«لا يجوز قانونا التعليق على الأحكام القضائية». . تلك هى العبارة التى قالها لى، بلطف، أحد الأحبة الذين يعملون فى سلك القضاء. تعقيباً على إعلان استيائى من السرعة التى تم بها إصدار الحكم بإحالة أوراق 529 إخوانياً إلى المفتى لأخذ رأيه فى إعدامهم (لا أعرف أن أيّ مفتي، أوقف فى أيّ مرة حكماً قضائياً بالإعدام) وأوضح محدِّثى المحذِّر، أن الذى صدر قبل أسبوعين ليس حكماً، وإنما هو قرار.. قلتُ له مداعباً، ما معناه: ما دام قراراً وليس حكماً، فلا مشكلة فى إعلان الاستياء منه، لا سيما أنه مفاجئٌ بسرعة إصداره، ومنذرٌ بمزيد من الالتهاب فى أنحاء البلاد. وقد سبق لى للأسباب ذاتها، إعلان الاستياء من الحكم المشدَّد الذى صدر أول مرة على الفتيات الغريرات (السكندريات) اللواتى كن يسمين أنفسهن، ويسميهن الإعلام «حركة 7 الصبح» وهى كما ترون تسمية ركيكة تنطلق من مفاهيم أكثر ركاكةً، وحمقاً. فلما صخبتْ فتيات السابعة صباحاً، فى السابعة صباحاً، بشارع سوريا بالإسكندرية وكسَّروا واجهات المحلات بسفالةٍ وجهالة؛ عُوقبن على أفعالهنَّ الجامحة بحكم قضائى قاسٍ أثار استيائي، لكنه ما لبث أن خُفِّف بعد أسبوعٍ بتقليل مدة الحبس، وبإيقاف التنفيذ. قلتُ لمحدثى إن الحكم المتزن الذى صدر على الفتيات، مخفَّفاً، كان فيه خيرٌ كثير. لأنه جاء مراعياً للصالح العالم، ومتناسباً مع حالة الذهول الذهنى الذى كان ولايزال يلف عقول كثيرين من هؤلاء المصريين الذين كانوا يسمون أنفسهم «الإخوان المسلمين» وكنتُ أسميهم «العصابة».. لكن الأهم، هو أننا لم نسمع من بعد صدور الحكم المخفَّف، قط، عن تلك الحركة الحمقاء المسماة (سبعة الصبح ) وقياساً على ذلك، فإن الحكم أو القرار القضائى الممهّد لإعدام أكثر من خمسمائة شخص، ولو غيابياً، بهذه السرعة المفاجئة. فى بلدٍ كان ولا يزال يشكو من بطءِ التقاضي. هو أمرٌ من شأنه أن يزيد الطين بلةً فى وقتٍ نسعى فيه لتجفيف منابع الإرهاب والعنف الديني.. وبالأحري، تجفيف منابع الجهل والتخلف الذى يستعمله الساعون إلى السلطة، والمتحسّرون على ضياعها، بالسطوة الإرهابية العشوائية التى ترفع الشعارات الدينية على طريقة الحق الذى يُراد به باطل. و لاشك فى أن ترشُّح المشير للرئاسة (التى سينالها لا محالة) من شأنه أن يُلقى بظلال قوية، بل معتمة، على قلوب وعقول وأفعال الرافضين لذلك. و بالتالي، فليس من الصواب أن نسعى لتأجيج هذا «الاعتام» بمزيد من «القرارت» السريعة المفاجئة . ولستُ من الذين يتجرأون على الهيئة القضائية أو يعترضون على أحكام القضاء، بل بالعكس أرانى شديد الاعتداد والتقدير للقضاء المصري. لأسبابٍ عامةٍ وخاصة. فمن الناحية (العامة) كان للقضاة فضلٌ فى القيام بالمعارضة الرشيدة الوقور أيام حكم مبارك، وفى استعادة التوازن «النسبى» بالبلاد عقب ثورة يناير التى احتدمت من دون وعيٍ كافٍ فصارت فورة، وفى الوقوف بصلابة أمام المحو الإخوانى لمصر خلال السنة البائسة التى قفز فيها السجين الحالى على كرسى الرئاسة. وكان للقضاة مشاركة عظيمة فى إزاحة هذا الكابوس الجاثم عن قلب مصر، وهو الأمر الذى تشارك فيه معظم المصريين من مثقفين ومحامين وقضاة وشرطيين، ثم انضم إليهم الجيش بقيادة الرئيس المرتقب لمصر.. وبالتالي، فإن استيائى من سرعة وقسوة القرار (الحكم) بإحالة أوراق هذا العدد الكبير إلى المفتي، ليس استياءً من القضاء أو القضاة الذين أعتزُّ بمواقفهم العامة، وبما وجدته على أيديهم من نزاهةٍ ورصانة عند نظر القضايا الوهمية التى كانت تثار ضدى منذ مطلع هذه الألفية: الاعتداء على التراث الإسلامي! ازدراء الديانة المسيحية! ازدراء الأديان السماوية وإحداث فتنة بالبلاد وتشجيع التطرف!.. وفى كل مرة، كانت الدوائر القضائية والنيابية تنصفنى بشجاعةٍ، حتى إن قضية (الاعتداء على التراث) صدر الحكم فيها بعد عدة سنوات من التداول، بالبراءة. . وجاء فى الحيثيات أنه: لا توجد ثمة قضية! من هنا أؤكّد أن حرصى على استعادة التوازن فى الحالة المصرية العامة، وعلى تنزيه القضاء والقضاة عن كل شائبة؛ هو ما دعانى للأمل فى أن يُعاد النظر (أو تُعاد الإجراءات) بحيث لا يأتى الحكم أو القرار القضائى صادماً هكذا، ومُنذراً بالمزيد من الصدام.. ومع اعترافى بشناعة الجريمة التى ارتكبها المحكوم عليهم، وإقرارى ببشاعة فعلهم الهمجى «الاعتداء على مركز الشرطة وقتل المأمور» وإدراكى لصخب المتصايحين اليوم مطالبين بقطع شأفة (الجماعة الإرهابية) من مصر، واقتناعى بضرورة الحسم المطلوب للقضاء على حالات الإجرام الجارية فى شوارعنا. مع علمى بذلك كله وإدراكى له، وإقرارى به، فإننى أؤمن بأن الاندفاع لا يُعالج باندفاعٍ مضاد. فهذا ينذر بالاصطدام المريع، فى وقتٍ نحتاج فيه إصلاح ما تكسَّر طيلة الستين عاماً الضباطية الأحرارية، والثلاثين عاماً المباركية، والسنوات الثلاث الثورية. . وأعتقد جازماً أن العنف لن يولِّد إلا عنفاً، وأن الحرب الضروس داخل المجتمع الواحد لا تجلب إلا الشؤم على الجيل الحالى والأجيال اللاحقة. لأن كل نقطة دمٍ تُسال على الأرض، بغير حق ولا هدى ولا صراط مستقيم، سوف تصير بذرةً لشجرة عجفاء من أشجار المقت والكراهية والحقد الدفين الذى أودى بجماعات إنسانية كثيرة، ويودى اليوم بإنسانية الناس فى العراقوسوريا وليبيا، واليمن التى انقسمت وسوف تلتهب أقسامها الستة بعد حين (اللهم خيِّب ظنى هذا، ولا تحقِّق توقُّعى). كما لامنى بعض الأحبّة والأصدقاء بسبب موقفى من «القرار القضائي» واعترضوا عليَّ بأننى كنت ممن اكتووا بنار الإخوان خلال حكمهم وسعوا لإسقاطهم، فكيف أتعاطف بعد ذلك معهم وأستاء من أحكام قضائية تصدر على أتباعهم.. ولهؤلاء أقول: لقد عارضتُ (كهنة الإخوان) لأننى رأيت منهم ما يُوجب هذه المعارضة، لكنهم اليوم محبوسون. ومن يوم إزاحتهم، ثم حبسهم، أطالبُ بأن يُحاكموا بالقسط. . وهذا ليس تعاطفاً معهم، وإنما هو حرصٌ على مستقبلنا الآتى وعلى صورتنا أمام العالمين. أما أتباع الإخوان، فهم اليوم أطيافٌ متعدِّدة، ولن يجدى معهم «السبيل الواحد» سواء كان أمنياً أو قضائياً أو إعلامياً، وإنما لا بد مع ذلك من استعمال السبل كلها، للتقليل من فداحة الأثر المريع لهؤلاء الموتورين المختلفة أطيافهم، المؤتلفة شعاراتهم الجوفاء.. بالرفق إن أمكن، والحزم إن لزم. أما القضاء والقضاة فإن كل ما أرجوه منهم، ولهم، هو أن يكلِّلوا سعيهم بالتأسيس لعصرٍ مصرى جديد، يكون عصراً ذهبياً للقضاء الرشيد وللعدالة التى هى فوق العدل وللانتصار للقيم الإنسانية، التى هى الغايةُ والغرض من النصوص والإجراءات القانونية. هذا ما أتمناه حين أرنو إلى المستقبل، آملاً فى شروق عصر القضاة الذهبى فى سماء مصر.. ولأن الشئ بالشئ يُذكر، ولأننا فى عام اليهوديات، فسوف تكون مقالة الأربعاء القادم بعنوان: عصرُ القضاةِ «اليهوديُّ». لمزيد من مقالات د.يوسف زيدان