قد نزف أخطاء، وتمزقنا أنياب الجريمة، وتتصدر جدول أعمالنا البلطجة ونتعثر الخطوات، ونسجد في محاريب الأجرام، ونلتف في أكفان المرارة والضياع. وتأخذنا عتمة أفعالنا في دروب السجون، وأقسام الشرطة. ويصبح كل شئ حولنا يقيدنا في ممرات القدر وتتوه الاحلام في الدروب البعيدة لندفع ثمن خطايانا ونتجرد من كل الحقوق سوي حق واحد وهو حق الحياة حتي وإن كانت خلف القضبان، ولكن عندما يسلنا الإهمال والغطرسة هذا الحق ويسطر أشخاص شهادات وفاتنا وتزهق أرواحنا لاننا نحمل لقب مجرم أو متهم فهذا مخالف لكل الشرائع السماوية حتي ولو كان المتسبب في العقل يحمل علي كتفيه أسرابا من النسور وعشرات النجوم! وقائع يندي لها الجبين وترتجف لها الأوصال ضحاياها خلق الله، أنزلفوا إلي عالم الجريمة، وتم إيداعهم داخل حجز أقسام الشرطة علي ذمة التحقيقات ولم يدر بخلدهم انهم سيكونون في ذمة الله بسبب تردي الأوضاع داخل حجز الاقسام التي تحولت إلي مقابر تفوح منها رائحة الموت. تربع علي عرش الاقسام قسم شرطة دار السلام وحصل علي الجائزة الاولي في التلوث وأنتشار الامراض والعدوي وخلال ثلاثة أشهر توفي أربعة متهمين بداخله، ومسئولو القسم في أنتظار المزيد إيمانا منهم بضرورة المشاركة في تخفيف الزيادة السكانية، وكأن هؤلاء المتهمين لاينتمون إلي البشر وحلال إزهاق أرواحهم. أصل الحكاية عندما تلقي حازم اللمعي رذيس نيابة بدار السلام بلاغا من مأمور قسم دار السلام بوفاة متهم داخل حجز القسم لاصابته بهبوط في الدورة الدموية وبعدها بساعات دق هاتف رئيس النيابة، وأبلغه نفس الشخص بوفاة متهم آخر داخل الحجز لاصابته باختناق لانه من البداية كان يعاني من أمراض في الصدر والقلب وعجلت الاحوال السيئة داخل الحجز بوفاته أي أنه كان «ميت ... ميت»! انتقل رئيس النيابة لمعاينة غرفة الموت ووقع المشهد عليه كالصاعقة فالغرفة التي تسع 16 شخصا يتكدس داخلها 45 شخصا، ومن حق كل متهم ان يقف علي قدم واحدة أما الثانية لايوجد لها مكان داخل الحجز، وعليه أن يقطعها أو يعلقها في الهواء، وأشياء اخري كثيرة. أمرت النيابة بعرض المتوفين علي الطب الشرعي، وتبين من التحقيقات أن أحدهما 65 سنة كان محجوزا في القسم علي ذمة قضية تبديد أمانة حيث أوقفه حظه العثر في براثن جار اشتري بضائع بالتقسيط واستعان به ليضمنه إلا أن الجار لاذ بالفرار، وتهرب من دفع الاقساط المستحقة عليه، وتم القبض علي العناصر وايداعه حجز دار السلام علي ذمة التحقيقات إلا أن أزمة قلبية وصدرية أنتابته داخل الحجز وأمرت النيابة بعرضه علي احدي المستشفيات الحكومية، وقرر الاطباء إيداعه غرفة العناية المركزة، ولم يمتثل مسئولو القسم لتعليمات الأطباء واستمروا في ايداعه داخل الحجز حتي فارق الحياة.. وأكد الطبيب الشرعي ان عدم وجود تهوية داخل الحجز أودت بحياته.. ووجهت النيابة لمأمور القسم ونائبه والضابط المسئول عن الحجز تهمة القتل الخطأ. لم يقف الأمر عند ذلك الحد بل أمرت النيابة باشراف المستشار طارق أبوزيد المحامي العام الأول لنيابات جنوبالقاهرة بتشكيل لجنة من الطب الوقائي لمعاينة حجز وحصر السلبيات وكانت الطامة الكبري عندما أكدت اللجنة ان غرف الحجز ليس بها تهوية وتبين زيادة معدل ثاني أكسيد الكربون عن معدل الاكسجين في غرفة الحجز بثلاثة أضعاف مما يدل علي عدم وجود هواء داخل الحجز. وأكد أحد الاطباء الذي أجري المعاينة لاحدي غرف الحجز انه كاد أن يغشي عليه ويفارق الحياة لمجرد انه مكث بداخله ثلاثة دقائق لحصر السلبيات وتساءل في ذهول كيف يعيش هؤلاء البشر في تلك المقابر علي مرأي ومسمع ممن نصبوا انفسهم لخدمة الشعب! مر شهر دون إزهاق أرواح حتي تكررت المسألة منذ أيام حيث تلقت النيابة بلاغا بوفاة متهم داخل حجز قسم دار السلام، وبعدها بيوم تلقت النيابة بلاغا بوفاة متهم أخر، وتكررت الاجراءات التي اتخذت في الواقعة الاولي وجاء تقرير لجنة الطب الوقائي ليؤكد ان غارف الحجز كما هي تتكدس بالعشرات، ولم يحدث فيها أي تعديل الوضع أسوأ من قبل وحذرت اللجنة من أشهر الصيف وأحتمال أرتفاع حالات الوفاة لكي يأخذ اهالي المتهمين حذرهم واحتياطاتهم، ويسلموا مسئولي القسم «الكفن» ليكون تحت الطب! وحتي نتمتع بالانصاف لابد ان نؤكد ان قسم دار السلام ليس وحده الذي يكتظ بالمتهمين داخل الغرف فهناك قسم حلوان الغرفة الواحدة التي تسع خمسين متهما يتكدس بداخلها 350 متهما لكن عزرائيل لم يصل هناك حتي الآن. ولان من وجهة نظر مسئولي الاقسام ان المتهمين لاينتمون لجنس البشر وحلال موتهم بأي طريقة للاهمال فلابد أن نذكر المتهم المرحوم الذي لقي مصرعه صعقا بالكهرباء داخل حجز قسم المعادي حيث تدلي سلك مكشوف من المصباح الضعيف الذي ينير الغارفة وأثناء قيام المتهم برفع يديه لاعلي ربما ليتضرع إلي الله بالدعاء حتي يستجيب مسئولو القسم ويقوموا بلف عازل حول السلك المكشوف إلا أن القدر لم يمهله لاستكمال دعائه وصعقه التيار الكهربائي ليسقط جثة هامدة. المآسي كثيرة داخل غرف الحجز بأقسام الشرطة، ولكن ان تصل المأساة إلي الموت بسبب الاهمال هنا لايقبله دين ولا عقل حتي لو كان المجني عليه عتيا في الاجرام فلابد ان نحتفظ بحقه في الحياة والسؤال الذي نطرحه لمسئولي الشرطة متي سيرتفع سعر المواطن وتزداد قيمته، حتي لو كان مقيد الحرية؟!