إنه ذلك الشاعر المصرى الرائع الذى بدأ إطلالته على الوجدان العربى منذ منتصف خمسينيات القرن الماضى وقد اقترنت شهرته بظهور جيل كامل من المواهب منهم «أحمد عبدالمعطى حجازى» و»عبدالحليم حافظ» و»يوسف إدريس» وغيرهم من رموز الشعر والفن والأدب، و جاء حضورهم الطاغى على الساحة مقترنًا بالأحداث الوطنية الكبرى التى اقترنت بالسنوات الأولى للثورة المصرية فكانوا صوتًا لحركات التحرر وتعبيرًا عن الرغبة فى الحرية والعدالة، وقد عرفت الشاعر الراحل «صلاح عبدالصبور» الذى قضى إلى جوار ربه ولم يكن قد برح كثيرًا سنوات شبابه- عندما دعوته فى مهرجانٍ للشعر بكلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» فى منتصف الستينيات- عندما كنت رئيسًا لاتحاد طلابها، وأتذكر يومها والمئات يحتشدون فى المدرج الكبير والشاعر الشاب يتلو أشعاره بينما الطلاب والطالبات يستكملون بعض الأبيات من شعره التى غابت عن ذاكرة الشاعر ذاته، ولا عجب فقد كان «صلاح عبدالصبور» مبشرًا بمرحلةٍ شعرية جديدة خرجت عن القافلة التقليدية وتمردت على الشعر العمودى حتى إن المفكر الكبير «عباس العقاد»، رئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للفنون والعلوم والآداب، كان يحيل قصائد «صلاح عبدالصبور» و»أحمد عبدالمعطى حجازى» وغيرهما من رواد الشعر الحر إلى «لجنة النثر»! حتى هاجمه الشاعر «أحمد عبدالمعطى حجازى» بقصيدة عمودية شهيرة كى يدرك الأستاذ «العقاد» أنهم لا يلجأون إلى كتابة الشعر الحر هروبًا من «الشعر العمودى» ببحوره وقوافيه إنما هم يقدمون على التجربة الجديدة إيمانًا منهم بتطور اللغة وأهمية تجديد الشعر، ولقد شاءت الظروف أن ألتقى مراتٍ أخرى بشاعرنا الراحل «صلاح عبدالصبور» الذى رحل عن دنيانا إثر مناقشةٍ حادة اتهمه فيها بعض أصدقائه بأنه تمشّى مع نظام الرئيس الراحل «السادات» وأفكاره وأطروحاته وأنه حصّل فى المقابل رئاسته «للهيئة العامة للكتاب»، وقد انفعل «صلاح عبدالصبور» يومها ولم تفلح الإسعافات الطبية فى إنقاذ حياته فمات بالانفعال، مثلما مات الروائى «محمد عبدالحليم عبدالله» قبل ذلك بسنوات إثر مشادةٍ مع سائق سيارة ركاب بمحافظته «البحيرة»، وكأنما كتب الله على بعض الشعراء والأدباء أن يدفعوا حياتهم ثمنًا لحساسيتهم المفرطة وقلوبهم الرقيقة، ولقد عمل الأستاذ «صلاح عبدالصبور» مستشارًا إعلاميًا فى «الهند» فاتسمت فترة وجوده هناك بالتألق الثقافى والتوهج الشعرى، ولقد لمست ذلك شخصيًا حين عملت بالسفارة المصرية بالهند بعد مغادرته لها بشهورٍ قليلة، وأذكر جيدًا أننى كنت مترددًا فى الذهاب إلى «نيودلهى» بأسرتى ومعى طفلتان صغيرتان وأبديت احتجاجى يومها لدى أستاذى الدكتور «بطرس بطرس غالى» وزير الدولة للشؤون الخارجية حينذاك، فقال لى «إنك قد حصلت على الدكتوراه من جامعة «لندن» حول موضوع «الأقليات»، ولقد حان الوقت لترى سلوك الأقليات على الطبيعة فى «الهند» تلك الدولة الكبرى وصاحبة التجربة المثيرة فى هذا السياق، لذلك طرأت على رأسى فكرة وقتها وهى أن أطلب رأى شاعرٍ مصرى كبير عاش فى الهند سنوات، وبالفعل دعانى الأستاذ الشاعر «صلاح عبدالصبور» إلى منزله وجلسنا معًا فى الشرفة نرتشف قدحين من الشاى وامتد الحديث لعدة ساعات يحكى لى فيها عن سحر الهند وثقافاتها ودياناتها ولغاتها والبشر فيها، وخرجت من عنده وقد تغيرت نظرتى تمامًا وأصبحت شديد الحماس للعمل فى «نيودلهى»، وبالفعل عدت من «الهند» بعد أربع سنوات كانت ثقافتى أكثر ثراءً وأفكارى أكثر تنوعًا ورؤيتى أكثر اتساعًا، ومازلت أردد المقولة الشهيرة (من لم ير الهند لم ير العالم)، ولقد ترك «صلاح عبدالصبور» من بعده أرملة عانت نفسيًا لرحيله وابنتين واجهتا الحياة بصعوبة بالغة، فالشعراء ينصرفون دائمًا إلى عالمهم الخاص ويحلقون فى سماوات الخيال وقد يتركون من «خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم»، وسوف يبقى «صلاح عبدالصبور» علامةً فارقة فى تطور الشعر العربى، ونموذجًا فريدًا «لأحلام الفارس القديم» فلقد كان، رحمه الله، كتلة جياشة من المشاعر وزخمًا إنسانيًا دافئًا اكتسب شعبية واسعة فى العالم العربى والشارع المصرى حتى بكته أجيالٌ ثلاثة عاشت قبله ومعه وبعده، واستطاع أن يحتل فى ذاكرة العرب زاوية خاصة فى عصر «نزار قبانى» و»بدر شاكر السياب» و»البياتى» و»أحمد عبدالمعطى حجازى» وغيرهم من أساطين الشعر العربى الحديث.. رحم الله «صلاح عبدالصبور» مغردًا داخل سرب الطيور وخارجه أيضًا.