سارع الكثيرون إلى وصف المظاهرات الواسعة التى شهدتها البوسنة خلال الأيام الماضية بأنها إيذان ب «ربيع البلقان» وأن ثورة التغيير على وشك الانطلاق ليكتشفوا أنها مجرد نسمات ربيعية فى شتاء مظلم قارس وأن البوسنة ستظل «مشروع أوروبا الناقص» لفترة مقبلة. وقد بدأ ما كان يأمل أن تكون بشائر «ربيع البلقان» باحتشاد الآلاف من العمال الساخطين أمام المبنى الحكومى لمدينة توزلا،العاصمة الصناعية للبوسنة والهرسك ،للاحتجاج على كارثة خصخصة المصانع الأربعة الرئيسية فى المدينة والتى عمدت إلى اضعاف تلك المصانع واحيانا دفعها إلى الانهيار من اجل بيع أصولها وتحقيق ارباح سريعة ثم الانتهاء إلى اعلان افلاسها وضم مئات الآلاف إلى صفوف العاطلين عن العمل لتتفاقم مشكلة البطالة التى تبتلع 40 فى المائة من القوى العاملة. وسرعان ما انضم الطلاب والناشطون السياسيون إلى صفوف العمال للاحتجاج على العجز السياسى والانهيار الاقتصادى الذى يخنق البلاد ثم امتد الغضب والاحتجاجات إلى مدن أخرى مثل العاصمة سراييفو وموستار (جنوب) وزينيتشا (وسط) وبيهاتش (شمال غرب)، وتحولت على مدى ستة أيام متتالية إلى أكبر وأعنف اضطرابات تشهدها البلاد منذ انتهاء الحرب الأهلية فى 1995،حيث تم اشعال النيران فى المبانى الحكومية فى العاصمة سراييفو وعدد من المبانى الأخرى واسفرت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن التى استخدمت الرصاص المطاطى والقنابل المسيلة للدموع عن مصرع 150 شخصا وإصابة العشرات. فمنذ انتهاء الحرب، التى استمرت اربعة أعوام وحصدت الآلاف من الارواح وتركت البلاد مفتتة تعانى من الفوضى والتشرذم، والوضع السياسى فى البوسنة والهرسك يوصف بأنه «راكد ولكن مستقر».ومع استمراء السياسيين هذا الوضع المريح لهم واحجامهم عن اتخاذ أى خطوات ملموسة لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين أو حتى مكافحة الفساد الحكومى المستشرى وصل السخط الشعبى ازاء ارتفاع معدلات البطالة والفقر والظلم الاجتماعى والتجاهل الحكومى إلى مرحلة الغليان وافصح عن نفسه فى صورة الاضطرابات الأخيرة. وكالعادة جاء رد الفعل الرسمى محبطا و ناكرا للواقع حيث حاول بعض السياسيين الدفع بأن المظاهرات ماهى إلا مناورة سياسية من قبل احزاب المعارضة فى اطار حملاتها الانتخابية استعدادا للانتخابات العامة التى ستجرى فى اكتوبر المقبل.وقد فند المحللون والمراقبون هذه الادعاءات بقولهم إن المدن التى اندلعت بها المظاهرات تحكمها أحزاب مختلفة وبالتالى لا يوجد حزب واحد مهيمن قادر على حشد المواطنين.ويشير المحللون إلى أنه منذ انتخابات 2010 والبلاد غارقة فى التناحر السياسى بين الاحزاب المختلفة بل وبين الفصائل المنشقة عن الاحزاب وبالتالى هناك تحالفات وفض للتحالفات بشكل يومى.وقد أدى انغماس السياسيين فى هذه الصراعات إلى تعطيل قطار الاصلاح بالبلاد واجبر الاتحاد الاوروبى على وقف عملية انضمام البوسنة للاتحاد وتعليق تقديم 47 مليون يورو للبوسنة فى عام 2013 فيما يعرف ب «تمويل ما قبل الانضمام» لتبقى البوسنة مشروع اوروبا الناقص. وقد جاء رد الفعل الدولى ازاء الاضطرابات فى البوسنة باهتا مما يظهر بوضوح أن الدولة التى كانت بؤرة اهتمام العالم فى التسعينات من القرن الماضى وتتصدر الأحداث فيها عناوين الصحف لم تعد تحظى بأى اهتمام حتى الممثل الأعلى للمجتمع الدولى فى البوسنة والهرسك فالنتين انزكو عندما كشف عن احتمال الاستعانة بقوات تابعة لدول الاتحاد الأوروبى فى حال تفاقم الوضع فى البوسنة عاد ليؤكد على الفور «ليس الآن». ومما يزيد الأوضاع الاقتصادية سوءا هو انضمام كرواتيا،الشريك التجارى الأكبر للبوسنة، إلى الاتحاد الأوروبى فى يوليو الماضى مما سيفرض معايير أعلى على التحكم فى جودة الواردات البوسنية لا يتوقع أن تستطيع سراييفو الالتزام به. وفى ظل استمرار هذه الأوضاع السيئة يتساءل البعض لماذا لم يكتمل «ربيع البلقان»، اجابات مختلفة ساقها المحللون أبرزها أن الحرب الأهلية المدمرة قد تركت ندوبا لا تمحى فى نفوس مواطنى البوسنة مما جعلهم «غير مبالين وخائفين ومتشائمين». فالخوف من العودة إلى الصراعات الدموية والدمار والخراب يطغى ويكتم الغضب ازاء تردى الأوضاع المعيشية ويئد أى أمل فى التغيير. وفى الوقت نفسه يرى محللون آخرون أن السبب وراء عدم اكتمال الربيع هو الانقسام العرقى الذى كثيرا يحول دون توحيد الصفوف. فالبوسنة مقسمة إلى جزءين رئيسيين:نصف الدولة يسيطر عليه الصرب ويسعى حاكمها ميلوراد دوديك لاعلانها دولة مستقلة أما النصف الاخر ويطلق عليه "الاتحاد" فيضم عشرة كانتونات يسيطر على بعضها المسلمون البوسنة والبعض الآخر يسيطر عليه الكروات ولكل كانتون حكومته الخاصة.ويشير المحللون إلى أن المظاهرات كانت فى المناطق البوسنية ولم تمتد إلى المناطق الصربية أو الكرواتية رغم أن الأزمة الاقتصادية تعتصر الكل. وإلى أن تتخلص البوسنة تماما من ميراث الحرب والانقسام العرقى وعجز الدولة المركزية وتشاؤم المواطنين إزاء امكان التغيير سيظل ربيع البلقان بعيدا.