خرج الإسلاميون الذين استطاعوا أن يصبحوا في عقود قليلة أكثر التيارات تأثيرا ونموا في العالم الإسلامي من رحم الربيع العربي, وأدت ثورة25 يناير لدخول أبناء الحركات الإسلامية للساحة السياسية, وتبدلت مواقع الإسلاميين من صفوف المعارضة إلي مقاعد الحكم والسلطة, ومن الاشتغال بالدعوة إلي الانخراط في السياسة, وبعد عام واحد من تربعهم علي قمة السلطة عاد الإسلاميون مرة أخري إلي صفوف المعارضة وقوائم المنع والحظر. وكانت النتيجة أن تعرضت الدعوة لكثير من الضربات المتلاحقة نتيجة للممارسات الخاطئة والفتاوي المتشددة لبعض المنتسبين للتيار الإسلامي, والتي أصبحت سببا في الهجوم علي الدعوة والدعاة. وفي ظل تباين الآراء حول الانتقال من الدعوة إلي الله داخل المساجد إلي المنافسة في حلبة السياسة وما أحدثه من انشقاقات واختلافات عديدة داخل كيان الدعوة, نستطلع آراء علماء الدين حول مستقبل الدعوة الإسلامية بعد حظر بعض جماعات الإسلام السياسي, ونتساءل هل الإخفاق في تحقيق نجاحات سياسية يأتي خصما من رصيد الدعوة الإسلامية؟. وماذا عن مستقبل الإسلام السياسي والدعوة بعد حظر جماعة الإخوان واعتبارها جماعة إرهابية؟ وهل جاء القرار في مصلحة الدعوة الإسلامية ومحاولة جادة لتنقيتها من الفكر المتشدد وعودة منهج الأزهر الوسطي المستنير, وهل فشل مشروع الحكم الإسلامي أم أن الإسلام أكبر من أي جماعة أو فصيل أو تيار؟ يقول الدكتور عبدالفتاح إدريس, أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة بجامعة الأزهر: إن البعض زعم أن باستطاعته إقامة مشروع إسلامي ينبثق عن مشروع نهضته, ثم خبت نهضته فخبت من ثم فكرة مشروعه الإسلامي, ولعل من مظاهر هذا المشروع الذي نبتت فكرته في ذهن صاحبه, ما أينع تقسيما للمجتمع وتحزيبا له, حتي وجدنا المجتمع طوائف شتي, كل طائفة في ظل هذا المشروع تبغض سائر الطوائف, وتتمني إزاحتها والتخلص منها, ووجد صاحب المشروع وهو يهتبل الفرصة تلو الأخري ليزيد هذا التحزب, ويزيد من عمق الهوة بين قطاعات المجتمع, لتمتد جذور تآلف عشيرته إلي خارج حدود البلد الذي يقيم فيه, وتقطع عمن يجاورها من فئات هذا المجتمع, وقد تولد عن هذا ذلك البغض الذي استشري في نفوس عشيرته لمن لم يؤمنوا بفكرهم, فكان استحلال الدماء والأموال وإهلاك الحرث والنسل والفساد والإفساد الذي لم يعد خافيا علي أحد, والتهديد بإحداث المزيد. وأضاف: إذا عقدنا مقارنة ظالمة بين منهجهم وبين منهج مؤسس أول مشروع إسلامي في العالم, الذي أمرنا الله تعالي بالتأسي به في قوله سبحانه:( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا), نجد أن صاحب هذا المشروع الإسلامي لم يكن عنصريا, فلم تنقل كتب السير والسنن والآثار أنه أدني المهاجرين الذين منهم أهله وأقاربه وأصهاره من نفسه, وعاملهم معاملة متميزة عن غيرهم من الأنصار, بل إنه حرص مذ وطئت قدماه المدينة أن يبذر بذور الحب والمودة والألفة بين المهاجرين والأنصار, فآخي بينهم, فكان هذا أول سبب من أسباب نجاح مشروعه الإسلامي, حتي نقلت كتب السير والسنن مظاهر هذا التآخي ووقعه علي نفوس أهل المدينة جميعا, وذكر الله تعالي ذلك في كتابه الكريم, فقال سبحانه:(.. هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين. وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم), وهذا التآلف والحب الذي ساد بسبب هذا الإخاء, هو الذي حدا بالمهاجرين والأنصار أن يبايعوا رسول الله صلي الله عليه وسلم تحت الشجرة بالحديبية علي القتال حتي الموت, لما تأخر عود عثمان من لدن قريش, حين أرسله الرسول صلي الله عليه وسلم لإعلامهم بسبب المجيء من المدينة, وكان هذا التآلف الذي بذر رسول الله صلي الله عليه وسلم بذوره, هو السبب في استماتة المهاجرين والأنصار في الدفاع عن المدينة وأهلها في الغزوات المتعاقبة, بدر الأولي والثانية, وأحد, والخندق, وبني قينقاع, وبني المصطلق, بعد أن صارت المدينة موطنا للمهاجرين والأنصار, وتتباين المواقف بين المشروعين, حين نعقد مقارنة ظالمة بين من زعم أن بوسعه إقامة مشروع إسلامي, وبين من أسس أول مشروع إسلامي في العالم صلي الله عليه وسلم, فإن صاحب الزعم لم تمثل له الدولة التي يريد إقامة مشروعه بها قيمة ولا هما, بل مجرد مطار يحلق منه إلي الأفق البعيد, حيث يقيم دولة عالمية لا تعلم حدودها, بعكس صاحب المشروع الحقيقي فإنه ولد ونشأ وكلف بالرسالة بمكة المكرمة, وحين هاجر منها بأمر ربه, خرج حزينا لمفارقته لها, لينطلق لسانه بهذه الكلمات التي تفيض حبا لها: أما والله لأخرج منك, وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي, وأكرمه علي الله, ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت, ولما وصل إلي المدينة أحبها وأحب أهلها, ودعا للمدينة فقال صلي الله عليه وسلم: اللهم بارك لنا في مدينتنا, اللهم بارك لنا في صاعنا, اللهم بارك لنا في مدنا.. اللهم اجعل مع البركة بركتين, هذا الدعاء لا يصدر إلا عن نفس محبة لموطنها, حريصة علي تقدمه ورفعة أهله وأمنهم, أين هذا من صاحب المشروع المزعوم, بعد أن جعل الدولة التي كان يزمع إقامة مشروعه بها شيعا وأحزابا, يبغض كل منهم غيره أشد البغض, ويبغض الجميع الدولة التي تؤويهم, فأني يقام هذا المشروع, بعد أن صار المجتمع أنقاضا ونفوس أهله أطلالا. مسميات مغلوطة من جانبه أكد الدكتور أحمد محمود كريمة, أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر, أنه لا يوجد ما يسمي( الإسلام السياسي), لأن الإسلام دين سماوي, ينظم العلاقات في إطار القرآن الكريم والسنة النبوية, وما جاء الإسلام ليؤسس عروشا أو مناصب سياسية, قال صلي الله عليه وسلم,( أنتم أدري بشئون دنياكم), وبالتالي ستستمر مسيرة الدعوة الإسلامية بالمنهج الأزهري المستنير الوسطي دون تأثير, فالأمر كان عندهم حكما وسلطة فقط, ولم يكن له أي تأثير في الدعوة الإسلامية, وجاء القرار من أجل المحافظة علي أمن الناس, والأمن العام للمجتمع وسمعة الدين ومكانته, وعدم الاتجار به سياسيا. وفي سياق متصل يؤكد الدكتور رمضان عبدالعزيز عطا الله, الأستاذ بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر, أن قرار حظر بعض الجماعات والجمعيات التي ترفع شعار الإسلام, لا يؤثر علي الدعوة الإسلامية مطلقا لأن الدعوة الإسلامية يقوم بأعبائها رجال من علماء الأزهر والأوقاف وهم المتخصصون والمسئولون عن هذه الدعوة, ولا ينتمون إلا إلي الفكر الإسلامي الوسطي المستنير وقد تربوا علي هذا في الأزهر الشريف, بعيدا عن الحزبية السياسية, لأنه من تعاليم الإسلام أن المسلمين أمة واحدة, قال تعالي:( وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون), والإسلام كما هو معلوم للناس أجمعين أنه دين للناس في كل زمان ومكان, وهو لا يقيد باسم حزب أو فصيل أو تيار سياسي, ولا يستطيع أحد من البشر أن يحصر الإسلام في فكر معين أو حزب أو تيار سياسي, لأن تعاليم الإسلام صريحة وواضحة دون حصرها أو تحزيبها, وأضاف: إن قرار الحظر وتسمية جماعة الإخوان المسلمين بأنها جماعة إرهابية أعطي صورة عند الناس أن هؤلاء هم أصحاب الفكر المتطرف, وليس هم أصحاب الفكر الوسطي المستنير, فأصحاب الفكر المتطرف والمتشددون موجودون في كل زمان وهم الذين يحرضون الناس علي الفتنة وعلي قتل الأبرياء ظلما وعدوانا وذلك باسم المتاجرة بالدين, أما علماء الأزهر والأوقاف فهم أصحاب الفكر الوسطي والمتخصصون بالدعوة الإسلامية وسيقوم عليهم مستقبل هذه الأمة, وهم الذين يوضحون فساد هذه الأفكار الهدامة والعقائد الفاسدة. شمولية المشروع الإسلامي ويؤكد الدكتور إبراهيم نجم مستشار مفتي الجمهورية, أن المشروع الحضاري الإسلامي أكبر من أي حكم أو مال أو وزارة يتبادلها البعض, ويسع المسلم وغير المسلم, ويسع كل الأطياف والتيارات والاتجاهات, لأنه يصدر القيم الحضارية الرائدة, وينهض علي أكتاف المؤسسات العلمية الكبري, وعلي رأسها الأزهر الشريف, وما يدور في فلكه ويجري علي منهجه في مدارس العلم العريقة في مشارق الأرض ومغاربها, ويجب أن يعلم الجميع أن الدولة أبقي من الأطياف والجماعات والتنظيمات, والإسلام باق والأوطان باقية حتي لو زال منصب أو حزب, ويخبرنا التاريخ أن هناك من القضايا التي يعتقد البعض أنها عادلة قد يحولها العنف إلي قضايا خاسرة قطعا, أما الوسائل السلمية التي تأخذ في اعتبارها الحفاظ علي كيان الدولة, والتي لا يترك زمامها للمهيجين, وإنما يقودها الحكماء الذين لا يستفز عقولهم ضياع منصب, ولا يستخف أحلامهم زوال سلطان, ويحسنون اختيار أقل المفسدتين, إن لم يكن هناك سبيل لدرئهما معا فهذا أمر يكفله الدستور والقانون ولا خلاف عليه.