فى ضوء ما شهدته أوكرانيا من تطورات سريعة متلاحقة خلال الأيام الماضية، ذهب كثير من التحليلات والتقديرات إلى أن حربا باردة ستدور رحاها بين روسيا والغرب بسبب خلافات الرؤى والتقديرات خلال الأيام والشهور المقبلة ففى حين اتخذت موسكو قرارات حاسمة، انزعج الغرب كثيرا من الجرأة التى واجهت بها موسكو الأزمة، عبر إرسال قواتها مباشرة ليس فقط إلى منطقة القرم بل إلى بعض المناطق المحاذية مما أثار مخاوف من أن تكون موسكو عازمة على اجتياح مجمل الأراضى الأوكرانية. اختلاف التقديرات طبيعي ومتوقع لاختلاف المصالح ورؤى التاريخ الحديث . فروسيا ما فتئت ترى أنها تعرضت لخديعة كبرى وإذلال متعمد من قبل الغرب . فموسكو وافقت على سحب قواتها من شرق ألمانيا – قبل توحيدها – عقب انتهاء الحرب الباردة مقابل وعد بألا يقترب الناتو من حدوده، وهو ما لم يحدث، بل واصل الناتو حلقات التوسع شرقا لحصار روسيا - وهى الوريث الشرعى الرئيسى للاتحاد السوفيتى عبر توسيع رقعة «الغرب» حتى ضم فى عضويته دول حلف وارسو السابقة بل وبعض دول الاتحاد السوفتيى السابق مثل استونيا ولاتفيا الخ. كما أن روسيا عانت من الهوان القومى عبر تفتت الاتحاد السوفيتى ولم تلق المعاملة اللائقة بها من الغرب. على الناحية الأخرى، كان الغرب فى التسعينيات وما تلاها يسابق الزمن لتوسيع رقعتى الناتو والاتحاد الأوروبى إلى الجوار القريب الروسى استباقا لاحتمال أن تستيقظ روسيا من غفوتها وأن تسعى لاستعادة نفوذها الاقليمى ودورها العالمى مجددا. وكانت الرؤى أنذاك أن تحقيق «دمقرطة» الدول القريبة والمجاورة لروسيا مثل بولندا والمجر ورومانيا واستونيا ولاتفيا الخ، عبر استيعابها فى الآليات الغربية، من شأنه توسيع مفهوم الغرب، إلى أن يأتى الوقت الذى تحمل رياح التغيير بذور الديمقراطية إلى روسيا ذاتها، استنادها الى قاعدة فكر ليبرالى مفادها أن الديمقراطيات لا تتقاتل بل تحل خلافاتها بالطرق السلمية ومن ثم فإن أفضل ضمانة للغرب هو دمقرطة روسيا، على أن يتم حصارها وتقليم مخالبها حتى ذلك الحين. وجاءت الأزمة المالية العالمية لتلقى بظلال بالغة القتامة على الاقتصاد العالمى برمته لاسيما الاقتصاد الأمريكى، حتى ارتأى بعض المحللين أن الأزمة قد تكون بداية انهيار الدولار والذى سيعقبه بلاشك ضعضعة وضعية القطب الأعظم . فى تلك الأثناء، قامت روسيا التى استعادت فى سنوات حكم بوتين كثيرا من عافيتها، باستغلال تلك الفترة لإعادة ترتيب أوضاعها فى منطقة الجوار القريب، بما أفضى الى تغييرات كبرى فى عدد من الدول منها أوكرانيا الذى تغير اتجاه بوصلتها من الغرب، إلى الشرق مرة أخرى. دعم حدوث ذلك أن سياسة الوفاق الأمريكى الروسى التى دشنها أوباما فور وصوله إلى سدة الحكم، قد استوجبت غض الطرف عن تلك المساعى الروسية فى الجوار القريب، مقابل «تأمين» التعاون الروسى فى ملفات وقضايا أكثر أهمية مثل ايران وافغانستان، فضلا عن شبكة كاملة من المصالح المتشابكة. إجمالا، فإن روسيا ترى أن ما حدث ثورة ثالثة دبرها الغرب للقضاء على الثورة الثانية التى دعمتها موسكو للقضاء على الثورة البرتقالية الأولى قبل عشر سنوات. ومن ثم، فأن الأمر يستوجب منها رد فعل تصعيدى سريعا يتجاوز قدرة الغرب على التفكير لكى يتم تثبيت الأوضاع على الأرض، وبما يؤمن الجاليات ذات الاصول الروسية هناك ومصالح الاسطول الروسى وغيرها، ليكون هذا بمثابة توطئة أو استعداد لما هو أكبر ان أمكن عبر ترتيب تغيير للقضاء على تبعات الثورة الثالثة. بينما يقف الغرب مأخوذا بدهشة من ردود الفعل الروسى التى فاقت المتوقع أو المقدر، فهو يرى أن ما حدث عملية ديمقراطية لإسقاط نظام مستبد ولاستعادة التوجه الغربى الأوروبى الديمقراطى لأوكرانيا ... الخ، وأن روسيا لا يحق لها من قريب أو بعيد أن تفرض ارادتها على دولة جوار مستقلة .. أزمة أوكرانيا قد تفضى إلى سيناريوهات تتفاوت فى شدة سوداها، مثل التقسيم أو التورط فى حرب أهلية مستعرة لاستنزاف روسيا ومن حذا حذوها. بيد أن الخيار الآمن هو أن تحصل روسيا على ثمن ملائم من الغرب لحثها على تخفيف وطأة تدخلها فى أوكرانيا. ولذا فإنه من السابق لأوانه مرحليا التنبؤ بأن الأمر قد يسفر عن حرب بادرة جديدة بشكل كلى .. أكاديمى مقيم فى موسكو لمزيد من مقالات د.محمد مصطفى عرفى