للعلمِ والعلماءَ مكانةٌ عظيمةٌ في الإسلامِ فقد بدءَ اللهُ تعالى رسالَتَه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ب «اقرأ بسم ربك الذي خلق» ومدحَ اللهُ تعالى في كتابه العلمَ في مواضعَ كثيرةٍ منها: «فاعلم أنه لا إله إلا الله» وهنا قدَّمَ العلمَ على كلمةِ التوحيدِ، لأنك لا تستطيع معرفتَها أو معرفة مقتضاها إلا من خلال العلمِ، ولقد مدحَ اللهُ العلماءَ في كتابه فقال تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «العلماءُ ورثةُ الأنبياء»، هذا لما لهم من دور كبيرٍ في إنارةِ العقولِ وإزالةِ الجهلِ عنها، وارتباطِهم ببناء الحضارة وتقدمِ الأمم، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» هذه منزلةُ العلمِ والعلماءِ في الشريعةِ الإسلاميةِ وفي الدينِ الإسلامي. قال شاعرنا: العلمُ يرفعُ بيوتًا لا أساسَ لها.. والجهلُ يهدِمُ بيوتَ العزِّ والكرمِ .
ولقد كان العلمُ في حياة الأوائلِ من سلفنا الصالحِ يمثل اللّبنةَ الأساسَ في حياتهم، فقد كانوا يحثُّون أبناءَهم منذ نعومةِ أظفارِهم على طلبِ العلمِ ويُجلِسونهم منذ الصغرِ في حلقات العلمِ، والتي كانت لا يخلو منها مسجدٌ أو قريةٌ، لقد كانوا يتركون لذةَ النومِ ويهجرون المضاجعَ في وقت يهجَعُ فيه الناسُ، يقول أبو الدرداء: «الناسُ عالمٌ ومتعلمٌ، ولا خيرَ فيما بينَ ذلك»، وقال الحسن البصري رحمه الله: «لأن يعلمَ الرجلُ بابًا من العلمِ فيعبدُ به ربَّه لهو خيرٌ له من أن لو كانت الدنيا من أولِها إلى آخرِها له فوضعها في الآخرة» ما أجملُ حياةِ العلمِ والعلماءِ، وما أجلُّها منزلةً عند الله تعالى وعند عبده.
فخلال الفترة الذهبيَّة من تاريخ الإسلام حتَّى القرن الثَّامن عشر، أُنشِئَت المدارس في مُختلِف البلاد الإسلاميَّة شرقًا وغربًا، وكثرت المكتبات، وامتلأَتْ بالمؤلَّفات في مختلِف العلوم، حتَّى إنَّ مكتبة خلفاء الأندلس، اشتملَتْ وحدها على سِتِّمائة ألف مجلَّد، وقد كان بالأندلس سبعون مكتبة عامَّة إلى جانبِ الكثير والكثير مِن المكتبات الخاصَّة، وقد اجتذبت هذه المكتباتُ الباحثين عن المعرفة من مَنابع العالَم المختلِفة ينهلون من علوم العرب ومؤلَّفاتهم.
ففي علم الكيمياء، يُعتبر «جابر بن حيان» مؤسِّسَ هذا العلم، وظلَّت أبحاثُه وما تَوصَّل إليه من معلوماتٍ ومعارف هي المرجِعَ الأوَّلَ في أوروبا، حتَّى القرن الثامن عشَر، وفي الطِّب كان كتاب «الحاوي» للطَّبَري، وهو من عشرين مجلَّدًا، وكذلك كتاب «القانون» ل»ابن سِينا»، و»الموجز في الطب»، ل»ابن النَّفيس»، والمقدمة لابن خلدون تُعدُّ من أهمِّ المراجع العلميَّة الأساسية.
ويشهد التاريخ بأثر الحضارة الإسلاميَّة على الحضارة الأوروبيَّة، فيقول «سارتيون»: إنَّ ما أتت به الحضارةُ الإسلاميَّة في باب العلم، ولا سيَّما العلوم وتطبيقها أعظم بكثيرٍ مِمَّا أتت به في ذلك السَّبيل مملكةُ بيزنطة بأكملها»
ويجدر بنا أن نشير كذلك لبعض أقوال علماء الغرب عن الحضارة الإسلاميَّة، ومن هذه الأقوال: ذكَرَ «زيغريد هرنكه» أنَّ العرب قدَّموا لأوروبا أثمن هديَّة، وهي طريقة البحث العلميِّ الصحيح التي مهَّدَت أمام الغرب أسلوبَ كشف أسرار الطَّبيعة، وسيطرته عليها في الحاضر.
فالتعليم مهم جدًّا لنهضة أية أمة والأمة الإسلامية على وجه الخصوص؛ لأن أمتنا قامت على مفاهيم النبي صلى الله عليه وسلم وعلَّمت الناس، والمسلمون ما دخلوا بلادًا إلا وبدأوا بالتعليم حتى انتشر من الأندلس إلى الهند، ولم يقهروا الناس على ترك لغاتهم أو يفرضوا عليهم العربية، ولكن فرضوا عليهم العلم، فتعلموا وأسرعوا في تعلم اللغة العربية.
ونحن نرى أن أهم ما يجب الاهتمام به من قبل الدول هو التعليم والبحث العلمي؛ لأن الاهتمام بهما يؤدي إلى التسارع في النمو وزيادة الناتج القومي، وهذا في حد ذاته يعد خطوة أساسية في بناء مجتمع المعرفة القائم على البحث العلمي في كافة مجالاته الإنسانية والعلمية والطبية وغيرها مما ينصب في تنمية الفرد وبناء الشخصية الحضارية التي من شأنها التنافس بما تمتلكه من قدرات خلاقة مع ما هو موجود في دول العالم.
العلم هو السلاح الذي استخدمه السابقون لكي يطوعوا السنن الكونية في بناء الحضارة وتشييدها، وما تركوه لنا اليوم من تطور حضاري ندرك أن العلم هو الأساس لكل هذا التطور والباعث الوحيد له، لأن من ملك زمام العلم ملك زمام الأمم، فبالعلم تبنى الأمم وتتطور المجتمعات ويرتفع قدر الأفراد. والعلم الذي نقصده ليس مقصورًا على شيء معين بل مجالاته مفتوحة ومتسعة وكل علم يؤدي الى عبادة الله وعمارة الأرض وتزكية النفس هو علم نافع يرضي الله تعالى ورسوله إذا توافر له الإخلاص والنية الصادقة والمخلصة.
بقي أن نؤكد أن التعليمَ والبحثَ العلمي خصوصًا لا بد أن يكونَ المشروعَ القوميَّ الأول لمصر في المرحلة القادمة؛ لأنه لا حياةَ ولا وجودَ لنا بدون البحثِ العلمي، إن اللغة التي يعترف بها العالمُ الآن هي لغةُ العمل والإنجاز، والتي لا بد وأن تتوفر لها قاعدةٌ علميةٌ سليمةٌ، ومصرُ بفضل الله تمتلك من الإمكانات الهائلة والقدرات البشرية ما يؤهلها لأن تكون من أفضل دول العالم تحضرًا ورقيًّا على المستوى الحضاري والإنساني. لمزيد من مقالات د شوقى علام