منذ نحو ثلاثين عاما، أرسلت إثيوبيا احتجاجا إلي مصر تعترض فيه علي حفر ترعة السلام، بزعم أنها ستقوم بنقل مياه النيل إلي إسرائيل، وقد نفت مصر وقتها ذلك الأمر نفيا قاطعا، ورأي البعض أن مجرد التفكير فيه يعتبر مساسا بالأمن القومي. ومنذ بضعة أسابيع حدث العكس، حيث اتهمت بعض وسائل الإعلام المصرية إثيوبيا بالتخطيط لنقل مياه النيل إلي إسرائيل، وقد اندهش وزير المياه الإثيوبي من هذا الادعاء، قائلا في لهجة يشوبها العتاب والاستنكار: إن النيل ليست له أجنحة ليطير بها ويغير مساره في اتجاه إسرائيل وهناك اتهام آخر وجهته بعض وسائل الإعلام المصرية إلي إثيوبيا وهي أنها تقيم السدود الضخمة لأعمال التنمية علي النيل الأزرق بما قد يعوق تدفق مياه النيل إلي مصر، وقد نفي رئيس الوزراء الإثيوبي هذا الإدعاء أيضا في مناسبات عديدة. ولكي تقطع الحكومة الإثيوبية الشك باليقين، قررت أن تؤكد نفيها لتلك الإدعاءات بشكل عملي علي أرض الواقع، فقامت منذ سنوات باستضافة وزير الري المصري ووزير الري السوداني وبعض الخبراء وقامت بعد ذلك باستضافة وفد إعلامي وبرلماني مصري كبير من مسئولي ومحرري الصحف القومية والحزبية والمستقلة ومن أعضاء مجلسي الشعب والشوري وحلق الجميع بالمروحيات فوق منابع النيل الإثيوبية. وتأكدوا من عدم وجود لتلك السدود الكبيرة المزعومة، واتفقت إثيوبيا مع مصر وقتها علي إنشاء عدد من السدود الصغيرة لغرض توليد الكهرباء والتي لاتؤثر علي صة مصر، من بينها سد تكيزي الذي أثير حوله الجدل في الفترة الأخيرة، ومن الطبيعي أن يتساءل البعض مادامت أن إثيوبيا قد تعاملت معنا بهذا القدر الكبير من الصراحة والوضوح، إذن فما هي حقيقة المشكلة معها والتي أطالت أمد المفاوضات التي تجري حاليا بين دول حوض النيل إلي مايقرب من ست سنوات؟ إن المشكلة مع إثيوبيا ظهرت فجأة بعد أن قررت مصر بناء السد العالي، ووقعت مع السودان اتفاقية عام 1959 التي توزع الحصص بينهما، دون إشراك إثيوبيا فكان الرد الإثيوبي علي ذلك فوريا بأن لجأت إلي مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي لعمل دراسة لإقامة عدد كبير من السدود علي النيل الأزرق لأغراض التنمية، وقد وافقت الحكومة الأمريكية علي المطلب الاثيوبي بشكل فوري أيضا ردا علي اتجاه مصر وقتها نحو الاتحاد السوفيتي وابتعادها عن الولاياتالمتحدةالأمريكية. ورغم مرور نحو خمسين عاما علي الدراسة الأمريكية يتم إنشاء سوي سد واحد فقط صغير من بين33 سدا أقترحت الدراسة إقامتها علي النيل الأزرق لتوليد الكهرباء ولري نحو مليون فدان هناك. إذن هي مفاجأة حقا أن نستنتج مما سبق أنه لاتوجد خطورة إثيوبية من الناحية العملية علي حصة مصر من مياه النيل وأن ماحدث في الماضي لايزيد علي كونه نوعا من العتاد السياسي أو الضغط السياسي مارسته إثيوبيا لحث مصر علي معاونتها في حل مشاكلها المائية المستعصية وفي إنقاذ الشعب الإثيوبي من الفيضانات المدمرة ومن نوبات الجفاف الطويلة والمجاعات، فالأمطار الغزيرة التي تسقط في فصل الصيف ومياه الأنهار الداخلية والخارجية ومخرات السيول والمياه الجوفية، كل تلك الموارد المائية الهائلة الشاردة والجامحة تحتاج إلي بنية تحتية ضخمة لترويضها وإدارتها وحسن استغلالها. وقد تكون زيارة السيد رئيس مجلس الوزراء المرتقبة إلي إثيوبيا في بداية الثلث الأخير من شهر أكتوبر الحالي ومعه عدد من السادة الوزراء والمستثمرين فرصة للتركيز علي مشروعات استغلال الموارد المائية المتاحة هناك بخلاف مياه النيل بالطبع لأغراض التنمية الزراعية وعدم ترك المجال لدول أخري للقيام بهذا العمل لأن مردود مثل تلك المشروعات الزراعية علي الشعب الإثيوبي يكون أكبر بكثير من مردود أي مشروعات استثمارية أخري ممكن أن تقام هناك لأنها تمس حياته وأمنه واستقراره وتمثل بالنسبة له الملجأ الملاذ وفي تقديري أننا إذا نجحنا في إقامة بعض المشروعات الزراعية هناك فإن ذلك سيخفف من تشدد الموقف الاثيوبي إزاء قضايا مياه النيل. وبمناسبة بدء مرحلة جديدة من العلاقات المتميزة مع إثيوبيا، قد يكون من المناسب إنشاء ادارة خاصة بأثيوبيا في وزارة الخارجية علي غرار الادارة الأخري الخاصة بكل من السودان وليبيا وإسرائيل، وغيرها من الدول ذات الأهمية بالنسبة لمصر، خصوصا وأن كميات مياه النيل التي تأتينا منها تبلغ نحو ستة أضعاف كميات المياه التي تأتينا من جميع دول حوض النيل الأخري. أرجو ألا يظن البعض أن السبب في حرص مصر علي وجود تعاون دائم وعلاقات طيبة مع إثيوبيا وغيرها من دول حوض النيل هو الخوف علي حصتنا الحالية من مياه النيل، والتي تقدر ب55.5 مليار م 3 سنويا، فلا أحد يستطيع المساس بتلك الحصة، فهي حق تاريخي مكتسب لنا محصن بأحكام القانون الدولي والأعراف الدولية ومحصن أيضا بموانع طبيعية جغرافية وهندسية، وإنما يعود حرص مصر علي استمرار علاقاتها الطيبة مع تلك الدول إلي احتياجها في المستقبل إلي حصص اضافية أخري عن طريق إنشاء مشروعات أعالي النيل بالتعاون معها وقد تم النص علي ذلك صراحة في الرؤية المستقبلية للموارد والاستخدامات المائية التي وضعتها مصر حتي عام 2050، وفي النهاية أتمني أن تستمر مصر في اتباع أسلوب الدبلوماسية الهادئة في تعاملها مع إثيوبيا وغيرها من دول حوض النيل والذي انتهجته طوال سنوات العقد الأخيروالبعد كلية عن أي تصعيدات إعلامية، وأتمني أيضا أن تتحري بعض وسائل الإعلام الدقة عند تناولها لموضوعات مياه النيل بصفة عامة ومايتعلق منها بملف العلاقات المصرية الإثيوبية بصفة خاصة للحفاظ عليها من أية شوائب. نقلاً عن جريدة الأهرام المصرية*