يحكي أن رجلا اقتني دبا ضخم الجثة شديد المراس ليقوم علي حراسته, ونام الرجل ذات يوم نوما عميقا رأي الدب خلاله ذبابة تقف علي وجهه فساءه أن تضايق الذبابة سيده, فالتقف حجرا عظيما وألقاه علي الذبابة التي نجحت في الفرار هاربة بينما تهشم رأس الرجل وقضي. كذلك يحكي التاريخ أن أحد أساطين الدولة الفاطمية شكا له الزراع تدني إنتاج محصول القطن بسبب موجة عارضة من البرد القارس فأصدر الرجل مرسوما يقضي بزراعة الصوف داخل حقول القطن في المستقبل حتي يوفر له الدفء اللازم لحمايته من موجات البرد ويزداد محصوله. وأردت بهاتين القصتين أن أوضح أن حسن النية والبراءة وربما السذاجة لا تصلح لاتخاذ القرارات المصيرية وأن الجهل وعدم المعرفة قد يدمر كل أسباب النجاح. ولكي أشرح علاقة هذه الأمور بأزمة مصر مع دول حوض النيل أقول ما يأتي: إن مصر نجحت لسنوات طويلة في إقامة علاقات ثنائية سوية مع كل دول الحوض عن طريق المساهمة الفعالة في تحريرها من نير الاستعمار أولا ثم عن طريق مساعدتها فنيا واقتصاديا بعد ذلك. وأن معظم دول حوض النيل ردت لمصر جميلها بتوقير رئاستها واحترام رغباتها وصون مصالحها( لاحظ هنا أن خمسين دولة إفريقية من مجموع اثنتين وخمسين قطعت علاقاتها بإسرائيل خلال حرب أكتوبر1973). وكانت مصر هي البادئة بالتكشير عن أنيابها حين أعلنت اثيوبيا رغبتها في بناء سدود علي النيل الأزرق, وجاء الرد المصري بالتلويح باستخدام القوة المسلحة وتدخل مؤججو الفتنة بسكب الزيت علي النار مخترعين تعبير حروب المياه متنبئين بأن ينسي الناس الاقتتال علي البترول وأن يتصارعوا مستقبلا علي المياه. بدأ مبارك علاقاته الإفريقية كما بدأ علاقته مع بني جلدته من المصريين بداية طيبة ونجح في الحصول علي اتفاق مشترك مع رئيس الوزراء الاثيوبي زيناوي( عام1993) هو قمة في التفاهم وحسن النوايا, ولكن يبدو أن هذا الأخير أدرك أنه تنازل بما هو أكثر مما يلزم, فما كان منه إلا أن بارك بخبث اعتداء مسلحا علي حياة مبارك في أحد شوارع العاصمة الاثيوبية أديس أبابا عام(1995) أدي إلي كفران الرئيس المصري الكامل بالعلاقات الإفريقية بشكل عام ودول حوض النيل أجمعها علي وجه الخصوص. ودخلت حسن النوايا علي علاقات مصر النيلية حين وافقت علي دعوة( خبيثة) من البنك الدولي للاشتراك مع كل دول الحوض باستثناء اريتريا فيما أطلق عليه مبادرة حوض النيل( عام1998) التي خلبت عقول الجميع بما طالها من سخاء مالي من مجموعة من الدول المانحة- الأكثر خبثا من البنك الدولي- ولم تستفد مصر من فعاليات هذه المبادرة خلال ما يزيد علي عشر سنوات سوي في الحصول علي بعض المزايا المالية لبعض الأفراد, ونالها مقابل ذلك استعار العدوان عليها من باقي دول الحوض تحت القيادة الاثيوبية التي يبدو أنها كانت تسعي جاهدة إلي اليوم الذي تقف فيه مصر بمفردها أمام كل الدول التي لم تعد تكن لها إلا الكراهية والحقد والحسد والضغينة ونكران الجميل. إزاء هذا الوضع المتردي لم يجد المفاوض المصري أمامه إلا حلا وحيدا هو أن يرفع الخلاف من مستوي الوزراء إلي مستوي الرؤساء وذلك باقتراح أن يتولي الرئيس الأوغندي موسيفيني الدعوة إلي عقد قمة لمناقشة الموضوع. وفي هذا التوقيت الحرج وبعد أن ظل الملف لمدة اثني عشر عاما كاملة في يد أحد السادة الوزراء- أعفي هذا الوزير من منصبه عام2009 دون سبب معروف وتسلم الملف وزير آخر ممن لم تكن له علاقة بالموضوع من قريب ولا من بعيد وبدلا من التعرف علي جميع التفاصيل من الوزير السابق لم يتم أي اتصال بين الوزيرين مما اضطر الوزير الجديد إلي معالجة الموضوع بالرؤية التي استقر ضميره ومعرفته عليها وإن جاءت هذه الرؤية مخالفة تماما لتوجهات الوزير السابق. بعد عامين من الصراع والمعاناة التي عاشها الوزير الجديد وعاشها معه وزراء المياه من دول حوض النيل أعلن الجميع فشل كافة أنواع المفاوضات في الوصول إلي تفاهم أو توافق مشترك وكان انقسام دول الحوض إلي جبهتين( عام2010) لم يتبق بعدها إلي جوار مصر سوي جمهورية السودان الديمقراطية وجمهورية الكونغو الديمقراطية وكلتا الدولتين مرشحتان للانضمام لباقي دول الحوض ضد مصر إن عاجلا أو آجلا. وبعد قيام ثورة25 يناير2011 بأسابيع بدأت اثيوبيا إنشاء سد النهضة علي أمل أن تنتهي من أكبر قدر ممكن من الإنشاء قبل أن يفيق المصريون من أحلام ثورتهم, وتوجت هذا التوجس والانتهازية برفض كل محاولات التفاهم مع الجانب المصري ونجحت في استمالة الجانب السوداني إلي جوارها. وفي الوقت الذي جاء فيه الخطاب الإعلامي الاثيوبي إلي الإقليم والعالم قويا ومؤثرا كان الخطاب الإعلامي المصري ضعيفا وباهتا, وفي الوقت الذي أعدت فيه اثيوبيا الكوادر القادرة علي فنون التفاوض تغيرت فرق التفاوض المصرية في كل جولة وجاء المبرر مذهلا للجميع حين قيل إن ذلك كان للرغبة في توزيع مكافآت وبدلات السفر بالتساوي بين أكبر عدد ممكن من المفاوضين. ركب العديد من غير المتخصصين موجة البث الاعلامي, وظهر علي صفحات الجرائد وحلقات البرامج والعروض التليفزيونية من يهذي بكلمات هو نفسه لا يفهمها بينما تراجع من يعرف الموضوع حق المعرفة حتي لا يتهم بالجهل من الجهلاء والمغرضين, هذا في الوقت الذي تقلد فيه المناصب العليا لإدارة الملف من لم يكونوا بالضرورة أهلا لها ومن ثم جاء ظهورهم الإعلامي محبطا حتي للعوام, ومن الضروري هنا أن نقرر للإنصاف أن الموضوع متشعب ومعقد ولا يستطيع أن يحيط به كل من هب ودب دون أن يكون له سابق معرفة وتاريخ دراية فما بالك بهؤلاء الذين قضي بعضهم شهورا قليلة في موقع المسئولية التي ضاع الجزء الأكبر منها في حل مشاكل العاملين والمنتفعين والمعتدين وضعاف النفوس. لا أستطيع أن أزعم أو أدعي أني علي يقين مما حدث داخل الغرف المغلقة, ولكني أري أن المسئولية علينا جميعا تدعو بل وتؤكد ضرورة إجراء تقويم كامل لما دار وما يدور في هذا الملف المهم خلال الأعوام الخمسة عشر الماضية, وأن يكون هذا التقويم مجردا محايدا شفافا, موضوعيا لا علاقة له بأشخاص بقدر ما يؤدي إلي حقائق تقود إلي نتائج يؤخذ منها الدروس والعبر التي تضئ الطريق إلي قرارات تفعل في المستقبل لصالح البلاد والعباد, وفي النهاية ألا تري معي أن للقصص التي بدأت بها هذا المقال معاني تفيد في الأسباب والعلل التي أدت بنا جميعا إلي الأزمة القائمة حيال مياه النيل؟ ثم ألا تري معي أن من دروس المحنة التي نحياها أن الملفات المصيرية يجب ألا يقوم عليها إلا كل من هو كيس فطن عليم ببواطن الأمور وظواهرها, قادر علي إدارة الأزمات والنوازل حريص علي أمن الوطن والمواطن في الحاضر والمستقبل, وطني النزعة قوي الهمة صلب البنيان رصين البيان... أليس كذلك؟ لمزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي