هل كان السابقون أكثر منا رحمة وشفقة ؟، أم كانوا أكثر منا إيمانا وقربا من الله عز وجل؟، المؤكد أنهم طبقوا حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: " ما من يوم تطلع شمسه إلا وملكان يناديان اللهم أعط منفقا خلفا وأعط ممسكا تلفا«، فلقد أوقف السابقون أملاكهم لرعاية الفقراء والمحتاجين واليتامى والمرضى وطلاب العلم وعمارة المساجد، وامتد عطف هؤلاء ليصل للحيوانات، فكان هناك وقف للعصافير والحمام والكلاب الضالة، ووقف كسر الخادمة للطبق، فأين نحن من هؤلاء؟ وفى عصرنا تراجعت سنة الوقف ولم تعد هناك أوقاف جديدة، رغم زيادة أعداد الفقراء والمحتاجين والمرضي، وساد الطمع والجشع وتسابق أصحاب النفوس الضعيفة لنهب الأملاك التى وقفت للخير . علماء الدين طالبوا بضرورة نشر ثقافة الوقف، وتشجيع الأغنياء على وقف بعض أملاكهم، والمشاركة فى مجالات الخير مثل بناء المستشفيات والمدارس ورعاية الفقراء، كما طالبوا وسائل الإعلام بضرورة التوعية بمخاطر التعدى على الأوقاف، وأن تقوم الدولة بدورها فى سن القوانين وتغليظ عقوبة التعدى على أملاك الوقف، والعمل على رد الأوقاف المنهوبة، لتعود هذه الأملاك كما أوقفها أصحابها. وحول خطة وزارة الأوقاف لتنمية مال الوقف ومواجهة التعديات، وتأسيس هيئة شرعية للأوقاف برئاسة الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف وتضم فى عضويتها مفتى الجمهورية ووكيل الأزهر وعددا من كبار علماء الدين، ودور هذه الهيئة فى وضع الضوابط الشرعية لتوجيه أموال الوقف وإحياء تلك الفضيلة الإسلامية التى غابت عن حياتنا ، يقول الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف، أن الوقف يمكن أن يكون أحد أهم دعائم التنمية فى المجتمع، وهناك الكثير من المجالات التى يمكن أن يسهم فيها الوقف، خصوصا فى مجال المشروعات الصغيرة وتنمية المحافظات، وكل ذلك بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية والالتزام بشروط الواقفين، موضحا أنه قام بالعديد من الزيارات فى المحافظات لمتابعة مشروعات هيئة الأوقاف على أرض الواقع، ومعرفة المعوقات التى كانت موجودة، مشيرا إلى أنه تم حل الكثير من هذه المعوقات، وخلال الفترة القادمة سيتم تسليم عدد من مشروعات الإسكان الكبرى فى المحافظات، وجميع مشروعات الإسكان الخاصة بهيئة الأوقاف، يتم تخصيص نسبة من هذه الوحدات للأئمة والدعاة والعاملين بالوزارة، وذلك لتحقيق العدالة الاجتماعية والارتقاء بأحوال الدعاة . ضوابط شرعية وأوضح جمعة أن الهيئة الشرعية للأوقاف عقدت اجتماعا يوم الأحد الماضى بحضور الدكتور شوقى علام مفتى الجمهورية والدكتور عباس شومان وكيل الأزهر، وفى هذا الاجتماع أكدت الهيئة قصر استبدال الوقف على الضرورة، وأن يكون الاستبدال يحقق مصلحة عامة وبالقيمة العادلة، ليس هذا فقط بل يتم شراء عقار جديد يسجل لصالح الواقف الأول ولنفس غرض الوقف، وأن يكون الاستبدال بهدف تعظيم الفائدة من الوقف، وفى كل الأحوال تتم مراعاة الضوابط الشرعية، والمؤكد أن كل هذه القرارات والإجراءات تهدف للحفاظ على مال الوقف وتنميته، ودائما نؤكد أن مال الوقف بمنزلة مال اليتيم من أكله سحتا إنما يأكل فى بطنه نارا، لأن الواقف حبس ماله على المسجد واليتيم والمحتاج وغير ذلك، فبدل أن يعمل المعتدى على الإضافة إليه حسبة لله عز وجل يعتدى عليه ويأكله سحتا، كذلك من يسهل الاعتداء على مال الوقف، أو يسرب حججه أو يزور فيها، أو يفرط فى الحفاظ عليه، لا يقل إثما ولا جرما عن المعتدين أنفسهم، ولذلك سيتم حصر جميع الأوقاف وعمل أطلس جغرافى لها على مستوى الجمهورية . تطوير منظومة الاستثمار من جانبه، أشار المهندس صلاح الجنيدي، رئيس هيئة الأوقاف، أن الشهور القليلة الماضية شهدت الكثير من الانجازات، نتيجة للتوجيهات والمتابعة المستمرة من الوزير لكل مشروعات الهيئة، وذلك فى المقام الأول بهدف الحفاظ على مال الوقف وتنمية الاستثمارات وإزالة التعديات بالتنسيق مع الجهات المسئولة، وتم إنشاء إدارة لإزالة التعديات وهناك لجان تفتيش يومية على المناطق فى المحافظات لمتابعة تنفيذ هذه القرارات، موضحا أن خطة هيئة الأوقاف تقوم على التطهير والبناء، وبالتوازى مع إجراءات إزالة التعديات، هناك بروتوكولات تعاون مع جميع المحافظات للدخول فى مشروعات جديدة فى مختلف المجالات، سواء كانت زراعية أو صناعية أو بناء فنادق ومولات تجارية، فهناك تغيير فى منظومة استثمار مال الوقف، وكل ذلك لتحقيق أفضل عائد من هذه الاستثمارات، ومنذ أيام تم تأسيس 5 شركات جديدة ضمن المجموعة الوطنية لاستثمارات الأوقاف، والهيئة لديها القدرة والرغبة فى التعاون مع جميع المحافظات والدخول فى مشروعات مشتركة، لإحداث تنمية حقيقية وتوفير فرص عمل للشباب وتحقيق شروط الواقفين، وسيتم خلال الفترة القادمة عرض مجموعة من المشروعات الكبرى التى سوف تنفذها الهيئة، ويجرى حاليا الاتفاق بشأن هذه المشروعات مع بعض المحافظات نشر ثقافة الوقف ووجه الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم، عميد كلية أصول الدين بأسيوط، رسالة لرجال الأعمال والأغنياء والقادرين بضرورة وقف بعض أملاكهم لرعاية الفقراء والمساكين والمحتاجين والمرضى ولعمارة بيوت الله عز وجل، مشيرا إلى أن هناك الكثير من المجالات التى يستطيع من خلالها الأغنياء المساهمة فى خدمة المجتمع، فكما فعل الأغنياء فى السابق وقاموا بدورهم وأوقفوا بعض ممتلكاتهم، يمكن لرجال الأعمال حاليا أن يساهموا فى بناء المستشفيات والمدارس ورعاية الفقراء والمحتاجين واليتامى والأرامل، وكل هذه الأعمال تشبه الوقف الإسلامى الذى كان موجودا فى العصور السابقة، وتدخل هذه الأعمال فى إطار الصدقة الجارية، التى قال عنها النبى الكريم صلى الله عليه وسلم:» إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث.. صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» ، فالصدقة الجارية تشمل الوقف، وتشمل أيضا بناء المستشفيات والمدارس وعمارة بيوت الله عز وجل ورعاية الفقراء والمحتاجين، وهذه من الأعمال التى تصل للإنسان بعد وفاته، ما دام العمل الخيرى موجودا على ظهر الأرض، مشيرا إلى ضرورة أن تكون هناك منظومة متكاملة للتوعية بأهمية الوقف ونشر هذه الثقافة بين الناس، ولابد أن تقوم أجهزة الإعلام المختلفة بدورها فى هذا المجال، كذلك هناك دور كبير يقع على عاتق العلماء والدعاة، فعليهم أن يوضحوا للناس فضائل الوقف، ودوره فى خدمة وبناء المجتمع ورعاية الطبقات الفقيرة، لتحقيق العدالة الاجتماعية والتكافل الاجتماعى . وقف للعصافير والكلاب الضالة ويعرض الدكتور عبد المقصود باشا، أستاذ التاريخ الإسلامى بجامعة الأزهر، لنماذج من التاريخ تدل على دور الوقف فى بناء المجتمع، موضحا أن الوقف من النظم الإسلامية التى عرفها المجتمع الإسلامى منذ فجر الإسلام، وقد أسهم هذا النظام بدور كبير فى بناء المجتمع عبر العصور، وفكرة الوقف المعنوية تقوم على الصدقة الجارية، أما أصله فيقوم على وقف الأملاك واستغلال العائد فى وجوه الخير، وبالأوقاف تم بناء المساجد والمستشفيات ومعاهد التعليم والقلاع والحصون، وبالأوقاف أيضا تم بناء المضايف لخدمة عابرى السبيل والفقراء، وكان للوقف دور كبير فى رعاية حجاج بيت الله الحرام وكبار السن وذوى الاحتياجات الخاصة، وكانت مساهمة الوقف فى المجتمع أكثر من مساهمة بيت المال أو وزارة المالية حاليا، وأغنياء المسلمين كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بهذه الأوقاف، لدرجة أنه لم يبق بفضلها فقير فى المجتمع، والتاريخ الإسلامى شاهد على ذلك عبر العصور، بل كانت هناك أوقاف فى العصر المملوكى لكسر الخادمة للطبق، حتى لا تتعرض الخادمة للضرب، وكانت أموال الوقف تخصص لرعاية المرضي، وكان يتم تخصيص حجرة لكل مريض، وإذا شفى المريض كان يأخذ مبلغا من المال وكسوة جديدة، بهدف أن يخرج إلى المجتمع عضوا صالحا معه المال للصرف منه على نفسه، وربما عمل بهذا المال مشروعا يتكسب منه، وكانت هناك أوقاف للعصافير والحمام والكلاب الضالة، لدرجة أن الدولة كانت تقيم القباب وتنثر عليها الغلال طوال اليوم لتأكل العصافير، وإلى جانب هذه القباب كانت تشيد مجار للمياه، بهدف أن تجد العصافير الطعام والشراب . سرقة الحجج ويضيف أن أغنياء المسلمين قاموا بعمل حجج للوقف، وكان هناك خطاطون لكتابة هذه الحجج بخط واضح ، ووضعت هذه الحجج فى أرشيفات خاصة ، وكان عليها حراس من المفترض أنهم أمناء، لكن الجيل الأول والثانى وإن كانوا أمناء، إلا أننا لم نعدم من الأجيال التالية من هو فقير النفس، ولذلك وجدنا من سرق هذه الحجج أو غير فى الأسماء بنفس الخط، ودخلت هذه الأمور على كبار المختصين، فضاعت أوقاف المسلمين التى كانت مخصصه للصرف على الفقراء والمحتاجين واليتامى وأصحاب الحاجات، وبعض هذه الحجج موجود حاليا فى أرشيف دار الوثائق ووزارة الأوقاف ودار المحفوظات، لكنها لم تسلم من العبث وأصحاب النفوس الضعيفة ، وإذا كانت بعض هذه الحجج قد ضاعت واختفت أوراقها، فإن الوقف مازال على أرض الواقع، وبالبحث والتقصى يمكن تحديد ومعرفة هذه الأصول، فالأرض باقية والأوقاف باقية، مهما ضاعت الحجج. رد الأوقاف المنهوبة وفى سياق متصل أوضح الدكتور زكى عثمان، أستاذ الثقافة الإسلامية بجامعة الأزهر، أن الوقف ضرورة فى صناعة التنمية التى تجلب الخير والرفاهية، وينبغى أن ندرك ذلك جيدا، فعلاقة الوقف بالتنمية ينبغى أن تكون محل دراسة وبحث من الجميع، مشيرا إلى ضرورة العمل بكل جهد لعودة الأوقاف المنهوبة، لأن إعادة الحقوق إلى أهلها أمر مهم للغاية، وأصحاب هذه الحقوق هم الفقراء والمساكين، لأن الذين تركوا هذه الأوقاف وضعوا لها شروطا، ولابد من الالتزام بشروط الواقفين، وقضية رد الأوقاف المنهوبة فى غاية الأهمية، وتحتاج إلى جهد كبير للوصول إلى هذه الأملاك التى سرقت، ولو أن جميع الأوقاف ظلت كما أراد أصحابها، لكانت هناك حلول لكثير من المشكلات والأزمات التى نواجهها اليوم، ولابد أن يدرك الجميع أن الوقف ينطلق من قاعدة التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وهذا بهدف الحفاظ على ما هو موجود من الوقف والعمل على تنميته، لأن التعدى على أراضى الأوقاف أصبح ظاهرة، وهذه الظاهرة تتنافى مع مبدأ الوقف القائم على فكرة الصدقة الجارية، ومن هنا نقول ان رد الأوقاف التى استولى عليها البعض منذ سنوات، تعد قضية محورية عند الحديث عن دور الوقف فى التنمية وبناء المجتمع، هذا بالإضافة للحفاظ على الأوقاف الموجودة وتنميه الاستثمارات القائمة.