يقصد بالمعني في هذا العنوان كافة الأبعاد والمضامين الفكرية أوالاجتماعية أوالثقافية أوغيرها, وهي بالطبع لاتعرض بشكل مباشر, وإنما تعرض متضمنة ومستترة في ثنايا النص الأدبي. وكل هذه أمور كان يهتم بتحليلها وتقييمها الناقد الأدبي, جنبا إلي جنب, مع إبراز الجوانب الفنية للنص. وعودة المعني تعني أنه كان غائبا ثم عاد. فكيف غاب المعني؟ وكيف عاد؟( في اللغة الإنجليزية بصفة خاصة, إذ إن هذا المقال يطمح إلي أن يكون أكثرتحديدا لكي يكون أكثر وضوحا, بما أنه موجه للقارئ العام). أما غياب المعني فيرجع سببه إلي ظهور منهج- كان جديدا في عشرينيات القرن الماضي- لدراسة النصوص الأدبية في إنجلترا, فقضي ظهوره علي المنهج النقدي الذي كان سائدا وقتئذ. وهو نقد كان يقوم علي استجابات النخبة المثقفة من الأدباء والنقاد للنصوص الأدبية. وكان يمثل هذه النخبة مجموعة' بلومزبري', وهم ثلة من الأصدقاء كانوا يجتمعون في ميدان جوردن في حي بلومزبري بلندن, ومن بينهم فرجينيا ولف, وإي إم فورستر, وجي إل ستراتشي, وغيرهم. وكان المنهج الجديد الذي ظهرهومنهج' النقد التطبيقي', الذي أسسه في إنجلترا في عشرينيات القرن الماضي, أيفور ريتشاردز, الأستاذ بجامعة كمبردج في كتابه:' النقد التطبيقي/ دراسة في تقييم الأدب(1929). وكان من بين تلاميذه إف. ر. ليفيز, الذي أصبح واحدا من أهم النقاد البريطانيين, كما أصبح ممثل هذا النقد الرئيسي, بعد هجرة أستاذه إلي أمريكا. ومنهج' النقد التطبيقي' هذا يقصي المضامين ولا يهتم بالمؤلف ولا بخلفيته الثقافية والاجتماعية, ولا بالقراء, ولا بقصد المؤلف, ويركز أساسا علي بلاغة النص وتقنياته الأسلوبية( الصور الشعرية والكنايات وألوان المجاز والمحسنات البديعية إلخ..). ومن هذه الزاوية الأخيرة وحدها فالمنهج أقرب ما يكون إلي منهج نقاد العرب القدامي في دراستهم للشعر العربي القديم, مع اختلاف العصر والأعراف الثقافية بالطبع. ثم ظهر'النقد الجديد' في أمريكا,( التي هاجر إليها ريتشاردز, في عام1930, أي بعد نشر كتابه بعام واحد). وازدهر هذا النقد' الجديد'هناك في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي, وهو لايختلف كثيرا عن النقد التطيبقي. ثم ظهرت' البنيوية' في ستينيات القرن الماضي, وأمعنت في إقصاء المعني أيضا, لتتلوها مناهج وحركات أخري مختلفة, يهمنا منها المنهج الذي أعاد المعني للنصوص الأدبية, ولم يهمل المؤلفين ولا القراء, وإنما أهمل مقصد المؤلف فقط, وهو' نقد استجابة القارئ'. ومن الغريب أن هذا النقد تقريبا هو ما ثار ضد ممثليه,( مجموعة بلومزبري) الناقد الإنجليزي الكبير ليفيز, المسئول عن نشر منهج' النقد التطبيقي' في بريطانيا وفي دول العالم الناطقة باللغة الإنجليزية. وقد ذكرني ما سبق بمدي صواب رأي قرأته للناقد الإنجليزي الكبير سي. إس لويس( أستاذ الأدب الوسيط وأدب عصرالنهضة بجامعتي أكسفورد وكمبردج), في كتاب له صدرعام1961, قبل وفاته بعامين, أي في الوقت الذي كان فيه' النقد الجديد' سائدا في أمريكا, وكان' النقد التطبيقي', سائدا في بريطانيا, وفي المجتمعات الناطقة بالإنجليزية في العالم بأسره, وقبل ظهور' البنيوية' في الغرب بسنوات; يقول لويس في هذا الكتاب- منتقدا بشكل ضمني- عنف ليفيز في نقده لمجموعة' بلومزبري', الذين قام نقدهم علي استجاباتهم المباشرة لقراءة النصوص ما معناه:' إن اتجاهات نقد الأدب أشبه ما تكون باتجاهات' الموضة' بالنسبة لأزياء النساء; مرة' طويلة جدا' ومرة قصيرة جدا ومرة شبه عارية الصدر... الخ, ثم عودة إلي' الموضة الطويلة جدا' مرة أخري'. وقد أدهشني مدي صدق رأي هذا الأديب الكبير وبعد نظره, حين وجدت أن' نقد استجابة القارئ',( وهو سائد الآن. وقد تسبب ظهوره في تلاشي كل من' النقد التطبيقي' و'النقد الجديد') هو تقريبا نفس النقد الذي كانت تمارسه في العشرينيات,' مجموعة بلومزبري'. وهي المجموعة التي هاجمها ليفيز بعنف, واتهم أعضاءها بأنهم مجموعة من الهواة والنخبويين يفتقر نقدهم إلي الجدية والصرامة في قراءة النصوص. كانت الطريقة التي اهتدي بها ريتشاردز إلي منهج' النقد التطبيقي', هي أنه أجري في عام1923 تجربة مشهورة علي طلاب الأدب الإنجليزي في جامعة كمبردج.. تتلخص التجربة في أنه أعطي الطلاب مجموعة من النصوص, دون أن يكشف لهم عمن كتبها ولا عن ثقافته ولا في أي عصر كتبها, ثم طلب منهم أن يحللوها ويقيموها, فكانت النتيجة مخيبة للآمال; إذ إن بعض الأدباء المتواضعي المستوي حظيت أعمالهم من جانب الطلاب بتقديرات عالية, علي حين هبط أدباء مرموقون- علي مر العصور- إلي الحضيض. وتبين ريتشاردز أن ما يحتاجه الطلاب هو التدريب علي كيفية فهم وتحليل وتقييم النصوص الأدبية, فأخذ يطبق ذلك في دروسه للطلاب حتي عام1929, حين نشر نتائج تجاربه في العمل الذي أصبح الكتاب' العمدة' آنذاك في حقل الدراسات الأدبية وهو كتاب:' النقد التطبيقي/ دراسة في تقييم الأدب'. وكما رأينا فقد توالت المناهج والنظريات الأدبية في اللغة الإنجليزية; فظهر' النقد الجديد' في أمريكا, ثم ظهرت' البنيوية' وما بعدها من حركات واتجاهات نقدية وفلسفية, كالتفكيك وغيره, ومع ذلك ظل' النقد التطبيقي' منتشرا في كل دول العالم الناطقة بالإنجليزية, ما عدا أمريكا, وظل' النقد الجديد', الذي اختلف قليلا عن' النقد التطبيقي' سائدا ومسيطرا علي دراسة الأدب في أمريكا. واستمر المنهجان منتشرين علي الرغم من وجود' البنيوية' وكل الحركات والمذاهب التي جاءت بعدها, حتي ظهر' نقد استجابة القارئ', فتلاشي المنهجان كلاهما بسببه. وأما كيف بدأ الاهتمام بالمعني ومتي, فيرجع ذلك إلي ضيق النقاد والمنظرين الأدبيين- وبينهم بعض كبار البنيويين- بمبادئ المنهج البنيوي' التقليدي', الذي ظل يتمسك بمبدأ أن النص الأدبي ليس سوي بنية منغلقة علي نفسها وليس له صلة بأي شيء خارجها. وكان من أوائل الذين خرجوا علي هذه الفكرة رولان بارت الذي يقرر ما فحواه:' أن البنيوية تركزعلي البحث في الشروط الشكلية للمعني وليس علي المعني نفسه'. أما البنيوي الكبير الآخر, تزفيتان تودوروف فقد ألقي بهذه القاعدة البنيوية' التقليدية' وراء ظهره, وأخذت أعماله' المتطورة' في الظهور منذ فجر الثمانينيات, حين بدأ ينشر كتبه التي تعالج القضايا الأخلاقية, والأدبية(moral); مثل كتاب غزو أمريكا, الذي يوضح الظلم الذي أحاق بسكان البلاد الأصليين بسببه(1982), ثم ظهر كتاباه اللذان يعالج أحدهما قضية العنصرية... في الفكر الفرنسي(1989), ويتناول الثاني أخلاقيات المحرقة النازية أو الهولوكوست(1999). وكما يلاحظ القارئ, فإن عناوين هذه الكتب توضح أن التركيز فيها منصب علي المعاني وليس علي البحث في' الشروط الشكلية' للمعاني. وتزامن مع هذا الاتجاه نحو الاهتمام بالمعاني اكتشاف مهم آخر توصل إليه عالم اللغة السوري الأصل إيميل بنفنيست, الذي ولد في حلب عام1902, لأسرة يهودية شرقية أرسلته ليستكمل دراسته الدينية في فرنسا فانتهي به المطاف ليصبح واحدا من أعظم علماء اللغة في العالم ومن أكثرهم أصالة. فهو الذي اكتشف علم لغة' التخاطب المباشر', أو' لسانيات التلفظ' بلغة أشقائنا المغاربة. وقد أفاد من لسانيات' التخاطب المباشر' أو' التلفظ' هذه بعض دارسي الأدب القصصي, الذين أطلقواعلي بحوثهم:' سرديات تلفظية'.( لعل الناقد التونسي محمد نجيب العمامي هو خير من عرض هذا الاتجاه في العربية, في كتابه المتميز:' الذاتية في الخطاب السردي', ولعله أيضا أول من طبقه بالعربية تطبيقا سليما علي بعض أعمال نجيب محفوظ وبعض حكايات ألف ليلة وليلة وغيرها). وقد نخصص مستقبلا مقالا مستقلا لعرض هذا المنهج, وما يترتب علي انتشاره وتطبيقه من إيجابيات كثيرة. لمزيد من مقالات د.حمدي السكوت