تحتفل نيجيريا حكومة وشعبا بعيد استقلالها وانتصارها على كل المحاولات والمؤامرات التى واجهتها حكوماتها المختلفة لتقسيم نيجيريا، والتى كان أخطرها وأصعبها ما واجهته فى محاولة انفصال إقليم بيافرا الغنى بالبترول. وذلك عندما أعلن الجنرال أوجوكو الحاكم العسكرى لاقليم شرق نيجيريا فى 30 مايو 1967 استقلال الاقليم باسم جمهورية بيافرا، وقررت حكومة نيجيريا مواجهة هذه المحاولة حتى تبقى، كما كانت دائما دولة كبيرة قوية لها مكانتها الافريقية والدولية وارسلت حملة عسكرية للقضاء على الحركة الانفصالية، وفى الوقت نفسه تدفقت المساعدات من دول الاستعمار الغربى وشركاتها المنتشرة فى غرب افريقيا لدعم الانفصال وأمدت أوجوكو بالسلاح والمال والمرتزقة الاوروبيين، وانبرى الإعلام الغربى فى حملة واسعة لتأييد أوجوكو وحركته الانفصالية حتى أصبح الرأى العام الغربى كله منحازا بشكل هستيرى إلى استقلال بيافرا تحت شعارات (انقذوا شعب بيافرا وحقه فى تقرير المصير) وانخرطت المنظمات الإنسانية الغربية فى هذه الحملة وعلت أصوات تدعو بعدم جواز أن يكون الدم ثمنا لبقاء وحدة البلاد. ولم تكن هذه كل الحقيقة، فمع وجود بعض الدوافع المحلية للانفصال كان تنفيذ الفكرة والمساعدات التى تدفقت على بيافرا تؤكد أن محاولات انفصال بيافرا كانت مشروعا استعماريا بامتياز. وجاء ما يؤكد ذلك فى رسالة عاجلة بعث بها الجنرال جوان رئيس حكومة نيجيريا الفيدرالية ورئيس المجلس العسكرى الحاكم فى شهر اغسطس 1967 موجهة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، يشرح فيها الخطر الذى تتعرض له بلاده جراء غارات جوية يومية تشنها طائرتان أصبح يمتلكهما الجنرال اوجوكو قائد الانفصال فى بيافرا على العاصمة لاجوس دون أن تلقى أى مقاومة، حيث لم يكن هناك أى نوع من أنواع الدفاع الجوى، وأوضح أنه لا يمكن الصمود فى مواجهة هذه الغارات أكثر من أيام قليلة، وذكر الجنرال انه لجأ إلى جهات عديدة، ولم يسعفه أحد، غير ان الاتحاد السوفيتى أمده بطائرات ميج 19 ولكن دون طيارين، وذكر الجنرال جوان فى رسالته انه يدرك تماما صعوبة الموقف الذى يمر به الرئيس عبد الناصر فى الوقت الحالى، ولكنه يتساءل عن إمكانية أن يسعى الرئيس المصرى لدى أصدقائه وذكر من بينهم الجزائر ليمده بعدد من الطيارين للطائرات الميج. كان عبد الناصر بالفعل يمر بظروف بالغة التعقيد بعد هزيمة عسكرية (فى حرب يونيو 67) لم يمر عليها سوى أسابيع قليلة، وكان قد بدأ حربا جديدة هى حرب الاستنزاف تمهيدا لتحرير الاراضى المحتلة، كما كان يستعد للسفر إلى الخرطوم لحضور أول قمة عربية بعد هزيمة 1967. وفى هذا الجو المشحون تسلمت هذه الرسالة بصفتى الوزير المسئول عن الشئون الافريقية فى ذلك الوقت وقمت بعرضها فورا على رئيس الجمهورية لخطورة ما جاء بها. وجاء تعليق ورد الرئيس جمال عبد الناصر على هذه الرسالة سريعا وحاسما، فقد قال: لا أعتقد أن أحدا من أصدقائنا أو غيرهم سوف يستجيب لهذا الطلب، فقد سبق أن تعرضنا لموقف مشابه، ولم يستجب أحد لندائنا، فإرسال طيارين يختلف عن مجرد ارسال معدات عسكرية، ولكننى لا أريد أن تنتكس افريقيا بنكستنا، خاصة نيجيريا بما تمثله من أهمية فى القارة الإفريقية، كما أن نجاح بيافرا فى الانفصال سوف يتبعه تقسيم نيجيريا إلى دويلات، وكان هذا فعلا ما ينادى به أوجوكو الذى كان يرى أن أسس الوحدة الفيدرالية قد انهارت تماما، وأن الحل الوحيد هو اقامة اتحاد كونفيدرالى من أربع دول مستقلة تماما هى الأقاليم الاربعة القائمة فى ذلك الوقت، وعلى هذا الأساس كان قرار جمال عبد الناصر الوقوف مع نيجيريا ومساعدتها فى القضاء على انفصال بيافرا، وبالتالى تم تكليفى بالاستجابة لطلب الجنرال جون على الفور وإمداده بالطيارين على أن يكونوا من الضباط الذين تركوا الخدمة فى القوات الجوية، وقال لى عبد الناصر انه نظرا لانشغالاته العديدة فى الفترة المقبلة فإنه يخولنى سلطات رئيس الجمهورية فى كل ما يتعلق بهذه المهمة. ولم تكن مهمتى سهلة خاصة فى البداية، فقد كان عامل الوقت ضاغطا بشكل كبير تحت استعجال السلطات النيجيرية وملاحقتهم لى، وكان على أن أتعامل مع جهات عديدة وافراد ليسوا فى الخدمة، وعلى أن أوفر أطقم الصيانة واللاسلكى كل ذلك خارج القنوات الرسمية حفاظا على السرية، كما كان على أيضا أن أنهى الترتيبات مع السلطات النيجيرية وتحديد قواعد وأسلوب التعاون بيننا بالشكل الذى لا يسبب لنا أى تعقيدات دولية نحن فى غنى عنها، فاتفقت على أن تأخذ العملية شكل التعاقد الفردى بين سفارة نيجيريا فى القاهرة، وكل فرد على حدة أى انها اتخذت فى مظهرها شكلا مماثلا لما يفعله المرتزقة الأوروبيون رغم أن الضباط المصريين لم يكونوا مرتزقة فى واقع الأمر حيث كانت المهمة وطنية بامتياز، ولكننا كنا نستخدم أحد الأساليب التى استخدمتها قوى الاستعمار فى الكونغو، وفى أماكن كثيرة أخرى. وقد وصلت الدفعة الأولى من الطيارين المصريين إلى لاجوس بعد أيام قليلة من استلام رسالة الجنرال جوان، وفى اليوم التالى لوصولهم كانوا يقودون الطائرات الميج ويملأون سماء لاجوس وسط فرح وتهليل أهالى العاصمة فقد كان ذلك ايذانا باختفاء طائرات أوجوكو وانتهاء غاراتهم نهائيا. وكلف الضباط المصريون بعد ذلك بضرب مطار بيافرا وابقائه معطلا بصفة دائمة، وكان معنى ذلك وقف الامداد العسكرى إلى بيافرا، والذى كان معظمه يصل عن طريق الجو. ثم انغمس الطيارون المصريون فى الحرب النيجيرية ضد قوات الانفصال، وزاد عدد الطيارين المصريين فى نيجيريا بتقدم الحرب وانشاء كلية طيران فى لاجوس لتدريب الضباط النيجيريين واضطررنا إلى الاستعانة بطيارين من القوات الجوية المصرية مباشرة لاستكمال الاعداد المطلوبة، واستمر وجود الطيارين المصريين يشاركون فيما يطلب منهم إلى ان انتصرت القوات الفيدرالية وهرب اوجوكو إلى ساحل العاج واستسلمت قواته، وتم القضاء نهائيا على محاولة انفصال بيافرا، وبقيت نيجيريا موحدة. لقد كانت مصر الدولة الوحيدة التى اشترك جنودها مع القوات النيجيرية فى حماية سمائها، وفى إنهاء الانفصال، وجاء ذلك فى إطار من الصداقة والتعاون والعلاقات المتينة بين البلدين طوال فترة الستينيات وبداية السبعينيات، وقفت خلالها نيجيريا مع مصر وأيدتها فى كل قضاياها التى عرضت بالأمم المتحدة فى أوقات كانت عصيبة. وأراد الجنرال جوان رئيس المجلس العسكرى أن يعبر عن شكره وتقديره للرئيس جمال عبدالناصر وحكومته، فكانت القاهرة أول عاصمة يزورها رسميا بعد أن استعادت نيجيريا وحدتها، وفى أول لقاء للجنرال جوان مع عبد الناصر قال متحدثا عن دور الطيارين المصريين لقد كان لأحفاد الفراعنة دور اساسى فى النصر الذى حققناه. كانت هذه لمحة فى تاريخ العلاقات بين دولتين كبريين فى إفريقيا، نيجيريا ومصر، لهما دورهم الاساسى فى حفظ أمن وسلامة النظام الافريقى ووحدة القارة.