في 26 سبتمبر من عام 1948, احتفل ت. س. اليوت بميلاده الستين (18881965), واحتفل معه مفكرون من أمريكا, حيث وطنه الأصلي, ومن إنجلترا, حيث وطنه بالانتساب. وقيل وقتها إنه أعظم شاعر في الدول الناطقة باللغة الإنجليزية, وفي نوفمبر من ذلك العام نفسه, فاز اليوت بجائزة نوبل, وعندما سئل عن سبب فوزه أجاب بأنه مردود إلي أشعاره كلها التي نشرها ابتداء من قصيدة الأرض الخراب (1922) التي تتميز برؤية تشاؤمية تستند إلي أن الحياة الحديثة تعاني التفاهة والبلادة والخواء. ومن هنا جاءت شخصياته المتخيلة متشائمة وضالة لأنها منبثقة عن ثقافة في طريقها إلي الموت, وقد عبر عن هذه الثقافة في كتابه المعنون: ملاحظات حول تعريف الثقافة, الذي أصدره قبل ذهابه إلي استوكهلم لمقابلة ملك السويد من أجل تسلم جائزة نوبل, ومع أن هذا الكتاب ليس أفضل أعماله, فإنه يعتبر أهم كتاب صدر إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية للدفاع عن ثقافة رفيعة المقام, ولكنها مهددة بالفناء. والسؤال إذن: ماذا قال اليوت في ذلك الكتاب؟ إن الثقافة هي أسلوب حياة, ووظيفة هذا الأسلوب تحقيق تماسك الفرد وبعده تماسك الطبقة, وأخيرا تماسك المجتمع.. وهكذا تكون لدينا ثلاث ثقافات, وكل ثقافة تعتمد علي الأخري, ولكن مع تعدد الثقافات, فثمة ثقافة واحدة هي الثقافة الأوروبية, وهي التي تأذن للفرد بأن يندفع نحو البحث عما هو جديد, ولكن بشرط عدم تجاهل التراث, والفرد في ذلك الاندفاع محكوم بسلطة النخبة, وهذه النخبة هي أفضل مضاد حيوي يقي من الانحلال لأنها نخبة ناقدة. وهنا تكمن عظمة اليوت لأنها أفرزت مدرسة نقدية, وكان في مقدمة هذه المدرسة الناقد الأدبي ليفيز (18951978) بجامعة كمبردج, واللافت للانتباه ها هنا أنه كان محاطا بعلماء في الرياضيات والبيولوجيا, ومع ذلك فقد كان مهموما بمعرفة رأي الجمهور في الشعر, ولا أدل علي هذا الهم من إصداره كتابا في عام 1930 عنوانه حضارة الجماهير وثقافة الأقلية, عن دار نشر الأقلية, وكان أول كتاب تصدره هذه الدار هو هذا الكتاب, وفيه يقول ليفيز: لن يكون الفن والأدب والفلسفة والعلم موضع تقدير إلا من الأقلية, ومن هذه الأقلية يتولد وعي الجماهير, ومن ثم ينهار الحاجز بين الأقلية والجماهير. وفي عام 1948, أصدر ليفيز كتابه المعنون التراث العظيم, وفي عام 1952 أصدر كتابا آخر عنوانه العمل المشترك.. والجدير بالتنويه ها هنا هو وجود لفظي التراب والمشترك, الأمر الذي يشير إلي قناعة ليفيز بأن ثمة طبيعة مشتركة مردودة إلي التراث, وما علينا بعد ذلك إلا اكتشافها, فإن هذه القناعة كانت موضع شك من ناقد أدبي اسمه ليونل تريلنج (19051975). كان أول أستاذ يهودي يعين في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة كولومبيا في عام 1948, وكان يري أن الطبيعة المشتركة لا تستقيم إلا مع مجتمع الجماهير, وهذا المجتمع خطر علي النخبة لأنه يستلزم الإجماع, والأقلية المثقفة ضد الإجماع, لأن الثقافة تستلزم التنوع لكي يكون حافزا علي التطور. ومن هنا كان تريلنج ضد الانصياع لمذهب واحد, لأن من شأن هذا الانصياع إقصاء المذاهب الأخري, وبالتالي الوقوع في براثن ملاك الحقيقة المطلة, ومع ذلك فإن تريلنج لم ينفرد بهذا النقد الموجه لكل من اليوت وليفيز, إذ انضم إليه عالم فيزيائي اسمه سير تشارلس سنو (19051980) الذي منح فيما بعد لقب لورد والذي اشتهر بمحاضرة ألقاها في جامعة كمبردج بعد ظهر 7 مايو 1959 وكان عنوانها الثقافتان والثورة العلمية, فكرتها المحورية أن ثمة هوة تفصل بين الأدباء والعلماء أو بالأدق بين العلوم والانسانيات.وتترتب علي هذه الهوة نتيجتان: النتيجة الأولي امتناع حل المشكلات العالمية, والنتيجة الثانية أن كثرة من العلماء لا تعرف شيئا عن روايات الأدباء, وأن كثرة من الأدباء لا تعرف شيئا عن نظريات العلماء. وفي مواجهة هذه الهوة, عقدت مؤتمرا فلسفيا دوليا في القاهرة تحت عنوان وحدة المعرفة, دعوت إليه نخبة من الفلاسفة والعلماء الدوليين, وكان عنوان بحثي العلم الثلاثي, وهو مكون من الفيزياء الموحدة للعلوم الطبيعية والسياسة الموحدة للعلوم الاجتماعية والفلسفة الموحدة بين الاثنين, والمفارقة هنا أنني عقدت هذا المؤتمر في ديسمبر من عام 1980 وكنت مفصولا من الجامعة بقرار من الرئيس السادات في سبتمبر من ذلك العام. والسؤال إذن: لماذا حدث ما حدث؟ الجواب في المقالات المقبلة. المزيد من مقالات مراد وهبة