أعوام عصيبة مرت على سوريا ليتراجع تصنيفها في كل المؤشرات التنموية وتحتل المركز قبل الأخير عربيا .. وفى كل يوم من عمر الأزمة المشتعلة منذ 2011 والدولة تتكبد خسائر بشرية ومادية فادحة متمثلة فى أكثر من 130 ألف قتيل و17 ألف معتقل فى السجون. هذه الفاتورة النهائية لا يتحملها النظام السورى وقوى المعارضة بكل أطيافها فحسب، بل ساهمت فى إفرازها أطراف دولية مؤثرة ولعبت دورها من وراء الكواليس مما انعكس على المشهد السياسى فى سوريا واتخذت المعادلة أشكالا متغيرة وفقا لتدخلات وتوجهات كل معسكر على حده، وعادة ما شكلت الأزمة السورية نقطة اشتباك بين نظم إقليمية ودولية، فتفجرت الحرب الدبلوماسية بين أمريكاوروسيا مجددا طبقا لحسابات كل طرف، وانضمت دول إلى كل معسكر فى مواجهة الآخر ليقف البطل السورى فى حالة شد وجذب لاتنقطع وتترك بصماتها على الأوضاع السياسية والإنسانية سواء داخل دمشق أو على حدود دول الجوار التى فتحت أبوابها لملايين اللاجئين الفارين من نيران الحرب والمعارك الشرسة. ووحد التشابه بين روسياوالصين فى منافسة الطموح الأمريكى لفرض السيادة على العالم من موقفهما تجاه الأزمة السورية ومساندة نظام الرئيس بشار الأسد حفاظا على مصالحهما التجارية الكبرى مع شريك مهم وحيوى كسوريا، حيث تشكّل التجارة الروسية السورية نحو 20٪ من إجمالي التجارة العربية مع موسكو، وبلغت الاستثمارات الروسية في دمشق 20 مليار دولار، فضلا عن أن سوريا باتت منذ سنوات طويلة إحدى الدول المهمة كسوق للسلاح الروسي فى ظل عقود بصفقات عسكرية ب4 مليارات دولار حتى عام 2013. وانضمام الصين إلى المعسكر الروسى الرافض للحل العسكرى فى سوريا نابع من نفس لغة المصالح انطلاقا من العلاقات الاقتصادية التاريخية بين دمشق وبكين منذ عام 1955، وبلوغ حجم التبادل التجاري بين الدولتين حوالي 2،48 مليار دولار عام 2010، لتحتل الصين المرتبة الأولى حاليا في الشركاء التجاريين لسوريا بنسبة تصل إلى 6،9٪ من إجمالي التجارة السورية. وبمرور الوقت ارتفعت الأصوات المناهضة للتدخل العسكرى فى سوريا تحسبا لتمدد نفوذ الجماعات المتطرفة وتوافد المقاتلين الأجانب وعناصر تنظيم القاعدة ليستغلوا الفراغ الأمنى في مناطق الاضطرابات كبيئة ملائمة لاتساع رقعة أنشطتها الإرهابية، غير أن معسكرا مضادا تقوده الولاياتالمتحدة تحرك سريعا منذ اندلاع الأحداث فى اتجاه التصعيد ضد نظام الأسد ومحاولة التخلص منه باعتباره أحد أضلاع "مثلث المقاومة" مع حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبنانى ضد مشروع الهيمنة الأمريكية على المنطقة من ناحية، وإزعاج المخططات الإسرائيلية من ناحية أخرى. وكان من الواضح أن واشنطن تسعى إلى اغتنام الفرصة لاقتلاع نظام الأسد من جذوره، فعمدت الى التركيز على المجازر الوحشية اليومية بحق المدنيين السوريين لتلوح بورقة التدخل الدولى لحماية الشعب من الأسلحة الكيماوية التى تتهم النظام باستخدامها لتصفية المعارضة فى الشارع وقتل المتظاهرين، وفتحت أمريكا هذا المجرى أمام سائر دول الكتلة الغربية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، التى انضمت إلى كتيبة الإعدام المطالبة برأس الأسد فى مقابل معسكر روسياوالصين الداعم لبقائه. وإذا كانت حسابات المصالح واحتكار الهيمنة تحكم مواقف الكبار، إلا أن ثمة أطرافا أخرى فى المعادلة السورية تتقاطع أهدافها مع كل معسكر وتتحالف مع الجانب المتوائم مع أجندتها، فنجد إيران تطرح نفسها على ساحة الصراع على ضوء "التحالف الكاثوليكى" مع سوريا ومايمثله من محور ارتكاز لخدمة مصالح طهران وطموحاتها نحو كسب نفوذ إقليمي في المنطقة. ولاشك أن ثورات الربيع العربى أثارت مخاوف طهران، وهو مايفسر إصرارها على مساندة ودعم "الأسد" فى معركة البقاء وحماية حليفها المقدس من السقوط لما يمكن أن يجلبه ذلك من حالة انكماش وضعف تهدد حلمها الخاص. ومن الصعب إغفال الدور التركى ودخوله على خط الأزمة مبكرا عندما حث رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان نظام الأسد فى بداية الصراع على إجراء إصلاحات عاجلة وتداول السلطة سريعا بما يضمن الانتقال الديمقراطى، ومع انتشار المذابح وبحور الدم، تحول الموقف فى أنقرة نحو الإطاحة بالنظام السورى، ومن ثم احتضنت تركيا أطيافا وشخصيات المعارضة السورية، وهيأت الظروف لتأسيس المجلس الوطني السوري من خلال اجتماعات أسطنبول المستمرة فضلا عن إقامة مخيمات للاجئين السوريين في المنطقة الحدودية والسماح لدول الخليج وتحديدا قطر والسعودية بتسليح الجيش السوري الحر. وبقراءة هذه المعطيات تتعدد الأصابع الخارجية التى تتلاعب بمصير سوريا، ولايزال ملف سوريا بكل فصوله ومشاهده مفتوحا لمزيد من السيناريوهات المرهونة بصفقات الكبار وأحلام الصاعدين.