من كان يعتقد أن الربيع العربى ليس سوى نزهة جميلة، أو فاصلا تتابع بعده الشعوب حياتها بالطريقة الجديدة التى اختارتها، أو على الأقل التى نفضلها، لا بد انه اكتشف أن الأمور ليست على مستوى هذا الأمل وربما لن تكون كذلك فى وقت قريب، وقد يذهب به اليأس إلى حد الترحم على الأيام الخوالي، فهى بكل ما فيها من مظالم، إلا أن الناس كانت قد وصلت معها إلى وضعية التكيف ورسمت خريطة تدبير شئونها تحت سقف تلك الأوضاع. فى كل بلدان الربيع العربي، يبدو هذا السؤال ملحاً، حتى انه يفتح الباب أمام احتمال قيام ثورات مضادة قد تعيد معها الأنظمة الحاكمة السابقة أو الأجزاء الفاعلة منها، فى مؤشر على مدى وحجم الصعوبات التى تواجه الأنظمة المنبثقة عن الثورات، سواء لجهة قدرتها على إدارة وضبط الصراعات، أو لجهة إدارتها للموارد والثروات وطرائق توزيعها، والمشكلة أن هذه الوضعية أدت إلى تعطيل الحركات العربية فى بلدان كانت تتهيأ جادة للتغيير. ليس فى الأمر نزهة، ذلك أن الأصل فى ثورات الربيع العربى هو إنجاز عملية التصالح بين الشعب والسياسة مع الكيانات الوطنية نفسها والبيئة العالمية المتغيّرة، وتلك بلا شك مهمة على بساطتها الظاهرية إلا أنها فى الواقع العربى مشوبة بأخطار كثيرة كما تقف فى وجهها عدة عوائق: حالة الانفصام الطويلة بين الشعوب والسياسة، ذلك انه فى هذه الكيانات تكون السياسة عملا محرما وبالتالى فإن ممارستها عادة ما تتم بطرق سرية مخفية عن الأنظار، أما السياسة التى تصدّرها الأنظمة فى هذه الحال فهى لا تعدو كونها نوعا من سلوكيات الإستزلام أو التنويع على وتر التبعية والولاء للحاكم بطرق لا تخلو فى الغالب من ممارسات لا أخلاقية بين التابع والمتبوع. نوع أو نمط المؤسسات التى تشكلها تلك الأنظمة والايديولوجيا التى تسيرها، ففى الغالب ترتبط تلك المؤسسات بالحاكم ويكون هدف عملها وإنتاجها، سواء كان ماديا (اقتصاديا أو أمنياً وعسكرياً) أو ثقافيا وتعليميا، تدعيم استمرارية وجود ذلك الحاكم وتكريس رمزيته بوصفه هبة البلاد وإله العباد، بحيث يصبح كل شيء.. الدولة العميقة التى غالبا ما تتمظهر سواء على شكل أنماط إدارية وطرائق فى تسيير الشئون الاجتماعية أو من خلال الكوادر والتى غالبا ما تكون من ضمن الدائرة الأيديولوجية للنظام، وهو ما حصل فى بلدان كثيرة بسبب احترافيتهم الإدارية وخبرتهم فى المؤسسات، وعادة ما يستغرق إيجاد بدائل لهم وقتا طويلا، وبالنظر لاحتياج القوى الجديدة لتسيير الأمور حيث يكون كل شيء مدمر أو شبه معطل، ونظرا لحاجة هذه القوى لإرضاء الشارع الذى جاء بها والظهور بمظهر الفاعل الجديد فإنها تتغاضى مجبرة عن التدقيق فى انتماءات الكادر الإدارى والذى غالبا ما يكون متضخما بسبب الو لاءات والانتماءات التى على أساسها قام النظام السابق بتعيينهم. بيئة الثورة أو الناس الذين تنطلق من بين ظهرانيهم الثورة، غالبا ما يكونون من المهشمين الفقراء، فبالتأكيد هم ليسوا من كوادر النظام السابق ولا من الفئات والشرائح القريبة، وبالتالى ما أن تنتهى الثورة حتى تكون هذه البيئات قد راكمت مقادير الإنهاك على جسدها وتجاوزت حدود قدرتها على التحمل، فى حين أن النظام الثورى الجديد لن يستطيع تغيير الأوضاع قبل مدة ليست قصيرة، الثورات والمناخ الذى تشيعه غالبا ما يشرع النوافذ أمام ظهور حالات الانقسام الوطنى وخاصة فى حالات الكيانات ذات التركيبة الديمغرافية المتنوعة عرقيا ومذهبيا وجهويا، والتى فى الغالب تكون قد راكمت فى عهد الأنظمة السابقة تهميشا وتمييزا ضدها بسبب انتماءاتها تلك، وهنا يتسع معنى الثورة والحرية لقضيتها التى تكون محقة فى الغالب فتذهب القوى المتطرفة فيها إلى حد رفع سقف مطالبها ليشمل المطالبة بالتحرر من الالتزامات السابقة وخاصة على الصعيد الوطني. ليست نزهة، تحتاج الثورات لمجهودات كبيرة، ليس فقط لإثبات نفسها، بل، وهو الأهم، للتخلص من عفن عقود طويلة، رامتها أفعال قيادات المرحلة السابقة والتى تسلمت الحكم على مدى الفترة الزمنية الأكبر فى تاريخ حياة تلك الكيانات، بالطبع ليس المقصود من وراء ذلك التقليل من أهمية الثورات ولا قدرتها على إنجاز التغيير، الأكيد أن هذه الثورات أنهت تاريخا عبثيا من الموات، والأكيد أنها ستفتح الباب أمام تعبيرات وممكنات لحياة أفضل طالما جرى تنويمها، لكن يتوجب الانتباه إلى حقيقة أن البلاد التى عاشت فداءّ للزعيم ، غالباً ما يأخذها ذلك القائد بأقدامه وهو راحل. لمزيد من مقالات غازى دحمان