في العاشرة من عمره, كان يقبع طويلا وكثيرا في ركن صغير من فضاء مهمل خلف منزله بالزقازيق, ويقرأ بشغف الكتابات الرومانسية للمنفلوطي, وصار أستاذه الأثير. حتي تعرف إلي الشاعر والأديب جبران خليل جبران, وقرأ له الأرواح المتمردة, والأجنحة المنكسرة, ووقع في هوي بلاغته وفصاحته. غير أن أجنحة خيال الفتي صلاح عبدالصبور حلقت به عاليا في فضاءات الأدب والفكر, وصار شاعرا مرموقا عندما أصدر ديوانه الأول الناس في بلادي عام1957, وانثال الشعر الجميل والنبيل في دواوينه: أقول لكم, وأحلام الفارس القديم, وتأملات في زمن جريح وغيرها, كما أبدع مسرحيات شعرية منها ليلي والمجنون, ومأساة الحلاج. هذا الشاعر الرائع مات عام1981, بينما كان في الخمسين من عمره, لكن قصائده ساهمت في بلورة وعي شباب ثورة25 يناير, فقد كان مثلهم يحلم بالثورة, ويؤكد أن تحرك الشعب لعناقها لضمان استمرارها وانتصارها, فهو القائل الثورة أن تتحرك بالشعب. ولم يكن غريبا ولا مثيرا أن تتبوأ دواوين صلاح عبدالصبور مكانا متميزا فوق منضدة في حجرة نوم شاب من رموز ثورة25 يناير هو الشهيد مينا دانيال, وهذا ما أشارت إليه شقيقته في الذكري الأولي للثورة. {{{ صلاح عبدالصبور, الذي ولع مينا بقصائده, كان شاعرا عظيما, وكاتبا مستنيرا, وكان يبشر بالحرية والعدالة الاجتماعية, ويعتبر الطغيان والظلم من أخبث الرذائل, ويؤكد أن العدالة والحرية يتضافران ليصنعا القيمة الحقة للمواطنة, وذلك ما أشار إليه في كتابه حياتي في الشعر. عظيم.. شاعر كان يضئ بقنديل ثقافته دروب الوطن الجميل الآتي, عبر الثورة الشعبية. وكانت رحلته لتأسيس ثقافته ووعيه الوطني شائكة ووعرة, ولعل أبرز ما كدر أيام شبابه كان اعتراض الفيلسوف الألماني نيتشه مساره, وكان جبران خليل جبران هو ما لفت انتباهه إليه, وكان عبدالصبور آنذاك في الخامسة عشرة, وما أن قرأ كتاب نيتشه هكذا تكلم زرادشت حتي دخل إلي عالم غريب مفزع, علي حد تعبيره. لكن هذا العالم المفزع لم يمنعه من أن يكن للفيلسوف إعجابا وتقديرا, لأنه يطبع فلسفته بالشعر, غير أن هذا الإعجاب كان يؤرقه بسبب ما تناهي إليه من أن نيتشه هو الأب الروحي للنازية الألمانية. وفي غمرة قلقه, غمرت السعادة قلبه, عندما دفع أحد الدارسين والمترجمين الأوروبيين في مقدمة كتبها عن الكتاب تهمة النازية والعنصرية عن نيتشه, وكان ذلك عام1961, غير أن ما يمكن قوله إن نيتشه لم يشكل محورا مؤثرا في حياته, ولعله كان أثرا من آثار قراءات فترة المراهقة. {{{ وعندما تخرج عبدالصبور في الجامعة عام1951, انخرط انخراطا حميما في المشهد الثقافي, ويشير إلي أن صديقه الدكتور عبدالغفار مكاوي الذي أصبح أستاذا للفلسفة, وأحد أبرز المبدعين في الأدب قد أطلعه علي قصائد اليوت ورلكه مع شعره الرومانتيكي الصافي, ويضيف قرأنا وتناقشنا وتبادلنا القصائد, وزلزلت قراءاتي ومناقشاتي مع الأصدقاء نفسي. هذه النفس الطيبة كانت تتوهج بشهوة عارمة لإصلاح العالم, وظن أن الماركسية تقدم حلا لمشكلة الفقر التي تقض مضجعه, لكنه سرعان ما أدرك أن سدنة الشيوعية في الاتحاد السوفيتي يناصبون معشوقته الحرية العداء, ولذلك غير مسار أفكاره بعد القمع السوفيتي لثورة المجر عام.1956 وهكذا لم يكن صلاح عبدالصبور شاعرا مبدعا فحسب, وإنما كان مفكرا وطنيا يتحرق شوقا لإعلاء شأن الإنسان عبر القضاء علي الفقر والقهر وصولا إي مشارف العدل والحرية. ولهذا كان حاضرا, برغم الغياب, مع الثوار في الذكري الأولي للثورة, وما أن بدأ يهمس بأبيات من قصيدته: هذا زمن الحق الضائع, لا يعرف فيه مقتول, من قتله, ومتي قتله.. حتي قرر أن يكتب قصيدة جديدة, ذلك أن الثوار يعرفون قتلة الشهداء, ويصرون علي القصاص في زمن الحق العائد. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي