مهما يكن صبر المصريين، فان ثورة توقعاتهم المشروعة قد تتحول الى فورة إحباطات مدمرة إذا لم يتعزز يقينهم بأن السلطة تستهدف بناء دولة المواطنة، دولة كل مواطنيها، التى تحترم كل حقوقهم، دون تهميش أو تمييز. ومع تشكيل حكومة محلب، سادس الحكومات منذ تفجر الثورة المصرية، أقول باستقامة: إن إعادة بناء ثقة الأمة المصرية فى السلطة، بتقدم الأخيرة صوب هذه الغاية الملهمة، هو شرط استقرار الوطن واكتمال الثورة والتقدم الشامل. وأسجل، أولا، أن هذه الثقة المفقودة لن تعود بغير استيعاب السلطة معنى الثورة، الذى أوجزته مرارا: إن الشعب لن يقبل، والحكم لن يستطيع، إدارة الدولة بأساليب فجَّرت الثورة، وإن الشعب لن يقبل، والحكم لن يستطيع، تكريس أوضاع ولَّدت الثورة. وفقط باثبات السلطة، الانتقالية ثم المنتخبة، أنها قد استوعبت، معنى الثورة، يمكن أن تستعيد الأمة أملها فى مستقبل أفضل مُستحَق. وفقط بالتقدم، باجراءات ملموسة، صوب تحقيق هذا الأمل، يمكن للأمة، وخاصة فقراءها، أن تتحمل أعباء فترة الانتقال ومحاربة الإرهاب، الممتدة والمريرة، وأن تدفع تكاليف إعادة بناء الوطن على صورة التقدم الشامل؛ كما أوجزته شعارات: العيش والحرية والعدل والعدالة والكرامة والسيادة. ولن تعرف مصر استقرارا ولا إنجازا، ولن تتمتع السلطة بالمصداقية، بغير انطلاقها من التفكير فى المصلحة الوطنية، وامتلاكها رؤية شاملة وواضحة للأهداف والوسائل، وتحليها بالاستقامة والشفافية، واحترامها للمعارضة والمساءلة والمحاسبة. وأزعم، ثانيا، أن بناء الثقة يستوجب تحقيق العدالة الاجتماعية، التى لن تكون سوى عدالة توزيع الفقر، إذا أبتذلت، من المعارضة، فى مجرد إعادة توزيع دخل وثروة متواضعة؛ بمعيار المؤشرات العالمية المقارنة، وبحجم التطلعات الشعبية المشروعة. وقد كتبت قبل الثورة أبيّن أن مكافحة الفقر تكون بتصفية أسبابه (الأهرام 7 سبتمبر 2008). والأمر أن الفقر، مثل الإرهاب، لا يقضى عليه بغير اقتلاع جذوره. وكما أن الجذر الأول المُفَرِخ للإرهاب ينبت من فكر دينى منحرف، يدفع دعاته الى قتل مخالفى تفسيرهم الفاشى التكفيرى للنص الديني، فإن الجذر الأول المُوَلِد للفقر ينبثق عن فكر اقتصادى جشِع، يدفع مروجيه الى مضاعفة الفقر المطلق والنسبى لضحايا السوق الحرة! وليس استهداف المناطق والسكان الأشد فقرا، وليس استهداف جماعات وبؤر الإرهاب، سوى إسعافٍ أولي، قد يقلل نزيف الضحايا من القتلى والفقراء؛ ولكن يبقى اقتلاع جذور الفكر المولد للإفقار والإرهاب لا فكاك منه؛ إذا أردنا حماية الحق فى الحياة والأمن والكرامة والحرية وغيرها من حقوق الإنسان والمواطنة. وأرفض ثالثا، فرية أن كثرة إنجاب الفقراء هى سبب فقرهم؛ لأن الانفجار السكانى نتيجة أكثر منه سببا للفقر، ولم يتم كبحه بغير تسريع التنمية وتقليص الفقر فى العالم؛ أو بأساليب قسرية لم تثمر سوى وأد البنات والاتجار بالمواليد فى الصين. والأمر أن تكريس الفقر، الذى يمثل أخطر عوامل تحول ثورة التوقعات الى فورة الإحباطات، مرجعه هدر النظام الاقتصادى الاجتماعى للكفاءة والعدالة؛ سواء فى ذلك اقتصاد الأوامر؛ الذى أهدر كفاءة استخدام الموارد الاقتصادية، ولم يتمكن من تعظيم إنتاجية وتنافسية وربحية مؤسسات الأعمال العامة، ولم يتعد حصاده توزيعاً عادلا للفقر، وهزيمةً فى المنافسة العالمية! أو السوق الحرة؛ التى أهدرت بدورها كفاءة استخدام الموارد الاقتصادية، وخلقت احتكارات قتلت المنافسة، وفاقمت اختلال توزيع الثروة والسلطة. وأما اتباع نهجُ السوق الحرة، إملاءً واختياراً، وزاوج الثروة والسلطة، فقد أهدر الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمواطنة والمسئولية التنموية والمجتمعية لرجال الأعمال، وبدد الإدخار المتاح ويسر تهريبه وغلَّب الاستثمار غير الانتاجي، وهو ما فاقم أسباب الثورة فى مصر وغيرها. وأري، رابعا، أن الاحتجاجات والإضرابات والاعتصامات، التى تسمى فئوية، تعبير عن البعد الاجتماعى للثورة، التى أطلقت عقال ما كان منها متواترا قبلها. وتكمن أسبابها فى فقر مطلق، كان وراء المطالبة برفع الحد الأدنى للأجور من جانب من لا تكفل دخولهم حد الكفاف الإنسانى لحياتهم وأسرهم، أو فقر نسبى يفسر المطالبة بتحسين دخول من يقارنون حالهم بما يرونه حولهم فيتطلعون الى حياة أفضل. وبين المطالب ما هو غير مشروع، ولا تنبغى الإستجابة له، لكن المشروع منها تنبغى الاستجابة له، مع توضيح الحقائق للمحتجين وللرأى العام فى حالة عدم سماح الموارد المتاحة بغير الاستجابة تدريجياً. وإذا أردنا إعادة بناء ثقة الشعب فى الحكم، لم يعد ثمة مفر من تفعيل قرارى وضع حد أدنى وحد أقصى للأجور فى الإدارة الحكومية. وفى حالة مشروعات الأعمال، التى يؤدى الزامها بالقرارين الى خسائر وهروب الكفاءات النادرة وهدر الجدوى الاقتصادية، فانه تتوجب مصارحة العاملين بما يثبت أن عليهم المفاضلة بين فقدانهم وظائفهم أو قبولهم بالممكن. وأقول، أخيرا، إن الاستجابة لثورة التوقعات وكبح فورة الإحباطات بالتعلم الايجابى من خبرة مصر والعالم، يوجب على السلطة أن تعمل على بناء نظام اقتصادى اجتماعى جديد، يجمع بين أدوار: الدولة والسوق، وقطاعى الأعمال العام والخاص، وتفعيل التخطيط وتحفيز المبادرة، والانفتاح الخارجى والسيادة الوطنية؛ بما يضمن: التخصيص الرشيد للموارد وعدالة توزيع الدخل، وتعظيم الإنتاجية والتنافسية وتحقيق العدالة الاجتماعية، وردع الفساد وكبح الجشع، وبناء أسس الاندماج المتكافيء فى الاقتصاد العالمي، ومواجهة تحديات عصر المعرفة واقتصاد العولمة. وسوف يحقق هذا النظام غاياته بتفعيل إستراتيجية للتصنيع، عبر تبنى سياسات اقتصادية تضمن أسبقية تنمية وتعميق وتنويع الصناعة التحويلية، وهى الفريضة الغائبة عن الحكومة والمعارضة. وبغيرها لن يتعزز أمن مصر القومى بتملك القدرة الصناعية والتكنولوجية، ومن ثم القوة الاقتصادية والشاملة، اللازمة لحماية مصالحها وقيمها وتعزيز مكانتها ودورها، ولن يتمتع المصريون بأمنهم الإنساني، فيتحرروا من الحاجة والفاقة والخوف من المستقبل، بفضل ما تتيحه عملية التصنيع من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية، تؤمن لهم دخلا عاليا وحياة كريمة. وتبقى أسباب أخرى لتحول ثورة التوقعات الى فورة إحباطات، تستحق تناولا لاحقا.