حدث تطور إستراتيجي في مسار تعامل القوي الدولية مع الأزمة السورية انعكست مدلولاته علي طبيعة التوجه السياسي تجاه طرفي الصراع المسلح, السلطة والمعارضة. إذ فجأة باتت تلك القوي وتحديدا الولاياتالمتحدة أقرب للقبول بصيغة سياسية للتسوية تؤمن بقاء ما لنظام الأسد وتحييد أي خيار عسكري محتمل لإقصائه عن السلطة, سواء بشكل مباشر عبر عمليات عسكرية من الخارج, أو حتي بشكل غير مباشر عبر زيادة الدعم العسكري والتسليحي للمعارضة السورية. الإقرار الضمني بوجود الأسد في تسوية مأمولة بمؤتمر مدريد 2, قابله حالة من العزوف السياسي عن المعارضة, والارتهان لتأثيراتها في حل الصراع, لكونها باتت معارضة منقسمة علي نفسها, بسبب اشتداد حالة الصراع العقائدي والمسلح بين فصائلها, بشكل لا يقل ضراوة عن صراعها مع نظام الأسد. والمتغير الجديد داخل تلك المعارضة, بروز التيار السلفي الجهادي الذي يرتبط جزء فاعل منه بتنظيم القاعدة كورقة مؤثرة في الصراع بعد سلسلة النجاحات التي حققها علي الأرض مؤخرا, ما أفقد الجيش السوري الحر المزايا النسبية التي كان يتمتع بها. وخطورة هذا التيار في كون بعض فصائله جبهة النصرة تحديدا لها روابطها الوثيقة مع الأفرع الإقليمية لتنظيم القاعدة بالعراق, تحديدا تنظيم الدولة الإسلامية' داعش'. وبات الشغل الشاغل للقوي الدولية ليس كيفية تمثيل وحضور نظام الأسد بمدريد 2 بقدر كيفية تمثيل المعارضة السورية فيه, والتي نزعت عن نفسها مشروعية تمثيل قوي التغيير والإصلاح بسبب صراعاتها وانقساماتها الداخلية, وباتت تشكل أزمة للغرب وليس وسيلة للحل السياسي أو حتي العسكري. فالمعارضة المدنية العلمانية بشقيها السياسي والعسكري لم يعد لها نفس الثقل الكبير كما كان الحال منذ عام, ما انعكس علي تراجع ثقة الغرب في قدرتها السياسية والعسكرية, بالإضافة لإخفاقها في توحيد المعارضة المتعددة تحت مظلتها, وتحديدا التيار السلفي الجهادي الذي برز متغير حاكم في معادلة الصراع. وتلك المعارضة الأصولية ليست منقسمة علي نفسها هي الأخري بسبب الروافد العقائدية لمؤسسيها بالإضافة لمصادر التمويل فحسب, وإنما أيضا بسبب مظاهر العنف السياسي التي باتت تمارسها مع بعضها البعض وتخطت كل معايير إنسانية. فهذا العنف الذي كان لها مسار وحيد متمثل تجاه رموز النظام ومؤيديه, بدأ يطال رفقاء السلاح والعقيدة بعد عمليات الوشاية السياسية, الذبح والقتل التي تمارس بين الفصائل الأصولية نفسها من ناحية, والموجه منها تجاه المدنيين العزل من ناحية أخري, الذين باتوا موضعا لعمليات المساومة والثأر المتبادل في الصراع المحتدم الآن. تكمن خطورة تلك المعارضة الأصولية ليس في نظرتها للصراع من منطق سياسي تأسس علي التغيير والإصلاح, إلي ديني يستهدف إقامة دولة إسلامية علي أنقاض الدولة العلوية بسوريا فحسب, وإنما أيضا كونها باتت المسيطر علي الكثير من المناطق التي خرجت من سيطرة الدولة السورية, بدأت تلك الفصائل تمارس مهام السلطة الفعلية بتلك المناطق, ما شكل مصدر قلق وتوتر مع سكان تلك المناطق وتحديدا الأقليات منهم, بالإضافة للقوي الغربية نفسها التي لها هواجسها من تكرار المشهد الليبي في سوريا. وزاد من وطأة هذا التوتر انضمام العديد من الجهاديين سواء الغربيين أو القوقازيين لتلك الفصائل الأصولية بعد تدريب وفترة قتال حقيقية في أفغانستان, حيث قدرت مصادر عددهما بقرابة20 ألفا بما يعادل15% تقريبا من العناصر المسلحة التي تقاتل نظام الأسد. ما يمكن أن يشكلوا ظاهرة جديدة عقب انتهاء الصراع المسلح تعرف ب' السوريين الغربيين' أو' السوريين العرب', قياسا لظاهرة' الأفغان العرب'. ليس أدل علي تلك الهواجس الغربية من كون الاجتماع الأخير لوزراء داخلية دول الاتحاد الأوروبي ببروكسيل خصص لمناقشة تلك الظاهرة وكيفية مواجهتها, كما أن روسيا من جانبها شكلت وحدة أمنية لمتابعة مواطنيها من' السوريين القوقاز'. فأي تسوية سياسية يمكن التوافق عليها في مدريد, محكوم عليها بالفشل ما لم تراع مصالح تلك الفصائل الجديدة من المعارضة الرافضة الحضور لمدريد. ومن ثم ينظر للتحولات التي شهدتها بيئة المعارضة الأصولية بكونها مؤشر علي طبيعة الاستحقاقات السياسية القادمة, والتي عبرت عن نفسها في مسارين رئيسيين: أولهما: عمليات إعادة الفرز العقائدي داخل تلك المعارضة من خلال تكوين' الجبهة الإسلامية' التي تشكلت من7 فصائل يقودها حركة التوحيد وحركة أحرار الشام, والبعد عن الفصائل الأقرب لنهج القاعدة مثل جبهة النصرة والدولة الإسلامية بالعراق والشام' داعش'. ثانيهما: اتجاه القوي الغربية لفتح قنوات اتصال سياسي مع تلك الجبهة بالإضافة لإخوان سوريا. إذ رصدت عدة لقاءات في اسطنبول, ولندن وباريس شارك فيها مسئولون أمريكيون وبريطانيين, وصلت لمستوي اعتراف الخارجية الأمريكية بفتح تلك القناة السياسية, التي يقودها سفيرها السابق بدمشق روبرت فورد. الغاية هنا محاولة كبح وتدارك تضاؤل النفوذ الغربي علي المعارضة السورية, الذي عبر عن نفسه خلال الفترة الأخيرة, وعدم الارتهان للمعارضة العلمانية. إلا أن هذا التحول بمجريات الأزمة, لا يعني تأمينا تلقائيا للنفوذ الغربي علي تلك المعارضة بشكل يدعم أي تسوية سياسية محتملة بمدريد, لكون القوي الغربية باتت جزء من الأزمة وليس الحل, بالإضافة لكونها سببا بالأزمة التي تعانيها المعارضة ونتيجة لها في نفس الوقت. فهي سبب لما تعتبره تلك المعارضة بكافة أطيافها تقاعس الخارج عن دعم الخيار العسكري, وفقدان الأمل في إسقاط سريع لنظام الأسد, ونتيجة لكون أي تسوية مأمولة لا تراعي ثقل ومصالح القوي الأصولية المسيطرة علي الأرض لن يكتب لها النجاح.