الجميع يحتفل ب: الليلة الكبيرة احتفال شجي مسحور.. يأتي صوته من بعيد حاملا معه الفرح والأهازيج.. تنقشع الغيوم لتكشف من ورائها عن شبح لمجموعة رجال يرقصون, تدور أجسادهم يمينا ويسارا, علي إيقاع امرأة تغني, وعازف ناي, وطبال.. وكأن الأرض انشقت من حولهم, وفاضت ببحر من البشر. ليلة فرح عظيم وجمال آسر, تتلألأ فيها النجوم وتتراقص.. مولد, زينة ورايات, مهرجان ألوان.. أمواج من البشر تتراطم وسط ايقاعات الطبول والدفوف والألحان. نفحات عطرة في السيدة زينب, ليالي أنس كلها سحر.. من الحسين إلي السيدة نفيسة, لا ينقطع الوصل والذكر.. الخيام منصوبه تعج بشيوخ الطرق والمريدين في الريف والأحياء الشعبية, وفي المدن الكبري. حلقات ذكر أشبه بطوق نجاة في عالم الضلال والمعصية. قلوب تناجي ربها.. وعيون دامعة.. ودمع العين للنفس راحة. إنها ليلة استثنائية.. ليلة مولد سيد الخلق رسول الإنسانية محمد صلي الله عليه وسلم. تاريخيا, بدأ الاحتفال بالمولد النبوي مع دخول الفاطميين مصر في عهد الخليفة المعز لدين الله عام973 ه.. وكان الفاطميون هم أول من صنعوا العروس من الحلوي في المولد.. ومنذ ذلك الحين أصبحت الحلوي من المظاهر التي ينفرد بها المولد النبوي الشريف في مصر; حيث تنتشر في جميع محال الحلوي شوادر تعرض فيها ألوان عدة من الحلويات المميزة, علي رأسها: السمسمية, والحمصية, والجوزية, والبسيمة, والفولية, والملبن المحشو بالمكسرات.. إلي جانب, لعب الأطفال التي تؤكل بعد انتهاء يوم المولد مثل عروس المولد للبنات, والحصان أو الجمل للأولاد.. ما أجملها من لحظات في العمر تعيش في وجدان جميع الأطفال المصريين علي مر العصور! غير أنه مع انتشارالوعي الصحي لدي الناس, ظهرت عروس المولد في صورة جديدة. فقد تم صنعها من البلاستيك, وتزيينها بالأقمشة الشفافة الملونة, والمراوح الخلفية بأشكال وأحجام متعددة, وهي تتميز بأنها عملية حيث تكون أطول عمرا ولا تتعرض للكسر, ولا تؤكل فتعرض صحة الأطفال للأضرار. من ناحيته, يري الدكتور سميح شعلان عميد المعهد العالي للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون وأستاذ العادات والمعتقدات الشعبية, أن الفاطميين كانوا علي وعي تام بمفاتيح الشخصية المصرية وأدركوا أن هذا الشعب يجنح للفرح ويحب الاحتفال.. من هنا دعموا فكرة الاحتفالات ونصبوا لها الموائد الفاخرة. علما بأن فكرة الموالد- في حد ذاتها- ليست غريبة علي المجتمع المصري, وإنما هي امتداد تاريخي للاحتفالات الفرعونية القديمة وميراث ثقافي لما كان يفعله قدماء المصريين في احتفالاتهم بموالد الفراعنة والآلهة. فقد كانت مصر تتكون من ولايات, وكل ولاية لها إله مستقل تقدم له القرابين باعتباره إمتدادا وهمزة وصل مع الفرعون الأكبر آمون. وعن جمهور المولد وطبيعته, يسترسل قائلا: عادة ينتمي جمهور الموالد إلي فئات مختلفة, تجد بينها الصالح والطالح.. الزاهد, واللص, والراقصة.. بشر من كل الألوان عاشقون لثقافة الازدحام.. لكن الشريحة الأكبر منهم تأتي إلي المولد لتتزود بلحظات من السعادة والروحانيات, فتكسر بها حالة الرتابة والملل في حياتها, وتتغلب بها علي مآسي الدنيا ومشكلاتها. نجد مثلا الفلاح البسيط الذي يقضي العام كله ما بين الزراعة والري والحصاد, لا يفوته مولد إلا ويأخذ أسرته معه. ينصبون خيمة هناك, وعلي مدار أيام المولد تكون الفرصة عظيمة أمام الأسرة كلها كي تستمتع بالفنون والموسيقي والحلوي التي تقدم, أو يقومون بزيارة اضرحة أولياء الله الصالحين للدعاء وقراءة الفاتحة ونيل البركة منها. بينما تتنافس علي الموالد فئة ثانية, وهي الطرق الصوفية, حيث تقوم بمنح الهبات والعطايا للناس وتنتهز الفرصة لترويج أفكار شيخ كل طريقة علي حد. ويوجد فئة ثالثة من الناس تؤمن تمام اليقين بالأولياء الصالحين وكراتهم, شأن تسمية السيدة زينب ب أم العواجز اعتقادا من الكثيرين في أنها تساعد كل عاجز علي الشفاء, كذلك يعتقد البعض أن السيدة نفيسة تساعد في شفاء أمراض العيون, وهناك أولياء صالحون تتجلي كرامتهم لدي من يبحثون عن الزواج أو الإنجاب.. وعلي آثر هذا الاعتقاد, تذهب بعض السيدات لتنظيف وتجهيز هذه الأماكن قبل أيام من موعد المولد. أما الفئة الرابعة فإنها تستثمر موسم الموالد في التجارة وتحقيق مكاسب مادية من خلال الخدمات والبضائع التي تقدمها للجمهور... لا يخفي علي أحد أن الطعام عنصر مهم من عناصر المولد.. وفي كثير من الأحيان يوزع علي الفقراء كنوع من التيمن. وهو يختلف من مولد إلي آخر, حسب جغرافية المكان وطبيعة المولد.. ففي دسوق مثلا, نظرا إلي قربها من ميناء رشيد, تجدها ممتلئة بالأسماك علي أنواعها. لذلك تشتهر موالدها بالحمص والفسيخ. ومن هناك خرجت المأثورة الشعبية رجع من المولد بلا حمص, أي خالي الوفاض. بينما يشتهر مولد النبي محمد بحلويات خاصة يقبل المسلمون علي شرائها, في مقدمتها: عروس المولد ذات الثياب المصنوعة من الورق الملون الزاهي, وأبو زيد الهلالي حاملا سيفه فوق صهوة جواده.. حتي وإن كان لكل مولد تفاصيله الخاصة ومعتقداته.. لكن في النهاية, سوف يأكل الجميع ويشبع من الطعام المبارك. تناول الكثير من الأدباء والشعراء سيرة حياة سيد الخلق محمد من خلال أعمالهم الأدبية, شعرا ونثرا.. بداية من الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو, والشاعر والأديب الألماني يوهان فولفجانج جوته, والكاتب المسرحي البريطاني جورج برنارد شو, والمفكر الفرنسي فولتير.. وصولا إلي كتابات مصطفي صادق الرافعي وطه حسين, ويظل أشهر الأعمال العربية عبقرية محمد للأديب عباس العقاد, وقصيدة ولد الهدي للشاعر أحمد شوقي.. غير أن هذه اللغة لا يدركها جمهور المولد, وإنما يفضلون الأدب الشعبي. يتردد البسطاء علي المولد دون أن يفكروا كثيرا في الأسباب التي تدعوهم لذلك. هنا يرتقي الإنسان عن الدنيا, باحثا عن السمو الديني والرفعة. الوقت يمضي في مناجاة الخالق والمصطفي.. أوقات تطيب فيها النفس وتشفي.. الكل يردد أناشيد الشيخ ياسين التهامي, وكلمات سيدي عمر بن الفارض.. ما أجمل الصحبة علي ضوء القمر مع سهرات الموسيقي الصوفية وصوت المنشد نور الدين خورشيد وهو يغني: يا بو المقام عالي.. طه النبي الغالي.. حبيبي يا نبي.. ضمني يا نبي.. ما تصلوا بينا ع النبي. وفقا للدكتور سميح شعلان, فإن العامة والبسطاء قد لا يدركون معاني المفردات كاملة لهذه النوعية من الأناشيد, لكنها تمثل لهم حالة من القدسية.. يستجدي فيها العبد ربه, طالبا منه العون والمدد. كما أن المصري العاشق للرسول وآل البيت, تراه الأكثر إقبالا- من بين كل الجنسيات في العالم- علي إجراء العمرة وزيارة بيت الله الحرام في نفس توقيت المولد النبوي.. يقينا, سيدنا محمد له مكانة خاصة عند كل المصريين, والكل من مريديه.. لذا, يشمل الاحتفال بمولده كل المحافظات, وترعي الدولة تقريبا جميع أنشطة وفاعليات هذا اليوم. مستنكرا التقاعس الواضح من قبل المبدعين لتجسيد المولد في أعمالهم الدرامية والسينمائية, والموسيقية, والفنون التشكيلية, يقول د.شعلان: لدينا كنز عظيم من التراث الثقافي يستحق أن نحافظ عليه, لأنه يمثل هويتنا وتاريخنا. هناك مسئولية تقع علي المبدعين بأن يجددوا, ويعيدوا صياغة التراث, بهدف تعريف الأجيال الجديدة به, كي نجعلهم يتذوقونه ويتأملونه ويعتزون بهويتهم. لا شك أن الشاعر صلاح جاهين كان أفضل من قدم صورة المولد في رائعته الليلة الكبيرة.. فقد كان شاعرنا موفقا جدا عند اختياره للغة العامية التي استخدمها في الأوبريت, والتي هي نتاج تأمله العميق للتراث الشعبي الأصيل, وفهمه للناس والواقع. يقينا نجح جاهين في تسليط الضوء علي جمهور المولد: الأراجوز- بائع البخت- القهوجي- المعلم- العمدة- الراقصة- مدرب الأسود- الأطفال- المصوراتي- معلن السيرك- المنشد الفلاح.. وبائع الحمص الذي ينادي: حمص حمص قبل ما ينقص ع النار يرقص, وبائع السمك وهو يشدو: السمك مقلي كل وبرقلي, وده صنف زي الفل.. ويستطرد جاهين في وصف الجمهور قائلا: دول فلاحين, ودول صعايدة.. ودول م القنال, ودول رشايدة, ويستوحي من التراث يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات, في مقامه الطاهر خشي وقيدي سبع شمعات... لكل شخصية جمالها المستقل ومفرداتها الخاصة.. غير أن في زحام المولد قد يتوه البشر كما حدث مع السيدة التي كانت تسأل المارة عن ابنتها المفقودة يا ولاد الحلال بنت تايهة طول كده.. رجلها الشمال فيها خلخال زي ده.. تراث مصر الأصيل ينبض بالحياة في هذا الأوبريت علي ايقاع المزمار, ودقات الطبل البلدي, وأنغام الربابة... ألحان عذبة يصاحبها رقص العرائس الخشبية.. عالم من الإبداع ينقل بصدق روح المولد بكل تفاصيله الثرية.