أبدعت ثورة يناير وشبابها, آليات خاصة بهم للاحتجاج الجماهيري منذ بدايتها حتي تحققت أهدافها, فحفرت ذكرياتها الخالدة في السياق الزمني الذي استغرقته أيام الثورة, والمكاني الذي احتوي حشودها المليونية بالتحرير, واستطاعت تلك الآليات ببساطتها مواجهة سلطوية دولة اندفعت لتسخير ما لديها من إعلام للنيل من هؤلاء الثوار فحسب, بل حاولت أيضا تضييق وخنق حيز الحركة الجديد الذي تتحرك فيه من خلال قطع وسائط الاتصالات والإنترنت لمنع التواصل بين أفرادها, ولكنها لم تفلح. بدا ذلك جليا في جهازها الإعلامي الذي نشأ باليوم الأول للثورة بالتحرير يوم25 يناير, وحمل شعاراتها البسيطة للمصريين فألهمت حماسهم الثوري, وكان يذيع بيانات الثورة المتتالية, واستقطب وسائط الإعلام الدولية التي حملت أخبار الثورة للعالم وما زاد من الضغوط علي النظام, وكشف حقيقة ما يحدث داخل ميدان التحرير دون زيف, بعد التعتيم الإعلامي الرسمي علي ما كان يحدث. والمميز بهذا السلوك الاحتجاجي, غلبة الطابع السلمي عليه بحيث كان العنف من اتجاه واحد الدولة تجاه المتظاهرين, والأهم هذا الرقي الكبير في التعبير عن مطالب وأهداف الثورة دون تجريح شخصي حتي تجاه مبارك وأنصاره. واستطاع الشباب بذكاء فطري أن ينهلوا من وعاء ومخزون لا ينضب من التراث والموروث الشعبي والإنساني الثوري من دون حدود, إلا الرقي والترفع عن التجريح, فكانت خبرة انسانية, وثورية تستحق التقدير من شباب توحد علي هدف واحد هو التغيير وإسقاط نظام سياسي, والمثير هنا أن تعددية المرجعية السياسية لشباب الثورة ولدت لديهم روح الإبداع والتنافس في إيجاد مضامين وشعارات الاحتجاج السياسي. فحاجة هؤلاء الشباب لتوصيل مضامين رسائلهم الثورية ومواقفهم من التطورات المتسارعة جعلهم يبدعون في تفجير الطاقات الكامنة فيهم, فرأينا إبداعا غير مسبوق في صياغة ورسم الشعارات والصور الكاريكاتير وتصميم اللافتات داخل الميدان, وكانت كلها أعمال تطوعية من شباب وهب نفسه لتلك اللحظة الثورية إيمانا بحتمية التغيير الذي سد منافذه نظام مبارك, وكانت السمات الغالبة عليها أنها إبداعات وحدت المصريين. وبدت عبقرية هذا الإبداع الشبابي بتعدد المصادر التي نهل منها هؤلاء شعاراتهم, فالموروث التاريخي بشقيه السياسي والشعبي التراثي لم يكن وحده المصدر الذي استلهم منه الشباب تلك الشعارات لإثارة حماس الجماهير للانضمام للثورة مثل ارحل مثل فاروق, شعبنا منك بقي مخنوق, وإنما تزامن معه أيضا النكات السياسية بما فيها من خفة دم المصريين للسخرية من حكامهم مثل.. ارحل قبل الصعايدة ما يجولك الليلة, بالإضافة لإعادة تركيب مقاطع الأغاني وعنوان أفلام ومسلسلات شهيرة, لكي تعبر عن كل لحظة ويوم من عمر الثورة, من أطلق الرصاص علي المصريين, ليالي التحرير, حرمت يا ريس, وضاعف منها تسخير لغة التقنيات الحديثة, مثل.. مبارك عفوا لقد نفد رصيدكم لدي الشعب, فيسبوك علي كل ظالم, وإعادة استخدام شعارات الوحدة الوطنية.. يا محمد يا بولس يالا نعمل مثل تونس. ومن ثم كان هناك انصهار عضوي من الجميع في بوتقة ونقاء اللحظة الثورية, فأتت آليات احتجاجها معبرة عن هذا التحدي والصمود الذي أبداه الجميع, تحديدا بعد موقعة الجمل. وقد عكس هذا التنوع والتعدد الكبير في إبراز آليات الاحتجاج السلمي, السمات الشخصية المصرية التي جري تجريفها فيما بعد بسبب الصراعات السياسية والحزبية, افتقد معها المصريون لحظة جامعة نادرا ما تتكرر.