إلي إخوتي الكهنة الأحباء والراهبات الفاضلات, وأبناء الكنيسة الأرمنية الكاثوليكية في أبرشية الإسكندرية, وإلي المؤمنين أبناء الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية. الميلاد هوالمبادرة الإلهية الكبري, والعهد الجديد بين الله والإنسان. فبعد أن خلق الله العالم وجعل الإنسان ومسئولا علي الكون وخيراته وغلاله وثرواته ونظافة بيئته, كلله بالمجد والكرامة. لكن الإنسان لم يعرف قيمة الله وعطاياه, فحلت المصيبة المؤلمة وسقط فيها آدم الأول الذي كان قريبا من خالقه. هذه المعصية جعلته يتنكر للنعمة التي وهبت له, وفصلته عن مبدعه وربه وأغرته بعبادة ذاته عوضا عمن أعطاه الحياة والنعم والمواهب, وأغناه بالوصايا ليحفظ نفسه وقريبه من كل تجربة تقوده إلي الهلاك والموت. ونتجت بعد المعصية, علي مجري التاريخ الإنساني برمته, انقسامات بين أبناء آدم جميعا: بين الأخ وأخيه, والزوج وزوجته, وبين الأب وابنه والأم وابنتها, والجار وجاره, بين الأقارب والمعارف والأصدقاء, بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد.. أولئك الذين خسروا ربهم, لم يبق لهم مفر من ضياع نفوسهم ومن غرقهم في بحر من الشقاء والحقد والأنانية والكبرياء والتشتت والموت الروحي والجسدي. فانقلبت الجنة الأولي إلي صحراء تنبت الشوك, وتعرض الإنسان لجوع كبير في قلبهفتلهمه وتنيره إلي استعادة ما فقده من سعادة وحب ليزيل عنه كوابيس القهر والظلم والاستغلال والزعل واللامبالاة. أيها الأحباء: إن هذا العالم الذي انكسر وانزلق إلي الهاوية قدأحبه الله علي الرغم من خطيئته حبا جما, ولم يتركه من دون عناية ورعاية تمنحه فرصة ثانية ليحيا ويستقيم. وقد برزت وعود الله بتحقيق ما قصده لنا: بأنواع كثيرة وأساليب شتي. عندما كلم آباءنا الأنبياء منذ القديم كما يقول لنا القديس بولس, وهو الذي صقل في الكون نفوسا تقية, واختار له أنبياء كانوا هدية إلي شعوبهم, وكانوا علامة تدل علي رحمته ورأفته وأمانته لحبه, ومع الأسف لم تقابل أمانته بالإخلاص من قبل البشر. فالأرض صنع يديه والسماء تذيع مجده وبهاءه, والإنسان يبقي ممهورا بختمه الإلهي, وهو لا ينسي كرمة غرستها يمينه ولا يصد حنانه عن الضعفاء والبسطاء إذا ما توسلوا إليه بعين الدعاء. وعندملء الزمنواكتمال المواعيد:أرسل الله الحبيب يسوع المسيح مولودا لامرأة, ليملأ الكون من حبه, ويبدأ عهد الملكوت الجديد, فدوي نشيد الملائكة في السماء يهتف بصوت رائع وجذاب:المجد لله في العلي, وعلي الأرض السلام, والرجاء الصالح لبني البشر. وكأن هذا الصوت يقول: أيها الرعاة البسطاء, ويا أيها الساهرون في الأرض تنتظرون بزوغ الشمس نور العالم.لا تخافوا, إننا نبشركم بفرح عظيم يكون فرح الشعب كله, ولد لكم اليوم مخلص في مدينة داود, وهو المسيح. وإليكم هذه العلامة: ستجدون طفلا مقمطا مضجعا في مذود. هكذا أحبنا الله ليكون بيننا ملك الرحمة والحق والحب. لننظر إليه, ونتأمله, لنعرف كيف يجب علينا أن نكون علي مثاله إذا أردنا لنفوسنا حياة جديدة. لم يكن رجلا كبيرا, بلولد طفلا وديعا متواضعاليعلمنا الصبر علي مصاعب ومشاكل الحياة وهمومها, والتأني في تغيير نفوسنا جذريا.بمولده كسر كل القيود وحطم كل الحواجزوأزاحها من علي صدورنا, ومن أهمها: الكبرياء والكراهية والبغض والحسد والكسل ومحبة الذات... وكل الشرور بأنواعها. وأعاد إلينا حريتنا وثقتنا بهذه الحرية, وأنار عقولنا وألهب قلوبنا بمشاعر الحب القادر علي كل تغيير. لقد أصبح معه كل شيء ممكنا وصار ممكنا أن نسير معه في طريق الخلاص حتي نهايتها. إن حقيقة واحدة تبقي راهنة أمام عيوننا وهي أن ميلاد يسوع وظهوره فيما بيننا يبقي ناقصا إن لم نبادر ونقبل هذا الطفل المولود ونضعه في قلوبنا, فالله الذي خلقنا من دون إرادتنا لن يخلصنا من دون إرادتنا أيضا, كما يقول القديس أوغسطينوس. هذا هو ثمن احترام الرب وحبه لنا, والقيمة التي منحنا وأعطانا إياها عندما خلقنا أحرارا وأصحاب إرادة ممتلئين قداسة وحكمة. لذلك, أدعوكم يا إخوتي الأحباء, بكل بساطة إلي أنتقبلوا طفل المغارة يسوع المسيح فهو لكمفرح وسلام. لا تخافوامن متطلباته وافتحوا له قلوبكم, وضعوا بين يديه مشاكلكم, عودوا إلي طفولتكم وبراءتكم وابدأوا معه مسيرة جديدة محررة من كل قيد. غيروا ما في قلوبكم ونفوسكم نحو الأفضل, ولا تتباهوا إلا بالحب وحده, والرحمة والغفران, وفرح السعادة والعطاء. أحبائي, تعالوا نصلي في هذا العيد ليلهمنا طفل المغارةكل نية حسنة وإرادة صالحةمن أجل ازدهار بلادنا وكنيستنا وعائلاتنا لكي نرعاها بحكمة وحق وضمير حي صاف وشفافية مطلقة. ولنزيد من الصلاة والتضرع لأجل منطقتنا الشرق أوسطية بأجمعها لأن فيها مهد المسيح, وعلي أراضيها عاش وترعرع, وعلي دروبها سار وشفي المرضي وأطعم الجياع وأقام الموتي وبشر بالملكوت. المسيح سلامنا.. وقوتنا لصنع السلامواحلاله علي ركائزه الأربع: الحقيقة والعدالة والمحبة والحرية. فأي انتقاص منها أو من إحداها يزعزع السلام, ويولد النزاع, ويشن الحروب ويزرع البغض والحقد والتعصب بين الشعوب. الحقيقةتولد السلام الحقيقي, لأنها تنفي الكذب والخيانة والازدواجية. والعدالةتثمر السلام العادل والشامل, لأنها تحترم حقوق الآخرين وكرامتهم, وتلتزم بالواجب الشخصي في توفير الخير العام. والمحبةتكون السلام المحب, وتعطي وتضحي بدون حدود, لأنها مشاعر إنسانية عميقة تسامح وتغفر وتتفهم, وتنتزع من القلوب كل بغض وحقد, وأفكار سوء. والحريةتؤدي إلي السلام النابع من إرادة حرة ومسئولة, تتخذ خياراتها في إطار الحقيقة والخير, وعلي صوت الضمير المستنير والواعي. في هذه المناسبة المباركة, ونحن علي أعتاب السنة الجديدة2014, أضع هذا السلام في قلوب العائلات والمجتمع والوطن, وأرفع صلاتي إلي الله, مع كل واحد منكم, ومن أجلكم جميعا, كهنة ورهبانا وراهبات وعلمانيين, ومن أجل أبناء أبرشيتنا وجميع إخوتنا علي أرض الكنانة, والمغتربين والمشتتين في أرجاء العالم, ومن أجل المرضي والمسنين والمضطهدين والذين يعانون الحروب والكوارث الطبيعية والجوع والألم, طالبا من طفل المغارة أن يكون عيد ميلاده ومجيئه إلينا ومكوثه معنا, عيد خير وبركة وسلام علي مصر وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين وعلي العالم أجمع. لمزيد من مقالات المطران كريكور أوغسطينوس كوسا