ثمة حبل نورانى يربط الشعوب العريقة ببعضها البعض، ثمة تشابه ما فى طريقة سير ناسها فى مدنهم القديمة برؤوس عالية وأعين لامعة تبحلق فى عين التاريخ بكبرياء مهما كانت لحظتهم الحضارية الآنية، ومهما كانوا فقراء أو متألمين يرزحون تحت حكم طغاة أو لصوص ينكلون بشعوبهم ويلهون بمقدراتهم. قفزت هذه الفكرة فى رأسى كما قفز الكرملين أمام عينيّ بكل ألق أبراجه الفارهة وساحته الحمراء وأنا أتابع الاستقبال الحافل المهيب للمشير السيسى فى بهو الكرملين هذا الأسبوع. يسير الروسى إلى جوار أسوار الكرملين أو «القلعة» باللغة الروسية وهو يعرف أنه يتكئ على آلاف السنوات وفوق رأسه تاج قيصري، تمامًا مثل المصرى حين يسير إلى جوار أهرامات الجيزة وفوق رأسه تاج فرعوني. عرفت هذا التقارب الروحى منذ نهاية ثمانينيات القرن العشرين حين سافرت إلى موسكو للدراسة وكنت على يقين أننى سألتقى بشخوص «المفتش العام» و«الأنفس الميتة» ل «جوجول»، و«الإخوة كارامازوف» و«الجريمة والعقاب» ل «دوستويفسكى»، و«بطل من هذا الزمان» ل «ليرمانتوف»، وسأزور «الدون الهادئ» حتى أرى مسرح الأحداث التى شهدت رائعة «شولوخوف». فى موسكو وأثناء الدراسة كنا نستمع إلى أصدقائنا الروس وهم يقرأون علينا بزهو ووله والدموع تترقرق فى أعينهم أبيات شاعرهم القومى «بوشكين»، ونردد خلفهم قصيدته الأشهر «روسيا»، ثم نتحدث طويلاً عن انتصار الشاعر فيه على الفارس، ونحن نختلف حول موته العبثى إثر مبارزة شهيرة وهو لم يكمل بعد عامه الأربعين، رددنا أبيات «آنَّا أخماتوفا» وحاولنا قراءة لحظة روسيا آنذاك التى انفرط عقدها فلم تعد الاتحاد السوفيتى المترامى الأطراف فى ضوء شيطان «المعلم ومارجريتا» تحفة «بولجاكوف» الفريدة الذى قرر أن يزور موسكو. المدهش أن الأدب العالمى الأوروبى والأمريكى لم ينكر أبدًا أن هؤلاء الكبار هم الآباء وهم المؤسسون الحقيقيون للمشهد الأدبى العالمي. أكثر من ربع القرن مر على ما يشبه أفول علاقتنا الأدبية والثقافية بروسيا، وجرت فى النهر أثناء هذا الأفول مياه كثيرة، تغيرت إثرها بعض الخرائط واشتعلت إثرها بعض الحروب وسقط العديد من الطغاة وهيمن على العالم قطب واحد بمعالم حضارة مادية استهلاكية بشعة لا تسمح للجموع بالتقاط الأنفاس وهم يتسابقون بالمناكب للحصول على آخر صيحات من سلع استهلاكية تم حرق مراحلها لدى منتجيها الأصليين، أكثر من ربع القرن، والعالم يكاد يسير على قدم واحدة، ويستمع إلى صوت واحد، ويرى سينما واحدة آتية من هوليوود حتى أصبح شبه مستحيل توقع جديد سوى البطل الأوحد الذى سينتصر على عدو وهمى من الفضاء أو من أقصى الأرض قرر فجأة أن يدمر الكرة الأرضية ومَن عليها، ولكن هذا السوبر مان سيردعه ويزيله من الوجود تمامًا وسيُعلن هذا بالطبع من البيت الأبيض. فهل كانت مصادفة أن العصر الذهبى للسينما العربية كان حرًّا فى تقاطعه مع نصوص وتقنيات من كل ثقافات العالم؟ هل كانت مصادفة أن نستمع إلى الموسيقى التصويرية لأفلام العصر الذهبى فنستمع إلى مزيج فادح الجمال من أعمال تشايكوفسكى وسيد درويش وكورساكوف الذى استلهم «ألف ليلة وليلة» فى رائعته الموسيقية الخالدة؟ أو أن يستقى «بوشكين» روح «ألف ليلة وليلة» فى مؤلفه بالغ الصيت «روسلان ولودميلا»؟ أو أن يجسد وجه «فاتن حمامة» البرىء وجه «أنَّا كارنينا» بطلة «تولستوى» فى فيلم «نهر الحب»؟ لم يكن غريبًا إذن أن تتقاطع روح الثقافتين منذ زمن طويل، وأن يكون نتاج هذا اللقاء ذروات أدبية بالغة الأهمية فى التراث الروسى والعربي، ومن ثم لن يكون غريبًا أن نتعرف على موظف «جوجل» فى شوارع القاهرة أو أن تلقى شخوص الأعمال الروائية الشهيرة محبة جمهور القراء الذى يشبهها، فتلقى رواجًا ونجاحًا فى السينما والأعمال الدرامية. فى موسكو تجوب الشوارع العتيقة وقد تستمع إلى صوت خطواتك على بلاط حجرى أثرى استطاع الصمود فى مكانه منذ مئات الأعوام، وقد يوقفك نداء أم لابنها وهى تصيح: «فانيا»، فتتذكر على الفور مسرحية «الخال فانيا» ل «تشيخوف»، وقد تحاول أن تذهب إلى «يالطا» لتتعرف على البيت الذى شهد حياته القصيرة بجسدٍ مكدود، سترى أشجار الصفصاف التى تذكرك بصفصاف مصر على نهر النيل العظيم، والوجوه الطيبة المطمئنة التى تذكرك بناس بلادك فتتجاوز على الفور الفرق بين اللون الأسمر واللون الأشقر وتذوب فى مدى تقارب ردود الفعل والمنظومة الأخلاقية الشرقية والضمير الإنسانى الذى تكون عبر آلاف السنين، ستمر على النخيل وشجر اللوز والسوسن، وقد تسير إلى جوار «بستان الكرز» أثناء عودتك محملاً بتقدير ومحبة للروس لإكبارهم لمبدعيهم. فى موسكو وبمجرد أن يعرفوا أنك مصرى سيسألونك: هل قرأت «قبسات من القرآن»؟ هل رأيت كيف أحب «بوشكين» التراث العربى والفارسي؟ حتى إنه حاول تعلم اللغة العربية، وما زالت الدفاتر التى كتب فيها حروف الأبجدية العربية موجودة فى متحفه! فى موسكو أثناء تعثرى فى البداية وأنا أتعلم اللغة الروسية التى تشبه فى صعوبتها اللغة العربية، كنت أبتسم وأنا أستمع إلى مدرستى «أولجا إيفانوفنا» وهى تتحدث دون توقف عن زيارتها إلى السد العالى فى نهاية الستينيات وعن أنها لا تستطيع مسامحة نفسها لأنها لم تزر أهرامات الجيزة حتى هذه اللحظة، وأنها... أبتسم لأنها تتحدث معى وكأنها تعرفنى منذ زمن وكأننا بصدد استكمال حوار انقطع لسبب تافه منذ سنوات. ربما هذا تحديدًا أو أكثر ما كنت أعنيه حين أشرت إلى هذا الحبل النورانى الممتد فوق سماوات المدن القديمة، نعم.. ثمة جسور أهملت بل دُمرت عن عمد بين شعبين عريقين، وثقافتين يمتد عمقهما إلى آلاف السنين، ومشتركات وثوابت كان لها أن تينع طوال عقود، ولكن التحولات السياسية الكبرى أوقفت نموها، هذه التحولات التى انتهت بثورات الربيع العربي، وقد يكون إحدى بشائر هذا الربيع عودة العلاقات الثقافية والأدبية والفنية الروسية المصرية بكل زخم مفرداتها فى كلا البلدين.