بداية فإن أي حديث عن الخلاص بالفن سيكون محاصرا بكل خطايا النزعة النسبية, ويصعب التعامل معه خارج هذا الإطار. وحتي الفلاسفة الذين جعلوا من الفن طريقا للخلاص من أمثال: شوبنهور, ونيتشه, وسارتر, وماركيوز, وأرنست بلوخ.. وغيرهم يصلون إلي نفس النتيجة. فها هو شوبنهور يصل إلي أن الفن هو الفاعلية المعبرة عن البعد العابر في السعادة الإنسانية, فالفن كما يقول:'.. هو تلك المرآة الحقيقية للعالم والحياة, خاصة فن الشعر, فكل ملحمة أو قصيدة درامية, يمكن أن تمثل بمفردها نضالا وجهدا وحربا من أجل سعادة ليست كاملة أو دائمة. إنها تصل بأبطالها إلي الهدف عبر آلاف المصاعب والمخاطر, وبمجرد وصولهم لأهدافهم يتم إسدال الستار سريعا, حيث أنه لم يعد هناك الآن ما يمكن عمله سوي بيان أن الهدف الرائع الذي توقع البطل أن يجد فيه السعادة كان مخيبا لآماله. وبعد بلوغه لم يعد أحسن حالا من ذي قبل, لأن السعادة الحقيقية والدائمة غير ممكنة, ولايمكن أن تكون موضوعا للفن'. إن الفن هو أحد المسكنات أو واحد من الأدوية العديدة التي يخترعها الإنسان للتغلب علي منغصات الحياة. وهو بهذا المعني يقدم خلاصا دنيويا يحيا في دائرة الإمكان, ويصب في التيار العظيم للطموح الإنساني الساعي نحو تحقيق المجتمع الأفضل. والواقع أنه ليس هناك طريق واحد للخلاص بالفن, فقد يتحقق هذا الخلاص بالتطهير( أرسطو), أو الكرنفالية( ميخائيل باختين), أو بالعالم البديل, العالم اليوتوبي( بلوخ, وماركيوز, ومالرو) أو بالنضال الثوري( بريخت والتيار الماركسي). والمسرح يمكن أن يؤدي تلك الأدوار مجتمعة, خاصة المسرح الكلاسيكي, لكن هذا التحديد لايعني أن المسرح المعاصر يخلو من هذا البعد, فالبعد الطقوسي عنصر مكون للتجربة الفنية من حيث هي كذلك, أعني أنه إذا كان الفن خرقا للمعتاد والمألوف, وتمردا علي الضرورة اليومية, ويقوم علي مبادئ: التلقائية, والحرية, والتنوع, والتخيل, والإيهام, الاتصالية, فإنه بذلك لابد وأن يتضمن في بنية تكوينه عنصرا طقسيا بصورة أو بأخري. لكن هذا العنصر الطقوسي يكون أكثر بروزا ووضوحا في الدراما لاعتبارات تاريخية وتقنية. وبوسعنا أن نجد من بين العديد من المدارس المسرحية التي ظهرت في منتصف القرن العشرين من يستهدف تحويل المسرح إلي شكل من أشكال الممارسات الطقسية, ومن هؤلاء نذكر:' أنتونان أرتو', و'جروتوفسكي',' بيتربروك'.. وآخرين غيرهم. فمثلا يذكر أنتونان أرتو( صاحب ما يسمي' بمسرح القسوة', ورائد المسرح الطليعي) أن المسرح يجب أن يكون شيئا مذهلا, وأن يجتاح مشاعر الجمهور, ويسيطر عليهم بما يشبه التنويم المغناطيسي, أو الإنجذاب الصوفي, أو الممارسات السحرية. فالمسرح' يجب أن يقترن فيه الإذعان والألفة الروحية الغامضة بالاحتجاج والتحدي'. ومن أبرز المدارس التي اتخذت أيضا من روح الطقس أساسا لها مدرسة الفنان البولندي' ييجي جروتوفوسكي', والذي أطلق علي مسرحه اسم' المسرح الفقير', وهو مسرح يستمد جذوره من عناصر مختلفة: المسرح الإغريقي, مسرح العصور الوسطي, مسرح الباروك الأسباني, مسرح ستانسلافسكي, ومصادر أخري متنوعة. لكن جروتوفسكي وضع ذلك كله في صياغة جديدة معاصرة تعيد المسرح إلي أصوله ومنابعه الطقوسية الأولي'. لقد كان جروتوفسكي يعتقد أن الفن بالضرورة مشروع روحي مقدس, وأنه وريث المطلق. وأن الممثل هو بديل الكاهن أو الساحر. وأن الفعل المسرحي يستهدف خلق إيقاع إنساني جديد يتحرر من الكوابح الاجتماعية, ويمكن أن يكون وسيلة للخلاص بالنسبة للمشاهدين والممثلين معا. والواقع أن الإنسان المعاصر منذ أن فقد روح الطقس في الفن, وفي الحياة صار محروما من السعادة. أصبح يحيا بلا اكتراث, بلا مشاعر, بلا اهتمام. صارت حياته روتينية كالأشياء. لم يعد هناك ما يدهشه أو يبهره أو يستلفت ناظريه. صارت الأشياء من حوله فاترة, وصارت حياته نفسها أكثر فتورا. وإزاء انعدام الدراما من حياته, كان لابد وأن يخلق الدراما البديلة, والدراما البديلة هي دراما اليأس, ودراما التدمير: تدمير الذات, وتدمير الآخر, وتدمير الأشياء. أن الإنسان المعاصر حتي يخلق الإثارة في حياته الساكنة الباهتة كان عليه أن يصنع دراما جديدة تناسب روح اليأس والهوان التي يعيشها, والإنسان المعاصر يعثر علي تلك الدراما البديلة بعدة طرق: فأحيانا عبر الاستمتاع السادي- المازوخي بمشاهد العنف والقسوة والتعذيب. وتارة أخري من خلال ممارسة بعض الطقوس المشوهة التي تستدعي مشاعر بدائية قديمة مثل التعصب للفرق الرياضية والتعلق الفاشستي بالقوميات أو الزعماء, والهوس الديني, والتشيع الأعمي للأيديولوجيات, وعبادة السلع, وكل مظاهر الفيتشية المعاصرة. إن هذه الممارسات تمثل بديلا طقسيا مشوها, لأنها لا تقدم إشباعا حقيقيا لحاجات الإنسان الجمالية والروحية والإنسانية. ومن ثم فإن إنسان اليوم كائن تعيس برغم كل التقدم المزعوم, لأنه أفتقد صلته المباشرة بالأشياء, وبالطبيعة, بنفسه, بجسده, بالكون, بالأرض, برفيقه الإنساني. وتحولت علاقته بالعالم إلي كم باهت من الرموز والإشارات والعلاقات المجردة, ولم يعد له لغة حسية تربطه بهذا العالم; لقد أنشطرت علاقته بالعالم من حوله ولم يعد يسيطر علي تلك الأشباح التي خلقها في حياته'. إن علي الفنان اليوم أن يرفض, مثل البطل التراجيدي, كل أساليب المهادنة أو التسوية أو المصالحة مع عالم كل ما فيه يستأصل إنسانية الإنسان. إن عليه ألا يستسلم برغم يقينه أن كل أعماله يمكن أن تحترق مثل القرابين, وأنها يمكن أن تكون مجرد إضافات للمحرقة الكبري التي تحاول أن تحيل كل ما هو بطولي وعظيم إلي شيء تافه وبلا قيمة. إن مهمة الفنان المعاصر اليوم هو كشف تشيؤ الواقع الراهن, وفضح مدي فساده وتحلله وغثيانه. بعبارة أخري أن عليه أن يتواصل مع هذا العالم عبر رفضه ودحضه واحتقاره. أن عليه أن يكتفي بالتهديم والتعرية ولا يترك لنفسه أي فرصة لأي عزاء من أي نوع. وحسبه أن يكون عزاؤه الوحيد هو امتلاك القدرة علي السخرية والاحتجاج والازدراء!. إن عليه أن يتمسك بالحلم ويتذرع بالأمل برغم مأساوية المصير الإنساني. عليه أن يدرك أن المخلص الحقيقي لن يظهر إلا حين يسود الظلام, وحين يملأ اليأس القلوب!! لمزيد من مقالات د.حسن حماد