يمثل الشر صيرورة كونية طويلة وممتدة بطول الوجود البشري, تكشف قصة الخلق, حيث الصراع بين الإنسان والشيطان عن أعمق أصولها, كما تعطي صراعات الإنسان مع الإنسان أكثر مبرراتها. غير أن أسوأ فصولها وأكثرها مفارقة هو ما يرتكب باسم الله, ويجري علي مذبح الدين, بدعوي الفضيلة الأكمل والتدين الأعمق, فهنا نصير أمام شر مستطير يمارس بحرارة الإيمان, وإن بإغواء الشيطان! أفهم أن يمارس المسلم العاصي الشر تحت ضغط نوازع آثمة ينكرها الدين ويدينها المجتمع, وأن يقع المسلم العادي فيه بتأثير ضعفه الإنساني وغفلته القلبية, ولكني لا أستطيع أن أفهم كيف يرتكب هذا الجرم مسلم يدعي أنه أكثر إسلامية, بوعي كامل وإرادة مسبقة, بل أن يقوم بذلك وهو يكبر باسم الله, وكأنه في حرب عنيفة ضد أعداء الدين أو الوطن أو كليهما. بل والأدهي من ذلك أن يكون شره هذا تعذيبا للآخرين وتمثيلا بهم إلي درجة تنزف معها دماؤهم من أجسادهم علي النحو الذي مارسه نفر من جماعة الإخوان داخل مسجد( بلال بالمقطم) هو مكان للعبادة, بيت لله يفترض أن تحل فيه روح السكينة علي المؤمنين, وأن يظله الحب وتسوده الرحمة بينهم؟. فلماذا أصبح الإيمان هكذا غلظة, ومتي كان المسلم هكذا جلادا, وهل يمكن للشر أن يكون مقدسا ؟ الإجابة: نعم ولا. لا يوجد شر مقدس, ولكن هناك شرا يدعي القداسة, يمارسه مدعو الإيمان, ومنتسبو الأديان باسم الله أو الحقيقة العليا أو الكائن القدسي, وهو الشر الذي دعاه يوما الملك البريطاني, والقائد الصليبي الشهير المكني ريتشارد قلب الأسد ب( الحقد المقدس), محاولا استغلاله في حفز جنوده إلي العدوان علينا باسم الصليب, وتحت راية المسيح الذي بلغ تسامحه غاية المدي حينما بشر بأعمق ما في الوجود الإنساني من درجات الحب, وهي البشارة التي نقلها عنه القديس متي: سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلي مبغضيكم. وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم( متي,5:43 44).. سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر, بل من لطمك علي خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا( متي,5:38 41). هنا يبرز أمامنا إدراكان نقيضان للدين: أولهما( رائق) يجعل منه جسرا حاضنا لبني الإنسان, إذ يسهم في تأسيس المثل العليا للضمير البشري كالعدالة والخير والتعاطف مع الآخرين, وهكذا يصير الإيمان حالة روحانية وجسرا وجوديا يربط عالم الشهادة بعالم الغيب, يدفع بالروح الإنسانية إلي تجاوز نفسها والتعالي علي ضعفها, عبر ذلك الشعور بالتواصل مع المقدس بما يكفله من طمأنينة للنفس, وتساميا علي الغرائز كالجشع والأنانية والحقد( المدنس), وتناغما مع المباديء الأساسية للوجود, علي نحو يزيد من اليقين الإنساني بالحضور الإلهي في العالم, وفي العناية الإلهية بالمصير الإنساني علي الأرض. أما ثانيهما فإدراك( زائف) يجعل من الدين نصلا في يد الشيطان, إذ يثير الأحقاد ويذكي الصراعات عندما يتسم بطابع عنصري, أو يفشل المؤمنون به في تفهم منطقه الخاص, وتجسيد مثله العليا. وهنا يصير الإيمان نوعا من النفاق يفسد اجتماعنا البشري, إذ يصبح استثمارا سياسيا, طقسا دون اعتقاد, ومظهرا دون جوهر, حيث يتعرف مدعي التدين علي نفسه كنقيض ضروري للآخر, في سياق نفيه والتنكر له إلي درجة استباحة وجوده, وربما الاستمتاع بالرقص علي أشلائه. في الدين( الجسر) يمثل الإيمان وسيلة مثلي لإنماء العوالم الداخلية للإنسان, وفي قلبها الحب كملكة نتعرف بها علي أنفسنا ونتعاطف مع الآخرين, ذلك أن الحب هو ثاني أبدع المحاولات الإنسانية, بعد مغامرة الإيمان بالله, للخروج من كهف الوحدة وأسر الأنانية والاندماج في الوجود الرحيب.. إنه طريق للخروج من وحشة العزلة وكآبة الاغتراب إلي فضاء الحميمية والتعاطف مع البشر من كل جنس ووطن ودين, ولذا كان الحب جوهر جميع الأديان حتي غير السماوي منها, وجماع الفلسفات عدا العنصرية فيها, فالقيمة الأخلاقية للحب كونه يدفعنا للتعامل مع الآخرين كذوات إنسانية حية وليس مجرد موضوعات أو موجودات أو أشياء. أما في الدين النصل, فثمة تناقض حتمي مع باقي عوالم الإنسان الداخلية, أو الجوانية, التي هي منبع أمله وألمه, وفرحه وحزنه, وتوقه, وغير ذلك من مشاعر تؤكد إنسانيته وتدفع نحو تمايزه. ففي هذا النمط الزائف من التدين لا معني للحب إلا إذا كان موجها نحو الله وحده, وعبر أشكال من التزمت تفضي إلي كراهية الآخرين, والقسوة عليهم, رغم أنه لا حب لله حقيقة إلا بحب الناس, فحبنا لله لا يضيف إلي الله شيئا, لأنه جل شأنه غني عنا, يسمو علي وعينا وإرادتنا, ولا معني لحبنا له حقا إلا إذا مس هذا الحب مخلوقاته الموصولة بنا أو المسخرة لنا. في سياق هذا الفهم وحده حيث الدين نصلا, والتدين زائفا, يمكن فهم كيف يكره المسلم إلي هذه الدرجة وأن يعذب علي هذا النحو, من ينتمون مثله إلي الوطن ذاته أو العقيدة نفسها؟.. إنه فقر في الحب, ينبع من عجز في الإيمان.. وهو قصور في روحانية الإيمان يتغذي علي ضمور في ملكة الحب, فالحب والإيمان وجهان لعملة واحدة, إذ عندما يوجه الناس حبهم إلي ربهم يكون إيمانا حارا.. وعندما يؤمن الناس بقيمة الإنسان الذي جعله الله خليفة له, يستحيل إيمانهم هياما وارفا, واحتراما جارفا. ومن ثم فمن لا يعرف معني الحب لا يدرك جوهر الإيمان ولا معني الوطن, تلك هي الحقيقة التي لا بديل أمام أعضاء الجماعة عن مواجهتها وتلك رسالتي إليهم جميعا.. إن إيمانكم العنيف هذا طقسي, وتدينكم السياسي هذا نفعي, تعجزون معه عن التعايش مع رفقاء الوطن وشركاء الروح, ولذا استحالت مصر جهنم أرضية, وأصبحت حياة المصريين كآبة لا نهائية, ولا طريق للنجاة من الكآبة أو الخلاص من الجحيم إلا بعودتكم إلي الحق, حيث رحمة الله تظل جميع المؤمنين, وأرض الوطن تسع جميع المصريين, حتي لا تبقي الدماء مهدرة, والكرامة منكرة, والوطن هكذا في حال من أنين عميق وحزن مقيم!. لمزيد من مقالات صلاح سالم