يفرق علماء الأساطير بين نوعين من التاريخ، الأول هو التاريخ الأسطوري أو التاريخ المقدس، والثاني هو التاريخ الدنيوي وكلاهما رؤية وتفسيرللتاريخ، الأول يختص به الإنسان البدائي وأصحاب الحضارات القديمة، والثاني يمكن أن نراه حياً بيننا في الرؤية التاريخية التي تسجل الأحداث التاريخية بوصفها من صناعة البشرأو ما نسميه علم التأريخ، أي تدوين الأحداث التاريخية بقراءة موضوعية، ولكن كيف يكون التاريخ المقدس وكيف يتكون؟ التاريخ المقدس هو تاريخ لا أثر لفعل وإرادة الإنسان فيه، فهو يشتمل علي تاريخ الآلهة ونشأة الكون وخلق الإنسان وحكايات حول الفردوس الأول أو زمن البدايات، والتاريخ المقدس بطبيعته ينسب كل أفعال الإنسان للآلهة، فالزراعة في مصر مثلاً لم يكتشفها المصري القديم وإنما علمها له الإله أوزير، والنار لم تكن من اكتشاف البشر وإنما أهداها برومثيوس للإنسان، والتاريخ الذي نعرفه اليوم في عرف صاحب الأسطورة هو تاريخ زائف لأن التاريخ الحقيقي من صنع الآلهة أو أتباعها من الأبطال الأسطوريين، ويعرف كل من فراس السواح وإلياد الأسطورة بأنها تاريخ أو حكاية مقدسة، ومن يفسرها أو يسجلها إنما هو واقع في أسرالأسطورة لا يري الإمكانات البشرية وحرية الإنسان وفعل الإنسان كما رآها هيجل في فلسفة التاريخ أو كما بشر به الأنبياء . يشرح مرسيا إلياد ما يسميه بالتحيين الطقسي من خلال ممارسة الطقس أو تلاوة أسطورة الأصل، فالبدائي يملك زمناً دائرياً وحنيناً للبدايات، لكن لكي يعيش البدايات أوزمن الخلق الأول أو العصر الذهبي أو ما يسميه إلياد أسطورة الأصل، يجب تكرار أسطورة الأصل من خلال ممارسة الطقوس التي هي بالأساس عبارة عن تمثيل مسرحي مشابه للأصل الأسطوري مع التنويع علي الأصل، يعود صاحب الأسطورة بممارسته الحميمية هذه إلي الماضي، ففي كتابه مظاهر الأسطورة (ط 91) ترجمة نهاد خياطة شرح إلياد نظريته في التحيين الطقسي ص 20 " في أثناء الخدمة الجنائزية يرتل الشامان من "الناخي" ما يلي : " الآن نحن نصحب الموت ونعرف الحزن من جديد، نرقص من جديد ونصرع الشياطين أرضاً. إذا لم نعرف من أين جاء الرقص يجب ألا نتكلم عنه. وإذا جهلنا أصل الرقص لا يمكن أن نرقص". بذكرنا هذا علي نحو غريب بما يفعله الأيتوتو في بروس: " هذا هو كلام ( أساطير) أبينا ، كلامه بالذات. بفضل هذا الكلام نحن نرقص، وما كان ليوجد رقص لو لم يعطنا كلامه". في معظم هذه الحالات ، لا يكفي معرفة أسطورة الأصل، بل يجب تلاوتها، بذلك نعلن نوعاً ما علمنا بها، وتظهر للعيان. لكن هذا ليس كل شئ: حين تتلي أسطورة الأصل أو يحتفل بها، يفسح المجال لكي يشيع الجو المقدس الذي جرت فيه هذه الحوادث العجيبة،....، وبتلاوة الأساطير يصار إلي استعادة الزمن الأسطوري " والحكاية الأشهر في مصر القديمة عن قتل أوزير علي يد ست، كانت تمثل كمسرحية دينية يمثلها الكهان وعبدة الإله بشكل دوري سنوي تعيد تكرار الأسطورة في أفعال طقسية لعدة مرات، حيث تصبح السنة زمناً وتاريخاً كاملاً بتمام نهايتها، وعند نهاية الدورة الكونية أو السنوية نصل هنا للنظرية الثالثة والأهم في كتاب إلياد ملامح الأسطورة أو في كتابه العود الأبدي، حيث يطرح تصورالنهايات في التاريخ المقدس أو الدورة السنوية أو الكونية، فصاحب الأسطورة يظل في شوق دائم إلي نهاية التاريخ، حيث يعود الانتهاء عودة إلي الابتداء علي حد تعبير نيتشه خلال عرضه لفكرة العود الأبدي في هكذا تكلم زارادشت، تلك النظرية النتشوية التي تظهر بنيتها الأسطورية إذا ما وضعت وغيرها كما سيتضح تحت مجهر إلياد، فالنهاية الكونية أو نهاية التاريخ تعني العودة إلي بدايته حيث الفردوس المفقود، عندما كان الإنسان يعيش في وئام مع الطبيعة ومع نفسه ومع أخيه الإنسان في سعادة وكمال معرفي، ولكن ليعود الفردوس مرة أخري لا بد من تدمير شامل وتام يطال كل عناصر الوجود ويخل بالنظام الكوني من خلال الطوفانات أو البراكين أو الخاووس كما كان الحال قبل بداية نشوء الكون، بعدها يعود النظام والانسجام لعناصر الوجود وللإنسان، فيعود إلي نقائه وطهره البدئي وسعادته المكتملة والنهائية. رؤي شعبية السؤال الآن. ألم تقم بعض النخب الإعلامية مفكرين من اليمين واليسار من الإنتلجنسيا العربية، كما قام كثير من أصحاب الإسلام السياسي بالوقوع في أسر الرؤية الشعبية بل والتفكير الأسطوري في النظر إلي التاريخ العربي والأيديولوجيات الغربية وممارسة التحيين الطقسي في التعامل مع الفكر الغربي سواء عن وعي أو دون قصد، لإيهام نفسها أولاً وإيهام شعوبها بمحاولة الخروج من الأزمة العربية الراهنة وليتها لم تفعل؟ للإجابة علي هذا السؤال سأطرح بعض الملاحظات التي توصلت إليها عندما أخذت أطبق منهج إلياد علي الواقع العربي، وكان لا بد من خلال هذا عرض أيديولوجيات غربية وقعت في أسر التفسير الأسطوري للتاريخ. يحذرنا الباحث السوري فراس السواح من وقوع نظريات تفسير التاريخ قديماً وحديثاً في أسرالأسطورة حيث يقول في مقاله الأسطورة والتاريخ "...غير أننا يجب أن نتذكر بأن هذا المشروع الإنساني الضخم مدين بأصوله للأسطورة. وعندما نتذكر ذلك يجب أن نحذر: نحذر من الانبثاقات اللاواعية للأسطورة وتسرُّبها إلي علم التاريخ، متسربلةً برداء علمي يخفي معالمَها الأصيلة. فرغم كل المنطلقات العلمية التي تصدر عنها الكتابة التاريخية الحديثة، فإن نوعاً من النزوع الأسطوري الخفي يبقي كامناً وراء عمل المؤرخين من جهة، ووراء فهم قرَّاء التاريخ وتفسيرهم لما يقدَّم إليهم من مادة. ويتضح ذلك بشكل جلي عندما يتم بعث التاريخ القديم كجزء من مشروع قومي شامل، حيث يتحول الهوس القومي إلي هوس تاريخي، وبالعكس.......... وتعبِّر هذه النزعة عن نفسها بطريقة خاصة، لدي الأمم المستضعَفة التي تحاول الاستناد إلي عصورها الذهبية الخالية من أجل استمداد العون علي مواجهة أوضاعها المتردِّية الراهنة، وعلي تجاوز عقدة النقص والإحساس بالاضطهاد وبالعجز. ذلك أن قراءة التاريخ، شأنها في ذلك شأن قراءة الأسطورة، ترمي الإنسان خارج اللحظة الراهنة لتضعه في زمن حقيقي غير متخيل. يمنحه القوة ويعطيه الإحساس بأنه سليل ذلك البطل أو وريث تلك المرحلة الذهبية التي تُؤمَلُ استعادتُها. بذلك يحيلنا التاريخ الدنيوي، مرة أخري، إلي التاريخ المقدس وقد ألبِس حلَّة جديدة تليق بالعصر " ، ما يقوله السواح ينطبق علي الحالة العربية والإعلام العربي في ظل الأنظمة القمعية الحاكمة، ففي تعامل بعض النخب العربية القريبة من السلطة يتم التعامل مع الأيديولوجيا الغربية ربما بوعي وعن قصد بتقديس الشعارات الأيديولوجية الغربية، في حين تقوم النخب اليسارية بالوقوع في نفس الخطأ ربما كرد فعل لا واع ومتطرف أيضاً، أما حالة الإسلام السياسي فهي الأكثر تطرفاً وخضوعا للرؤية الشعبية في عرض التراث العربي وتفسيره، ربما لحاجة الإسلام السياسي لتوفير غطاء شعبي للوصول إلي السلطة فتعمل بمبدأ التاجر الذي يري الزبون دائماً علي حق، فطرح الإسلام السياسي يقوم علي مبدأ اختزال التاريخ العربي، وأداء التحيين الطقسي بتلاوة نصوص حول روعة الزمن الراشدي، طلباً للوصول إلي الفردوس المفقود، مع إهمال تام لعصر الدولة العباسية والأموية، وكأنه لم يكن عصراً إسلامياً بامتياز، بل ورمز لقوة الحضارة الإسلامية وعزها، وتتم مصادرة الحديث عن أبي نواس وبشاربن برد لصناعة تاريخ مقدس ونقي لا سقوط فيه، حتي الخلفاء الراشدين يتم وضعهم في أيقونات مفارقة للواقع، وتصبح عظمتهم نابعة من مصدر إلهي وليس من فعل وإرادة وعقل بشري، الأكيد أن عصر الخلفاء الراشدين لا يقل عظمة عن الحضارة التي أنتجها، لكن أن تختزل الحضارة الإسلامية الرائعة بامتياز في تلك الفترة، فهذا ما يقلل فرصة العربي اليوم للوصول للحرية والنهوض، وهناك ما هو أفدح بالنسبة لتاريخ الأندلس حيث ينادي الدعاة من المنابر الفضائية بالعودة إلي الفردوس المفقود، ويتم اختزال تاريخ الأندلس في مرحلة زوال هذا التاريخ والبكاء عليه، فبدلاً من أن يحدثوك عن حياة الأندلس وقوة حضارتها يحدثوك عن موتها وزوالها، تكرار الحديث المختزل بزوال الأندلس يجمع بين التحيين طقسي وأسطورة العود الأبدي بتلاوة لكنها تلاوة النهايات إيذاناً بالعودة إلي الأندلس، ولا أثر في هذا الحديث عن تاريخ واقعي فلا إنشاءات معمارية وحضارية للإنسان ولا مخططات موضوعية للدولة، وربما لوتمت قراءة تاريخ الأندلس بموضوعية بعيداً عن البكائية الشهيرة لأصبحنا أقرب لتحقيق الأندلس مما نحن اليوم، ولكنها الرؤية المقدسة للتاريخ إذ يمتنع النهوض بالكلية . اليسار هذا ما كان من أمر نخب الإسلام السياسي والدعاة الدينيين في مجتمعنا، فماذا عن اليساريين؟ لقد استمرت النخب اليسارية في عالمنا العربي، في توثين النصوص الماركسية، رغم أن ماركس نفسه اعترف قبيل وفاته بأنه ليس ماركسياً جامداً، والأفدح إصرار الكثير من الماركسيين علي تلاوة الأفكار الماركسية كما هي حول نظرية فائض القيمة، مع أن هناك من عناصر النظرية ما تغير وضعه، فالعامل لم يصبح مستغلا إلي الدرجة القصوي بفضل التكنولوجيا، ولا الرأسمالية المتطرفة باتت ترحم المستهلك، ولا الرؤية الماركسية في عمومها بقيت علي قوتها في تفسير التاريخ، أليس الطرح الماركسي حول نهاية التاريخ (الشيوعية) طرحاً أسطورياً بطبيعته؟ ألم يصنع ماركس ما تصنعه الأسطورة عندما وضع العامل أو طبقة البروليتاريا في مواجهة رأس المال، كما هو الحال في علاقة الخيربالشر في القراءة الأسطورية للتاريخ؟ ألم يبحث ماركس عن العود الأبدي والنهايات السعيدة والعودة إلي المشاعية البدائية أوالفردوس المفقود بالوصول إلي المرحلة الشيوعية التي ستبقي إلي أبد الآبدين؟ ثم أليس هذا تحديداً هو ما يردده نخب اليسار في بلادنا أكثر من تحليلهم المسائل الرياضية في كتاب رأس المال؟ ناهيك عن عدم الوعي بالواقع العربي ما يناسبه وما لا يناسبه، هذا لا يعني أن إسقاط إنتاج الماركسية النظري والتطبيقي، بقدر ما يعني قراءته بحسب الواقع الجديد والمتغير والكف عن التحيين الطقسي وتوثين النصوص. علي الجانب الآخر أخذت النخب اليمينية من مناصري فلسفة رأس المال علي الطريقة الأمريكية المتطرفة، تنهل من نفس النبع الأسطوري دون إجراء أدني محاولة للنقد، فقامت بتلاوة النصوص والشعارات من كتابات فوكوياما وهانتجتون. نموذجنا الآن فوكوياما، فكتابه المعنون "نهاية التاريخ وخاتم البشر" قدمت حوله الدراسات والشروح الكثيرة في العالم العربي، وكان له الرواج الأوسع باستثناء صدام الحضارات، وكأنه الكتاب المقدس المتحدث باسم الرأسمالية والليبرالية، مع أن ما طرحه المؤلف لم يخرج عن نفس المنهج الأسطوري الذي تحدث عنه إلياد نظرية العود الأبدي، بل وكان كتابه أردأ بكثير مما قدم ماركس فكان ما قدمه فوكوياما يشبه الإعلانات الأمريكية عن سلعة(حرية السوق)، فلا تجد فيه تنظيراً يضارع الماركسية في إنتاجها التحليلي العميق ولا حتي يصل إلي طرح هانتجتون بخطورته، فكما تأتي النهاية السعيدة في الأسطورة، عقب حوادث بشعة وكارثية كالطوفان والتدمير والحرق لاستعادة الفردوس، رأي فوكوياما أن نهاية التاريخ بدأت فعلياً بانتشار الليبرالية- المقصود هنا حرية حركة رأس المال ولا أعرف عاقلاً علي وجه الأرض يرفض الليبرالية الفكرية- وحرق كل الأيديولوجيات السابقة إيذاناً ببزوغ العصر السعيد عصر الوفرة والغبطة والاكتمال النهائي!