أستاذ التأليف الموسيقي كثيرا ما نستمع إلي أعمال عظماء من الموسيقيين تاركه بداخلنا مشاعر من البهجة و الإعجاب وأحيانا الانبهار. ولكننا عادة لا نعي ما وراء هذا الإبداع الخلاق من معاناة حقيقية يعانيها الفنان وربما لو أدركنا ما لا تراه العين لتحولت مشاعر البهجة لمشاعر الألم اوالشفقة.. ولكن يظل الإعجاب والتقدير قائما دائما. عاش جوستاف مالر متخبطا في الحياة وبدأت معاناته بعد وفاة والديه في سن الطفولة ثم انتحار أخيه بعد وفاتهما بعدة سنوات؛ وأصبح مالر المسؤل الأوحد عن إخوته الصغار، ورغم تفوقه في دراسته الموسيقية لم يكن من السهل علي شاب يهودي مثله آن ذاك الحصول علي فرصة عمل، إلا انه بعد سنوات طويلة من المعاناة استطاع أن يحقق بجهده مكانة متميزة في الأوساط الموسيقية بفيينا كمؤلف موسيقي و قائد اوركسترا و عين في عام 1897 قائدا أساسيا لاوركسترا أوبرا فيينا العريقة ..ومن هنا بداء القدر يبتسم لمالر. كان عام 1901 بداية لمرحله جديدة في حياة مالر؛ فهو مؤلف موسيقي وقائد ذو مكانه مرموقة يمتلك بيتا خاصا به في مدينه كرينتن بجنوب النمسا تحيطه البحيرات و الطبيعة الخلابة. لم ينقص المؤلف العملاق إلا شيىء واحد و هو الحب و تشاء الأقدار أن يقابل الفنانة الجميلة الما شنيدر و التي وقع كالعطش في غرامها علي الفور. في هذا العام كتب مالر سيمفونيته الخامسة معبرا عن حياته بوجهيها المظلم و المضيء فكانت الحركات الثلاث الأولي معبرة عن المأساة بكل ما فيها من إحباط و غضب و قلق. أما الحركة الخامسة و الأخيرة فكانت علي نقيض ذلك معبرة عن البهجة و السعادة، و بينهما الحركة الرابعة و التي كان يعني بها حبه لالما شنيدر فكانت بمثابة مرحلة الانتقال بين العالمين. فقد كتب هذه الحركة علي أشعاره التي يصف فيها حبه الجارف لها ،إلا أنها كثيرا ما كتبت في مذكراتها عن تخوفها من ارتباط حياتها بهذا الفنان البوهيمي المحب لذاته' أن تفرض عليها الأقدار أن تتحول إلي مجرد ربة منزل هاجرة أحلامها خلفها. كانت السيمفونية الخامسة نقطه اختلاف بين الكثير من الباحثين فكثيرا ما اختلف حول تكوينها الدرامي و التونالي (المقامي) أيضا، فقد جرت العادة أن تكتب السيمفونية في أربع حركات على أن تبدأ و تنتهي في نفس السلم الأساسي الذي بدأت به،إلا أن مالر بدأ سيمفونيته بالحركة الأولي في السلم الصغير ذو الطابع الحزين مرتكزا علي درجه (دو دييز) و أنهي سيمفونيته بالحركة الخامسة في السلم الكبير ذى الطبيعة المبهجة مرتكزا علي درجه (ري) معبرا بذلك عن الوجه الأخر للحياة والجدير بالذكر هنا أن العلاقة بين درجتي الركوز (دو دييز و ري) هي علاقة من نوع خاص عاد' ما تسمي في عالم الموسيقي بعلاقة الحساس و الأساس؛ أي العلاقة المضطربة الواجب استقرارها، فنغمة الحساس (دو دييز) دائما ما تكون نغمه غير مستقرة ،ووجودها دائما ما يكون مرتبطا بوظيفتها الممهدة لظهور نغمة الأساس المستقرة للسلم الجديد (ري)؛ وكأن مالر يرمز لحياته الأولي بمرحله انتقالية مضطربة تنتظر الاستقرار علي نغمه جديدة و التي أبدعها في الحركة الخامسة. أما الما الفنانة الجميلة ذات العشرين عاما فقد تحققت مخاوفها و أصبحت أما لطفلتين من أبا يكبرها بتسعه عشرا عاما لا يعبا إلا بعمله. جدير بالذكر أن الحركة الرابعة من السيمفونية الخامسة لمالر يقدمها اليوم أوركسترا القاهرة السيمفوني على المسرح الكبير بقيادة المايسترو و عازف آلة الفيولينة ياسر الصرفي. د.عمرو عقبة