيلي وحقوق الإنسان» وكان ذلك عام 2002.. فما أبرز ما نشرته في هذا الكتاب.. ولو قدر لك الآن إعادة نشره فما أبرز ما تضيفه إليه؟ كتاب «فنانون وشهداء» بمثابة وثيقة فنية ونقدية عن التضحيات اللامحدودة لكثير من فنانينا عبر الأجيال المتلاحقة، والقدرة الهائلة التي امتلكوها لمواجهة أقسي الظروف والتحديات، لإيمانهم (غير المشروط بمنفعة مادية) برسالتهم كفنانين، وقد ضربوا أروع الأمثلة في الصمود والاخلاص لفنهم، بالرغم من قسوة الحياة وفساد النظم المهيمنة علي الواقع الفني والثقافي، وكانت إبداعاتهم الفنية تعبيراً عن هوية الوطن وضمير الشعب وجذور الحضارة، كل باسلوبه الخاص، كما حققوا المعادلة الصعبة للأصالة والمعاصرة، بانفتاحهم علي الحداثة وفنون العصر بغير ذوبان فيها أو تقليد أعمي لها. تكريمي .. فاجأني! في نوفمبر الماضي نشر خبر عن تكريمك في مهرجان «ألوار» لفنون الشارع الذي ينظمه المركز القومي للمسرح والموسيقي والفنون الشعبية ضمن حملة «الفن حياة» فكيف تري هذا التكريم بعد رحلة عطائك الممتدة؟ وما أهم تكريم حصلت عليه حتي الآن؟ جاء هذا التكريم مفاجأة غير متوقعة بالمرة، كونه يأتي من جهة لا أعرف أغلب المشتغلين بها ولا أنغمس في الأنشطة المختصة بها، وأجمل ما يحمله التكريم من معان، أنه جاء تقديراً للدور الذي قمت به طوال مسيرتي الثقافية في جانبها الفلسفي العام، المرتبط بانحياز المبدع والمثقف إلي فنون الشعب.