حين يذكر ابن خلدون أن آخر ما يطرأ على الإنسان من تطورات فى حياته الاجتماعية هو اهتمامه بالموسيقى والغناء، فمعنى ذلك أن هذا الإنسان لابد وأن يمر بكل أشكال وأساليب العيش المختلفة، حتى يكون مستعدا ومؤهلا لسماع وأداء الموسيقى. وقد يتنقل بين مناطق جغرافية مختلفة، ثم العودة ثانية إلى مقره، وقد حُمل من سفره هذا خيرات وخبرات، وقد يستزيد من علوم أو آداب، وأيضا، فنون أخرى، قد تلقاها أو سمعها أثناء فترة ترحاله، ربما يتأثر بها حينا، لكنه يتخلى ويتحرر من هذه الفنون التى اقتبسها أثناء سفره ورحيله، ولا يدعى أنها أصيلة منه، أو من نواتج وعصارة فكره. حتى الفنانون منهم؛ قد يتأثرون فى أسفارهم بموسيقى الآخرين، فى البلدان التى زاروها، ولكن لا يدعون أنها تعود إليهم؛ لكن اليهود يدعون - كعادتهم - أن فنونهم أصيلة، سواء كانت ألحانا أو غناءً، أو ابتكار آلات موسيقية؛ ويدعون، أيضا، أن لا علاقة للآخرين بها؛ رغم أن تلك الألحان معلومة المصدر لدى المتلقى، أما الألحان اليهودية الدينية، فهى غير مطروقة للناس، ولم يرددوها كما فى الألحان الموسيقية الدينية المسيحية أو الإسلامية، وهى، أيضا، منغلقة حتى على المتخصصين فى مجال الموسيقى والغناء، حتى يتأثر بها الملحنون فى أعمالهم؛ فقد تأثر كل من: سيد درويش ومحمد عبد الوهاب، ورياض السنباطى، ومحمد فوزى، ومحمود الشريف، وبليغ حمدى، وغيرهم؛ بالألحان الكنسية المصرية، وأدرجوا بعضا من تيماتها فى ألحانهم، ولم نسمع أن هناك لحنا يهوديا قد اقتبس فى الألحان المصرية. وإن كان اليهود قد برعوا فى جميع المجالات، وفى مختلف الشئون، اقتصاديا، سياسيا، وعسكريا، إلا أنهم لم يتميزوا فى مجال الموسيقى، سوى فى العزف والتأليف الموسيقى وقيادة الأوركسترا، فقط؛ لكنهم فى مجال الموسيقى القومية، لم يكن لهم أى تراث موسيقى يذكر، يمكن تسميته “موسيقى شعبية يهودية” أو “موسيقى قومية يهودية”؛ إذ إن ذلك لن يتحقق بين يوم وليلة، ولم يفلحوا حتى الآن فى ذلك، بل إنه سوف يستغرق قرونا لحدوثه؛ لانتفاء أسباب الوحدة الوطنية، وعدم وجود ثقافة مشتركة، أو تجانس عام، إضافة إلى الفروق الواضحة فى نسيج المجتمع اليهودى، وبين طبقاته؛ سواء فى مهجره أو فى فلسطينالمحتلة؛ وسوف تقف الجغرافية والتاريخ حائلين دون تحقيق ذلك؛ وقد أسهب الباحث فى شرح ذلك. و من ثم ، فإننا نحاول من خلال هذه المساحة إثبات أنه ليس لليهود موسيقى واضحة وملموسة ومحددة المعالم، من حيث عناصرها الأساسية، نغم وإيقاع.؛ وأن هناك محاولات لليهود فى الاحتكاك بالموسيقى المصرية والعربية. و ربما اتخاذ خطوات وإجراءات لدمج الموسيقى المصرية، ونسجها فى الفن اليهودى؛ مستغلين في ذلك عدم إدراك الرأى العام الرسمى أو الشعبى، لمنابع وروافد التوغل اليهودى الصهيونى فى الموسيقى العربية، وتطفلهم على التراث الموسيقى المصرى والعربى، بالانتحال أو الدمج، دون الفصل بين الهُويات الموسيقية، دونما إدراك من قبل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة المصرية، أو تناولها فى مصنفات ومؤلفات دور النشر العامة، وسط محاولات.زحف صهيونية على الثقافة المصرية بسلاح الموسيقى والغناء، ساعين إلى توثيق بعض الألحان المصرية، بأشكالها المختلفة، الشعبية أو الكلاسيكية التقليدية، والتى نسبها اليهود إلى أنفسهم.و لقد ظهر اليهود منذ أربعين قرناً على وجه التقريب وتنقلوا فى لغاتهم ما بين الكنعانية والعبرية، وتنوعت هجراتهم موطناً بعد موطن، من العراق وحوران وكنعان، يعيشون إلى جانب القبائل، ولا يتغلبون على واحدة منها. ثم لجأوا إلى مصر، وظلوا بها وقتا طويلاً؛ فقد نعموا بالعيش الرغيد فى جوار النيل، وتعلموا من المصريين آداب الحياة، والخبرة فى تدبير الموارد، والدفاع عن النفس؛ فتزاوجوا وأنجبوا نسلاً كثيراً ولكن على أية حالٍ كانت العزلة هى طابعهم، حيث إنهم كانوا - دائماً - وافدين على البلدان التى دخلوها، فلم يكن لهم اختلاطٌ مع ذويهم؛ ولا ثقافةٌ تُذكر، فهم منكمشون.و بصرف النظر عن تاريخ هجرات اليهود الطويل في مختلف دول العالم ، فقد بدأت فى العصر الحديث موجات الهجرة اليهودية إلى مصر مرة أخرى، وذلك بفضل تشجيع محمد على وأسرته الجاليات الأجنبية فى مصرفتزايد توافد اليهود إلى مصر حيث المناخ ملائم للرواج الاقتصادى الناشئ آنذاك. وكما احتضنتهم مصر أثناء وزارة نبى الله يوسف الصديق (عليه السلام)، وجدوا منذ القرن التاسع عشر فى مصر ملاذا آمنا وأفضل مما سبق؛ فقد عاش اليهود فى مصر فى جو من التسامح، وحرية المعتقد، فلم يكونوا بمعزل عن الآخرين، ولم ينغلقوا على أنفسهم مثلما كانوا فى كل بلد أقاموا فيه، لكنهم فى مصر اندمجوا مع المجتمع، وعملوا فى كل المهن والوظائف، ولم يشعروا بأي غربة فى مصر، وكونوا مع المسيحيين والمسلمين نسيجا مصريا واحدا، أمام الاحتلال، عبر عنه سيد درويش، إذ غنى، أثناء ثورة 1919: إيه نصارى ومسلمين قال إيه ويهود؟ دى العبارة نسل واحد م الجدود وظل التسامح هو السمة السائدة فى مصر، على مستوى الصعيدين الرسمى والشعبى، إذ شهدت الطوائف اليهودية ازدهارا فى جميع مجالات الحياة، فقد تم الاستعانة بهم فى وظائف الدولة، ولاسيما فى أقسام وأقلام الحسابات والترجمة، ووصل بعضهم إلى منصب مدير الخزانة، وعمل آخر مراقبا بوزارة المالية؛ واستوزر بعضهم فيما بعد، مثل: “يوسف قطاوى”؛ وأتيح لأسرة “روتشيلد” اليهودية ذات الأصول الفرنسية أن تشارك فى تمويل مشروع شق قناة السويس كذلك اشتهر فى الأدب والفن “يعقوب صنوع”، الذى أنشأ مسرحا باسمه، ومجلته الشهيرة “أبو نظارة”، وأصدر “موسى كاستلى” صحيفة “الكوكب المصرى” وظهرت شركات تحمل أسماء يهودية، مثل: “صيدناوى”، و”قطاوى”، و”شيكوريل”، و”شملا”، و”جاتينيو” وغيرها. وأطلقت أسماء بعضهم على شوارع مصر، مثل: “شارع منشه” فى حى محرم بك بالإسكندرية، و”ميدان سوارس” بالقاهرة، الذى أصبح “مصطفى كامل”، فيما بعد. وانتشرت المدارس اليهودية فى مصر، وارتفع مستوى معيشتهم؛ بل وصل الأمر إلى أنهم قد حاولوا إفلاس بنك مصر عام 1940، وذلك بسحب ودائعهم منه، لولا تدخل الحكومة، برئاسة على ماهر باشاواشتهر فى المجال الموسيقى عازفون أمثال: إبراهيم صهالون (كمان)، وأمين بزرى (ناى)؛ وملحنون: “داوود حسنى، وزكى مراد، ومنير مراد”، والمغنية الشهيرة “ليلى مراد”، ومن الوافدين إلى مصر الموزع الموسيقى الفذ “أندريه رايدار”. واستمروا فى مصر، حتى قيام ثورة 1952، وتدريجيا خرج اليهود من مصر، على شكل هجرات. وقد يكون من المناسب أن نتعرض لتأثير الجانب الموسيقى فى تاريخ اليهود؛ بأن نشير للجهود المعنوية، التى توازت مع تلك الجهود المادية، بتناول الأدباء والمفكرين والموسيقيين، أيضا، لمشكلة اليهود، وعرضهم لأشكال الاضطهاد المختلفة، والذى مورس عليهم من طرد ونفى وأسر، وسوف نركز هنا على الجانب الموسيقى، ومن أشهرها: أوراتوريو “بنو إسرائيل فى مصر” (Israel In Egypt)، للموسيقار الإنجليزى الألمانى المولد هاندل (1685 - 1759)، وقدمها عام 1739، فى لندن وهى قائمة بالأساس على نص توراتى، حول اليهود واضطهادهم فى مصر. “أوبرا نابوكو Nabucco”، وهو اختصار لاسم الملك البابلى “نبوخذ نصر”، أو “نبوختنصر”، ملك بابل (605 – 561 ق.م.)؛ والتى ألفها الموسيقى الإيطالى جوسيبى فيردى (1813 – 1901)، وقدمت للمرة الأولى فى ميلانو عام 1842، وتعرض لقصة سبى اليهود على يد ملك بابل “نبوختنصر”. ثم “سيمفونية إسرائيل” (Israel Symphony) للموسيقار السويسرى “آرنست بلوخ” (1880 - 1959)، وقدمت فى أمريكا عام 1916، صور فيها معاناة الشعب اليهودى.