كانت مشاركة وزير خارجية جمهورية جنوب السودان، برنابا بنجامين، فى الجلسة الافتتاحية لأعمال الدورة 141 لمجلس جامعة الدول العربية، حدثا مثيرا وجديدا. وصرح بأن حضوره اجتماعات المجلس يعكس رغبة وحرصًا من جانب جمهورية جنوب السودان على تعزيز وتقوية العلاقات مع الدول العربية، كما أشار «بنجامين» إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد مزيدًا من التعاون بين بلاده والدول العربية على مستوى الجامعة العربية وعلى المستوى الثنائي. وتتعدى آثار هذا التحول الجديد فى موقف الجنوبيين من جامعة الدول العربية، حدود العلاقة الثنائية. فهو يبشر بعلاقة جديدة وايجابية بين العرب والأفارقة ظلت مفقودة وسلبية لزمن طويل. وأن تأتى بعد إنفصال جنوب السودان عن شماله المسلم المستعرب، فهذا أمر مفرح. فقد صوّر الجنوبيون العلاقة بأنها صراع رؤى بين العرب والافارقة، واستحالة التعايش بينهما بسبب تاريخ طويل مثقل بالاستعلاء والاضطهاد والاستغلال. وحمّل الجنوبيونالشماليين كل أوزار تجارة الرقيق المخجلة التى سادت القرن التاسع عشر، رغم أنهم كانوا، فى البداية، مجرد وكلاء محليين لتجار أو نخاسة عالميين. أدرك النظام العربي، الذى كان فى حالة صعود آنذاك، أهمية العلاقة مع إفريقيا. ولذلك وضعها الرئيس جمال عبدالناصر فى المرتبة الثانية بين دوائر الاستراتيجية الثلاث. وأعلن أن مصر مسئولة عن قيادة النضال من أجل الحرية والتقدم الاقتصادى فى إفريقيا. لكن بعض الدوائر روجت لأن هذا الموقف يوحى بهيمنة جديدة للعرب أو حتى بديلة لمهمة الرجل الأبيض فى أفريقيا. وشهدت تلك الفترة تنافسا بين عبدالناصر و«نكروما» وتجلى فى وجود كتلتين :مجموعة (مونروفيا) ومجموعة (الدار البيضاء). لكن الانقسام حُسم فى مؤتمر القمة الإفريقى الأول فى (أديس أبابا)، الذى مثل الاجتماع التأسيسى لمنظمة الوحدة الإفريقية فى عام1963. ولم يعد هناك أى تنافس بين القادة الافارقة فى المنظمة، بل تحول الى تنافس حول إفريقيا بين العرب والكيان الصهيوني. وسجلت الفترة التى تلت حرب أكتوبر 1973 نجاحات عربية بارزة. والوضع تغير بعد توقيع اتفاقيات السلام، فعاد الكيان الصهيونى بقوة إلى إفريقيا، وعزز وجوده بالتركيز على المساعدات الفنية. دخلت العلاقات العربية- الإفريقية مرحلة المحاق والتراجع منذ ثمانينيات القرن الماضي. وحدث هذا التدهور فى فترة صعبة على إفريقيا، ضربها خلالها الجفاف، والمجاعات، والإيدز. وفى هذه الأثناء هرعت المنظمات الطوعية الغربية للإغاثة والعون الإنساني. وكان العرب غائبين وبعيدين رغم قربهم الجغرافي. وتقدمت بعض المنظمات والوكالات الإسلامية، لكنها لم تخلُ من انحيازات أيديولوجية أحيانا، أو عمل مشروط يتنافى مع حرية التطوع والمنح. شهد كثير من الدول الإفريقية نزاعات وحروبا داخلية، وكان من الممكن أن تتوسط دول عربية فى هذه الصراعات لايجاد مناطق نفوذ, لكن الدول العربية أبدت قدرا من اللامبالاة وسوء التقدير للمواقف، فاضاعت فرصها. ففى نزاع السودان بين الشمال والجنوب، كانت مصر هى المؤهلة لصناعة التسوية. فكل الاطراف كانت تأويها القاهرة، وكان الزعيم الجنوبى (جون قرنق) يتردد على مصر ويتمنى أن تتحرك, لكن مصر وقفت عند مطلب «تقرير المصير» وفسرته بأنه يعنى بالضرورة الاستقلال، وهى لن تشارك فى عمل يؤدى الى ذلك، فابتعدت عن القضية السودانية. وهنا لم تتردد دول (الإيفاد) الإفريقية فى المبادرة، وكسبت فضل رعاية اتفاقية السلام الشامل, وهى الآن ذات نفوذ قوى ومؤثر فى أحداث السودان الراهنة. وفى أزمة دولة (مالي) كان المغرب أو الجزائر هما الأقرب للتأثير والتدخل. أما (الصومال) الممزق وهى دولة عضو فى جامعة الدول العربية، فتترك لإثيوبيا وكينيا مع غياب العرب. وقبل أيام، كانت أزمة (إفريقيا الوسطي) حيث استجار المسلمون بالعرب والمسلمين، ولم يتحرك أحد. هناك جانب خطير وحساس فى العلاقة، لكنه من المسكوت عنه، لأنه يصعب على الدبلوماسية مناقشته صراحة, فهذا أمر مرتبط بالثقافة والعلاقات الاجتماعية، وهو العنصرية العربية فى التعامل مع الافارقة أو سود البشرة عموما. وقبل أيام احتفلت الأممالمتحدة باليوم العالمى لمكافحة العنصرية. ووضح من المقابلات التى أجريت مع عدد من المواطنين العرب تنامى ظاهرة التفرقة العنصرية، لكن يُفضل عدم نبشها، إذ انه رغم الغاء الرق كمؤسسة اجتماعية ولكنه بقى كثقافة ومعاملة, فالقاموس العربى احتفظ فى التخاطب والوصف بكلمة «عبد» تطلق على قائمة من الزنوج والافارقة وأصحاب السحنات السمراء والسوداء. وفى عدد من الدول العربية مازال التزاوج بين المنحدرين من أصول افريقية وبين السكان المحليين المستعربين، محرما. وترجع هذه الظاهرة لأن الدول العربية ألغت الرق فى فترة متأخرة كثيرا. كما أن الإلغاء جاء تحت ضغوط خارجية. ومن ناحية أخري، مع أن الرق وقع على كل شعوب العالم، إلا أن الافارقة كانوا آخر المستشرقين فى التاريخ. ولم تتوقف مؤامرات توظيف العداء بين العرب والافارقة فى مناطق ذات واقع خاص يتميز بتوترات كامنة. والعرب من جانبهم لم يقصّروا فى إنجاح المخططات بسبب سلوكهم السلبى فى كثيرا من الأحيان, يمكن أن تكون علاقة الجنوب الجديدة مع الدول العربية، فرصة نادرة لتطوير هذه العلاقة وتجاوز العقد التاريخية والثقافية التى تحكمها, خاصة أن العلاقات تشهد تشابكات فى المصالح المشتركة، كما هو الحال فى مياه النيل، ما يتطلب جهدا صادقا فى بناء الثقة التى تأثرت كثيرا. ومن الخطأ التعامل مع موقف الجنوب كأمر عابر أو تكتيك او مناورة فى الظروف الراهنة, ومن الخطر أن يتغلب عدم الاستقرار الداخلى العربى على استثمار هذا المتغير الموجب فى العلاقة. لمزيد من مقالات حيدر إبراهيم على