موقع عبري: نتنياهو يُسلم السلطات لنائبه «مؤقتًا» لهذا السبب    فتح باب القبول بالدراسات العليا في جميع الجامعات الحكومية لضباط القوات المسلحة    أمين الأعلى للشئون الإسلامية: مواجهة التطرف تبدأ من الوعي والتعليم    انطلاق قافلة دعوية مشتركة إلى مساجد الشيخ زويد ورفح بشمال سيناء    محافظ أسيوط يعلن فتح المجازر الحكومية مجانًا خلال عيد الأضحى    انخفاض أسعار الزيت والعدس واللحوم اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    باريس سان جيرمان بالقوة الضاربة فى مواجهة إنتر بنهائي دوري الأبطال    لوران بلان وميشيل جونزاليس.. من يتفوق في كأس الملك؟    خلاف مالي يتحول لمعركة بالرصاص.. قتيلان ومصاب في مشاجرة دامية بسوهاج    ضبط تشكيل عصابة تخصص فى النصب على المواطنين بالقليوبية    جيش الاحتلال يعلن انضمام لواء كفير إلى الفرقة 36 للقتال في خان يونس    3 ملايين جنيه في أول يوم عرض.. «ريستارت» لتامر حسني يحقق انطلاقة قوية    أفضل دعاء في العشر الأوائل من ذي الحجة للمغفرة مكتوب (ردده الآن كثيرًا)    «الرعاية الصحية» تعتمد قرارات إستراتيجية لدعم الكفاءة المؤسسية والتحول الأخضر    رئيس التنظيم والإدارة يستعرض التجربة المصرية في تطبيق معايير الحوكمة    التضامن: وصول آخر أفواج حجاج الجمعيات الأهلية إلى الأراضي المقدسة اليوم    ماسك يكشف عن خلاف مع إدارة ترامب    بعد قليل.. نقل شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    ذكرى رحيل "سمراء النيل" مديحة يسري.. وجه السينما المبتسم الذي لا يُنسى    في ذكرى رحيله.. "جوكر الكوميديا" حسن حسني بوصلة نجاح الشباب    إمام عاشور يحسم الجدل: باقٍ مع الأهلي ولا أفكر في الرحيل    تكبير ودعاء وصدقة.. كيف ترفع أجرك في أيام ذي الحجة؟    وزير الطيران: مصر تسعى لترسيخ مكانتها كمحور إقليمي في صناعة الطيران الإفريقية    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن البحر الأحمر    مسؤولون إسرائيليون: توجيه ضربة لمواقع نووية إيرانية أمر ضروري    بري يرفض الاحتكاكات بين بعض اللبنانيين في جنوب البلاد واليونيفيل ويدعو لمعالجة الوضع بحكمة    ملاكي دخلت في موتوسيكل.. كواليس مصرع شخص وإصابة 3 آخرين بحادث تصادم بالحوامدية    غدا.. وزير الصناعة والنقل يلتقي مستثمري البحيرة لبحث التحديات الصناعية    رئيسة القومي للمرأة تلتقي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف    "الشربيني": بدء إرسال رسائل نصية SMS للمتقدمين ب"سكن لكل المصريين 5" بنتيجة ترتيب الأولويات    القومي للبحوث يرسل قافلة طبية إلى قرية دمهوج -مركز قويسنا- محافظة المنوفية    «ذا أتلانتيك»: واشنطن تغيب عن جولة مفاوضات تسوية الحرب الروسية الأوكرانية المقبلة    أسعار البيض بالأسواق اليوم الجمعة 30 مايو    ضبط كيان مخالف لتصنيع الشيكولاتة مجهولة المصدر بالمنوفية    استمرار الأجواء الربيعية بالأقصر اليوم الجمعة    المضارون من الإيجار القديم: مد العقود لأكثر من 5 سنوات ظلم للملاك واستمرار لمعاناتهم بعد 70 عامًا    حماس ترفض مقترح ويتكوف بشروطه الجديدة    ماكرون يتحدث مجددا عن الاعتراف بدولة فلسطينية.. ماذا قال؟    نصائح مهمة من القومي للبحوث للطلاب خلال فترة الامتحانات (فيديو)    مصرع وإصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق مصر السويس الصحراوي    انخفاض أسعار الذهب الفورية اليوم الجمعة    «عانت بشدة لمدة سنة».. سبب وفاة الفنانة سارة الغامدي    الإفتاء: الأضحية المعيبة لا تُجزئُ عن المضحي    رئيس وزراء اليابان يحذر من التوتر بشأن الرسوم الجمركية الأمريكية    مصرع شاب و إصابة أخر في تصادم موتوسيكل بأخر في المنوفية    «تعامل بتشدد».. تعليق ناري من طاهر أبو زيد على انسحاب الأهلي من القمة    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    "فوز إنتر ميامي وتعادل الإسماعيلي".. نتائج مباريات أمس الخميس 29 مايو    مدحت العدل يصدر بيانا شديد اللهجة بشأن شكوى جمعية المؤلفين.. ما علاقة حسين الجسمي؟    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    البرلمان يوافق نهائيًا على تعديلات قوانين الانتخابات    مجموعة الموت.. المغرب تصطدم ب«إسبانيا والبرازيل» في كأس العالم الشباب 2025    العرض الموسيقي «صوت وصورة» يعيد روح أم كلثوم على مسرح قصر النيل    بعد أنباء رحيله.. كونتي مستمر مع نابولي    هل يجوز الجمع بين نية صيام العشر من ذي الحجة وأيام قضاء رمضان؟    "الإفتاء توضح" بعد الجدل الدائر.. حكم صلاة الجمعة إذا وافقت يوم عيد؟    «الإسعاف»| 123 سنة إنقاذ.. 3200 سيارة حديثة و186 مقعدا لاستقبال البلاغات يوميًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ردم حفرة الدم : الثأر .. سلطة الرمز
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 11 - 2013

يشتهر جنوب الصعيد بالثأر كوسيلة وحيدة لمواجهة العنف، وتلك الشهرة تغفل اتجاها آخر في التعامل مع مشكلة العنف، وهو ما يُطلق عليه "ردم حفرة الدم" أي أن الجماعة الشعبية تعرف منهج اللاعنف، وهو منهج أصيل في ثقافتها، ولا أدري لماذا لا نسلط الضوء علي ذلك المنهج بقدر ما نسلطه علي الممارسات الثأرية التي تتخذ من العنف المضاد(الثأر) وسيلة لحل المشكلة، إن اشتهار الصعيد بالعنف يقدم صورة مضللة، بينما الصورة الحقيقية تجعله أقرب لمنهج اللاعنف. ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة إلا إنه يمكننا القول أن العنف الذي ينتهي بالمصالحة لا يقل أبدا عن العنف الذي ينتهي بالثأر إن لم يتجاوزه.
و إجراءات " ردم حفرة الدم" يطلق عليها مصطلح "القودة". ويرجع جذر الكلمة في العربية إلي " قود"، وبالنظر إلي المعني المعجمي ل " قود" نجد أنفسنا أمام أمرين لا فتين، الأول يكشف عن تطابق دلالات الكلمة مع اسم الطقس، ويحيلنا بوضوح إلي مسيرة القاتل بينما يقوم قاضي الدم بشده بمقود وهو الشاش، كما يطابق معني الانقياد حالة القاتل وهو يتوجه إلي عائلة القتيل خاضعا لهم.
الأمر الآخر يظهر بخلاف ذلك، فالقَوَدُ في الدلالة المعجمية يعني قتل القاتل، أما "القودة" فتعني نجاة القاتل من القتل، وهذا الاختلاف يأخذنا للمعني اصطلاحا، والذي يشمل الثأر والعفو في نفس الوقت، الثأر الذي يستهدف النفس، والعفو الذي يستهدف الجسد.
وفي " القودة" نجد مجموعة من الإجراءات ذات الطبيعة الطقسية، فالطقوس أفعال نمطية تتمحور حول قيمة معينة وتتسم بالتنظيم، والترتيب، والتكرار، والترميز، وإجراءات القودة تتسم بتلك السمات، فهي تتمحور حول قيمة العفو، وهي قيمة مقدسة، وهي تتم وفق تنظيم معين، وبترتيب معين، وهي إجراءات نمطية موروثة تتكرر كلما حلت المناسبة، ويعتمد خطابها علي رسالة أو رسائل رمزية. وطقس يحمل كثافة طقسية عالية تضعه في إطار الطقوس الإنسانية الكبري، وتنطبق عليه مواصفات طقوس العبور.
سوف نقوم هنا بوصف تلك العناصر الطقسية المختلفة، لكن الوصف رغم أهميته لا يمنحنا وعيا متكاملا بالطقس،ولا بد من الوقوف أمام الرسالة الرمزية، خاصة أن طقس القودة يقدم نموذجا واضحا لسلطة الرموز أو قوتها، لأنه يقوم علي القتل الرمزي والبعث الرمزي، وهي فكرة قديمة، فقد كان رمز الإنسان يحل محل الإنسان بالمعني الواقعي لا الخيالي للكلمة، ومظاهر ذلك كثيرة، كتماثيل الخدم والأقرباء التي كانت توضع في المقبرة مع المتوفي لتقوم بخدمته في العالم الآخر، أو كتمثال الملك الذي كان يُدفن في عيده الثلاثيني بديلا عن الملك الذي كان ينبغي أن يقتل في ذلك العيد، وغيرها من الأمثلة التي لا يتسع لها المجال.
ردم حفرة الدم
يُطلَق مصطلح " حفرة الدم" أو " القودة" علي إجراءات المصالحات الخصومة الثأرية، ومفردة الحفرة تحمل معاني السقوط، وتستدعي إلي الأذهان صورة القبر المفتوح وكأننا أمام طقس دفن معلق، في انتظار تحديد الجثة، إنه طقس استباقي يختلف عن طقوس الدفن الأخري، التي لا تبدأ إلا بعد إعلان الموت، وهو يتوازي مع طقس تعليق العزاء الذي يتحرك في اتجاه معاكس، وهو تأجيل تلقي العزاء إلي أجل غير مسمي، لا ينتهي إلا بالثأر أو " القودة" ولو بعد سنوت أو عقود.
وينقسم القائمون بردم حفرة الدم إلي قسمين، يُعرف الأول ب " قضاة الدم" ويعرف الآخر باسم " الأجاويد". وقاضي الدم أحد الأشخاص الذين يتسمون بالمكانة الاجتماعية في مجتمع الثأر، ويتخصصون في فض الخصومات الثأرية، وغيرها، وهو يتمتع بخبرات واسعة في هذا المجال، وهو الذي يقوم ب " شد القودة"، والإشراف علي كافة تفاصيل المهرجان الطقسي.
أما القسم الآخر فيتكون من مجموعة غير محددة العدد، لكنها تلعب دورا مؤثرا وبالغ الأهمية.ويطلق عليهم مصطلح "الأجاويد"، أو " أهل الخير" وهم من الشخصيات المؤثرة في المجتمع، ويتمثل واجبهم في دعم المصالحة الثأرية بشتي السبل، مستغلين في ذلك مكانتهم التي تقلل من الشعور بالعار لدي عائلة القتيل لعدم قيامهم بالثأر، وتؤهلهم لقبول " القودة".
2 المهرجان الطقسي
يعتبر المهرجان الطقسي أهم ركن في " ردم حفرة الدم " وأكثرها ثباتا، وهو يتوازي مع ركن الإشهار في الثأر، فكما أن الثأر يبطل بدون إشهار، كذلك لا صلح بدون مهرجان. وكما أن الثأر ينتهي بطقس " التشريفة" الذي يعلن عن استرداد عائلة القتيل لمكانتها، وذلك عن طريق عناصر احتفالية معينة، كإطلاق النار في الهواء مثلا، وفتح ديوان العائلة لتلقي العزاء في قتيلها، كذلك المهرجان الطقسي يعلن استرداد المكانة،ولكن بعناصر احتفالية كثيرة.
يبدأ التجهيز للمهرجان الطقسي بعد الوصول إلي اتفاق علي التصالح والذي يستغرق بدوره وقتا، لتُنقل أخباراً عن مشروع التصالح وتعنت عائلة القتيل، للبرهان علي تصميم العائلة علي القيام بالثأر، و صعوبة العفو عن القاتل. ثم يأتي بعد ذلك تحديد موعد مناسب ل " القودة"، وخلال الفترة التي تفصل بين الاتفاق علي التصالح و"القودة"، تبدأ حركة نشطة في الدعوة للمهرجان، تستخدم فيها كروت ورقية مدون بها مضمون الاحتفالية، كتلك التي تُستخدم في احتفاليات الزواج، و لا تُوزَّع داخل نطاق القرية محل الثأر فقط، بل تُوزَّع علي القري المجاورة، والتي تتجاوز حدودها حدود المحافظة محل الثأر، بل تشمل محافظات أخري، وذلك بسبب وجود صلات قبََلية تربط بين السكان في مجتمع الثأر، وتلك الصلات لا تعرف الحدود الجغرافية للمحافظات، فكل عائلة لها أقرباء أو معارف خارج المحافظة، ومن الضروري مشاركتهم في المهرجان.
ولا يقتصر الأمر علي دعوة الأقرباء والمعارف، بل يشمل أيضا دعوة شخصيات عامة، يلعب حضورها دورا في رفع مكانة عائلة القتيل، مثل أعضاء مجلسي الشعب والشوري، كما تتم دعوة ممثلي السلطة المحلية خاصة المحافظ الذي قد يحضر، لكن الغالب حضور ممثل عنه، كسكرتير عام المحافظة، أو مدير مكتبه، ويحضر معه بعض كبار التنفيذيين مثل رئيس مجلس المدينة، أو رئيس القرية.كما يشارك في المهرجان ممثل السلطة الشرطية : مدير الأمن أو من ينوب عنه، مع مجموعة كبيرة من الضباط والأفراد. وكذلك أيضا ممثل السلطة الدينية وغالبا ما يكون وكيل وزارة الأوقاف، بمرافقة عدد من الأئمة.
هكذا تتوالي الوفود صباح يوم "القودة"، ويجلس الجمهور في سرادق يُحدَّد موضعه بمعرفة عائلة القتيل، وتقوم عائلة القتيل، بدفع تكلفة السرادق والتي تصل إلي أكثر من عشرة آلاف جنيه علي الأقل. وقد تتمسك عائلة القتيل بدفع تكلفته.
والسرادق يحتوي علي منصة، يجلس عليها عدد من أبرز الشخصيات المتواجدة، والذين يمثلون رجال الأمن، والإدارة، ومجلس الشعب أو الشوري، ورجال الوعظ والتصوف.
ويلعب هذا الحشد الكبير عدة أدوارمن أهمها التعبير عن اعتراف الجماعة المحيطة بالقودة بدلا للثأر، وهو أمر غاية في الأهمية، فتلك الجماعة هي التي تحاصر عائلة القتيل، وتضعها في دائرة العار، واعترافها بالمصالحة الثأرية يعني كسرا لدائرة العار.
فاتحة " القودة"
ورمزية التلقين و " التفطيم"
بعد تجمع الوفود المشاركة، يتوجه قاضي الدم لإحضار القاتل إلي السرادق، حيث يلقي كلمة قصيرة جدا للحاضرين يؤكد فيهاعلي أن للصلح هيبة، ورهبة وحرمة، وأنه سيتوجه لإحضار مقدم القودة، وأن هذا الصلح يشهد عليه الله، ورسوله، والصالحون، ويدعو الحضور جميعا لقراءة الفاتحة.
وعندما يلتقي قاضي الدم بالقاتل في المكان المُحتجز فيه، يقوم بتلقينه الشهادتين، حيث يأمره بأن يردد خلفه الشهادتين، فيفعل.
بعد هذا التلقين يقوم قاضي الدم "بتفطيم" القاتل مخبرا إياه بكلمات قصيرة وحاسمة بأنهم سوف يتوجهون الآن إلي عائلة القتيل، وأنه (القاتل) رجلهم، إن قتلوه فهو حقهم، وإن عفوا عنه فهو حقهم، ويذكره أيضا بأنه يري العفو أقرب.
وإذا نظرنا إلي التلقين نجده عنصرا من عناصر الطقوس الجنائزية، يتم في حالة الاحتضار، ويعني قيام شخص يتواجد بالقرب من المحتضر بنطق الشهادتين، وقيام المحتضر بترديد الشهادتين خلفه.
وفي مجتمع الثأر يعد التلقين من عناصر الدفن، فبعد وضع المتوفي في القبر، يقوم الحفار أو أحد المشايخ بتوجيه الحديث للمتوفي وتلقينه عبارات إرشادية، تتعلق بردود المتوفي عندما يأتي الملكان ويسألانه، عن ربه ونبيه، وقِبلته إلي آخر ما يفيده في العبور من الدائرة البرزخية التي تقود إما إلي الجنة، وإما إلي النار.
إن ارتباط التلقين بطقوس الموت والدفن يضع القاتل في تلك الدائرة البرزخية التي يجد المتوفي نفسه فيها. والقاتل هنا يماثل المتوفي فعلا، يواجه مصيرين متناقضين،إما نارالقتل، أو جنة العفو.
التلقين إذن عنصر طقسي، يقدم لنا رسالة رمزية تربط القاتل بعالم الموتي، فهو في حكم المتوفي إلي أن ترضي عنه عائلة القتيل.
الكفن والموت الرمزي
يعد حمل الكفن وتقديمه لولي الدم من الأمور الأساسية في طقس"القودة"، أو لنقل هو الأمر الجوهري، إذ يمكن التجاوز عن أداء بعض العناصر الطقسية دون أن يبطل الطقس، أما بدون حمل الكفن فلا مجال للتصالح مع القاتل.
وحمل الكفن يعد عنصرا طقسيا متطورا، فالأصل هو ارتداء القاتل لقميص أبيض، ثم لفه بالكفن، ثم وضعه في نعش، ثم حمله علي تلك الوضعية حتي مسافة مائتي متر تقريبا من مكان تجمع الجمهور، وعندها يخرج قاضي الدم، ويقتاده إلي الداخل حيث يقوم ولي الدم بنزع الكفن، وتقديم جلباب للقاتل.
إن اختفاء لف القاتل في كفن، وحمله في نعش، يهدف إلي التخفيف من قسوة السلوك الطقسي، إلا إن الرسالة الرمزية تبقي ثابتة، وسواء تم لف القاتل بالكفن وحمله في نعش، أو قام هو بحمله فالمعني واحد، وهو الاعتراف بالموت عقابا لخطيئة القتل، والتقرب إلي عائلة القتيل بهدف العفو عنه.
و الكفن كما هو معروف رداء طقسي لا يُستعمل إلا في حالة الموت، وهو جزء أساسي من الطقوس الجنائزية، وارتداء أو حمْل أحد الأحياء للكفن يعني أنه في حكم الموتي، أو استعداده التام للموت تكفيرا عن خطيئته، وهو بذلك يحقق الهدف الذي خُلقت من أجله العقوبة، فإذا كان القتل يعد عدوانا علي قدسية الجسد، وإزهاقا للروح، فإن إقرار القاتل بخطيئته، والندم علي اقترافها، والاستعداد لتحمل مسئوليتها، يعني عدم استفادة القاتل معنويا من الجريمة، وأن خطورته قابلة للترويض، أو لنقل أنها منعدمة قياسا بأفراد يرتكبون جريمة القتل ولا يقبلون بحمل أكفانهم أبدا، ويرفعون شعار الموت أشرف من القودة.
وهناك اتجاهان في التعامل مع " كفن القودة" بعد انتهاء المهرجان الطقسي، اتجاه سائد وهو الاحتفاظ بالكفن بمعرفة عائلة القتيل، كدليل للأجيال القادمة علي إنهاء الخصومة الثأرية، فقد يتعرض أحد أفراد العائلة الذين لم يعاصروا " القودة" لعبارة تتحدث عن تفريط العائلة في الثأر، وهنا يكون الهدف من الاحتفاظ بالكفن تثبيتا لطقس القودة في أذهان الأجيال القادمة.
أما الاتجاه الآخر في التعامل مع " كفن القودة"، فهو دفنه في الجبانة، وهذا الاتجاه أقل انتشارا، ومرشح للانقراض، ويكشف أيضا عن الرسالة الرمزية ل " طقس القودة"، فهو يحمل أثر القاتل، ويرمز له، ويعبر عن موته الرمزي.
الجلباب الطقسي
بعد قيام قاضي الدم بتلقين القاتل وتفطيمه، يقوم بتجريده من جلبابه، ومساعدته في ارتداء جلباب أسود اللون، بوضعيَّة مقلوبة، تكون فيها الناحية الداخلية للثوب، هي الخارجية، ويستمر القاتل في ارتداء ذلك الثوب والسير به أمام جمهور القودة، إلي أن يقوم ولي الدم بنزع ذلك الجلباب الأسود دون حركة من القاتل، وإلباسه ثوبا آخر،أبيض اللون، بمعاونة قاضي الدم.
وهناك اتجاه يشترط في الجلباب أن يكون قصيرا، أسفل الركبة، وآخر أحدث زمنيا يفرط في هذا الشرط، وعند بعض قضاة الدم الذين نضعهم في إطار المدرسة الحديثة لا يعد الجلباب الأسود شرطا أساسيا.
ويعتمد الجلباب الطقسي علي ثقافة راسخة تمنحه الفرصة ليلعب دورا في مهمة التقرب، فليس الزي بشكل عام مجرد غطاء للجسد، يستر العورة، أو يحمي الإنسان من الشمس أو البرد، فالزي يكشف جوهر الفرد وأصوله، ويعبر عن الخصوصية،ويجعل اللامرئي مرئيا وبالذات ما هو نفسي، وهويكتسب قيمته من قيمة الجسد كأداة اتصال، فالزي يقوم مقام اللغة في التعبير عن أشياء كثيرة،
وتبلغ أهمية الزي حدا كبيرا في بعض الطقوس الاجتماعية والشعائر الدينية، فالعروس في ليلة الزفاف ترتدي زيا خاصا، ويحدث أن تتخلي العروس عن خطيبها لسبب من الأسباب، لكنها لا تتخلي عن فستان الزفاف لأي سبب من الأسباب.
وحتي فترة قريبة كان ختان الأطفال يرتبط بزي معين عبارة عن جلباب أبيض.
ويدخل الزي رحاب المقدس الديني، فهناك من الأعمال الصالحة ما لا بد معه من زي معين، فمن يؤدي فريضة الحج يرتدي ملابس الإحرام التي لها شروطها المعروفة.
و يلعب الجلباب الطقسي في " القودة" دورا في إبراز الرغبة الداخلية للقاتل في التقرب إلي عائلة القتيل، كما يلعب دورا في إبراز الجانب التنظيمي للطقس،،و يؤكد علي أن الممارسة لا تتم اعتباطيا بل من خلال ترتيب معين له مغزاه.
وترتبط الرسالة هنا بتحديد لون الثوب، وطريقة ارتدائه، فاللون الأسود هو لون الحزن والحداد، وهو رمز ظلامي يحيل إلي عالم الشر، واللون الأبيض رمز نوراني يحيل إلي عالم الخير، وهي رمزية معروفة، ومنتشرة في ثقافات كثيرة،كما يرتبط اللون الأسود بالقاتل الأول، حيث يروي في بعض كتب التفسير أن قابيل لما قتل أخاه اسودَّ جسده، وكان أبيض، فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، قال: بل قتلته فلذلك اسود جسدك.
وإذا عدنا لثياب طقسية مماثلة، مثل فستان الزفاف، وجلباب الطهور، نجدهما يعتمدان علي رمزية اللون الأبيض، واللون هنا يرتبط بالخصوبة، وبهذا يصبح اللون الأسود في جلباب" القودة" دالا علي العقم.
الجلباب الطقسي إذن يعبر عن الجانب اللامرئي من الإنسان، ويقدمه في مظهر محسوس، كأننا نطل في أعماقه، ونري بأعيننا مظهر النفس الأسود، وطريقة ارتداء الثوب بخلاف المعتاد، بحيث يكون باطنه خارجا وخارجه باطنا، تكشف عن موضع السواد الذي يحيل إليه الطقس، وهو الجانب المظلم من النفس والذي سول للإنسان قتل أخيه، هذا الجانب الداخلي هو المُستهدف في الطقس، والغاية هي تطهيره من خلال عناصر متعددة تصب في اتجاه واحد وهو إيلام النفس. ولا أدل علي تجسيد الوضع الأليم لمقدم القودة، من عبارة ( الموت ولا القودة)، والتي يتحصن بها كثيرون من القتلة، رافضين بموجبها قبول المصالحة الثأرية.
نزع العمامة
تعتمد الطقوس علي ممارسة أفعال معينة، كما تعتمد أيضا علي منع ممارسة أفعال معينة، وفي طقس القودة يُحرَّم علي القاتل ارتداء عمامة.
وهذا التحريم من العناصر الطقسية الأساسية، الثابتة والمستمرة حتي الآن، والمتواجدة في كل الحالات.
وحتي وقت قريب كان يُفرض علي القاتل قص شعره تماما، غير أن هذا الأمر اختفي الآن.
وتحريم ارتداء العمامة يلعب دورا في الإفصاح عن الرسالة الرمزية للطقس، فالعمامة جزء أساسي من الزي في مجتمع الثأر، له أهميته واعتباره، وهي أهمية متوارثة منذ زمن بعيد، ومستوحاة من رمزية التاج، وتنبع من ارتباط العمامة بالرأس، وهو أرفع الأعضاء البشرية مكانة، وكثيرا ما يُستخدم كرمز للإنسان، فنقول علي سبيل المثال "تساوت الرؤوس" أي تساوي الأفراد.كما أن وضع الرأس يمتلئ بالدلالات الرمزية التي تعبرعن أمور داخلية مختلفة، فالرأس المرفوع يعبر عن الكبرياء والكرامة والعزة، والرأس المنكسر، أو المطأطئ يعبر عن المهانة، والعار والخزي، وعندما نتحدث مجازا عن التصرف المشين نربطه بوضع الرأس في الطين، فنقول "تصرف فلان وضع رأسنا في الطين"، وهكذا.
ومن الأهمية الرمزية للرأس، تأتي أهمية غطاء الرأس ودلالاته الرمزية، وفي مجتمع "القودة" يعتبر جذب العمامة من الأمور المهينة، كما يعتبر نزع العمامة ورفعها إلي أعلي علامة من علامات الاعتذار عن تصرف يغضب الآخرين.
العمامة إذن جزء أساسي من مظهر الرجال، ويدل علي الشرف والمكانة، وتحريم ارتداء العمامة يعني تجريد القاتل من تلك الخصائص الرمزية التي تحملها العمامة. افتقاد الحماية، وفقد المكانة.
كما أن تحريم ارتداء العمامة يلعب دورا في تمييز القاتل عن سواه، وهذا التمييز يؤكد دلالة خروجه علي الجماعة بارتكابه جريمة القتل، وهو ما يضعه في دائرة النجاسة، وعندما يخرج منها بالعفو، يقوم ولي الدم بلف عمامته، إعلانا بعودته مرة أخري إلي وضعه الطبيعي في المجتمع، بعد أن تخلص من نجاسة سفك الدماء.
خلع الحذاء
سير المرء حافيا يعد في المعني العام دليلا علي القذارة، وهو في دلالة أخري دليل علي ضِعة المكانة الاجتماعية، و في ثالثة يرتبط بأفعال لها سمة القداسة.
ولا تبتعد الرسالة الرمزية في الطقس عن تلك الدلالات الثلاث، فالقاتل أولا: رمز من رموز القذارة، والقذارة هنا ترتبط بالنفس لا بالبدن ونحن نصف من يأتي فعلا منحطا بالقذر، والقتل من أكبر الأفعال المنحطة، والنظرة إلي القاتل بوصفه كائنا نجسا نظرة عالمية، والعنصر الطقسي هنا يبرز هذا المعني، وغاية الطقس هي تطهير القاتل من دناسة الدم، والعبور به من الوضع المدنس، إلي الوضع الطبيعي.
وفي إطار الدلالة الثانية نجد القتل يقوم علي فكرة فرض المكانة بالقوة، فالقاتل يريد أن يثبت بفعلته أنه الأعلي، وصاحب القول الأخير، والقادر علي خفض مكانة الآخر حتي العدم.
وياتي العنصر الطقسي هنا ليلعب دورا في هدم تلك الفكرة، فالقتل لا يرفع المكانة، بل يهدمها، وها هو القاتل يمشي وحده بين الناس حافيا، فيما يتطلعون إليه وهم في كامل زينتهم.
وأخيرانجد سير القاتل حافيا لا يبتعد عن تقديس الفعل، فالمصالحات الثأرية من أكثر الأعمال التي يُنظر إليها بتقدير وإجلال، يبلغ جد القداسة الاعتبارية، إن لم تكن القداسة الفعلية، علي نحو ما يظهر في تقديس صلة الدم.
الحبْل والشاش
في طقوس "القودة" يتم اقتياد القاتل بشكل معين، حيث يتم لف الشاش حول رقبته ويقوم قاضي الدم بإمساك الشاش، والسير أمام القاتل، داخل حلقة بشرية طولية، وتمضي المسيرة بينا يقف علي الجانبين عدد كبير من الجمهور.
والأساس في هذا العنصر الطقسي هو استخدام الحبل لا الشاش، وما شاهدناه كان قاصرا علي استخدام الشاش، وهو الشاش العادي الذي يُستخدم كعمامة.
والمحتوي الرمزي لهذا العنصر الطقسي يصب في دلالتين رمزيتين، الأولي تجسد هيمنة أهل القتيل علي القاتل هيمنة كاملة، والأخري تجسد القاتل في هيئة البهيمة.
في الدلالة الأولي يتحول القاتل من فضاء القوة، حيث فرض إرادته عن طريق العنف، إلي فضاء الضعف، حيث الاستسلام الكامل لإرادة عائلة القتيل، لتفعل به ما تشاء. وفي ظل هذا الاستسلام لا يُسمح له حتي بالتعبير عن إرادته الحرة، والسير بشكل عادي يدل علي ذهابه طواعية، بل لا بد من اقتياده بشكل طقسي قرباني يضعه في هيئة أسير يتوقف مصيره علي إرادة السلطة المهيمنة في الطقس، وهي سلطة ولي الدم.
وفي الدلالة الرمزية الأخري نجد شد القاتل بالحبل أو الشاش يرتبط بالجانب الداخلي المظلم، منبع تحول الإنسان إلي وحش قاتل، فلولا الرغبات البهيمة لما طاوعته نفسه علي سفك الدماء. وهكذا يتحول الشاش من غطاء للرأس إلي حبل يعبر عن وضع حيواني.
القران الطقسي
لم أجد أفضل من كلمة القران لأطلقها علي تلك اللحظات الطقسية المهيبة، التي يلتقي فيها القاتل بعائلة القتيل، اللحظة التي تمثل ذروة الدراما الطقسية، والتي طالت مقدماتها و أضنت الأجاويد حتي توصلوا إلي التصالح، اللحظة التي ينتظرها جمهور المهرجان الطقسي بفارغ الصبر، و التي تجسد قيمة العفو والتسامح في أبهي صورها، وتعلي من شأن الحفاظ علي الحياة الإنسانية مهما كانت المبررات. وتنفي كون العنف المضاد هو الحل الوحيد لمشكلة العنف وما تثيره من أزمات.
فكما أن الكلمة ترتبط بطقوس الزواج، كما هو الحال في مصطلح " عقد القران"، ينبغي أن ترتبط أيضا بطقس " القودة"، فالطقسان مرتبطان برؤية واحدة.
وغاية طقس "القودة " هي الجمع بين القاتل وعائلة القتيل بعد أن كان هذا اللقاء في ظل قانون الثأر محرَّما، وتلك الحرمة يمكن أن تكون أشد عند أقرباء القاتل من حرمات دينه، فالشخص في ظل الثأر يمكن أن يقترف كبيرة من الكبائر التي حرمها الله، لكنه يرفض بشكل حاسم أي لقاء مع القاتل.، وإن حدث المستحيل وفعل، فالويل له من أفراد عائلته، وفي الغالب سوف يتخذون موقفا لا يتخذون مثله عند انتهاك هذا الشخص لحرمة دينية.
لقاء "القودة " إذن يشبه لقاء الرجل بالمرأة عند الزواج، فبعد أن كان اللقاء محرما يثير استهجان الجميع، ها هو يتم بمباركة الجميع. وإذا كان القتل يوجب القتل ثأرا، فإن العلاقة الجنسية قبل الزواج توجب القتل في مجتمع الثأر.
عندما يدخل القاتل إلي مكان تواجد عائلة القتيل، لا يتقدم نحوهم بشكل عشوائي، بل تجري الأمور وفق نظام وترتيب، يعتمد علي أربعة عناصر هي الوقفة، والتفطيم، والتلقين، والتكبير.
(أ) الوقفة: عند وصول القاتل إلي المنصة التي يتواجد عليها ولي الدم، يكون كل الجمهور الحاضر في حالة وقوف، وهنا يقف قاضي الدم بين القاتل وولي الدم، وينتظر دقائق معدودة، قبل أن ينتقل إلي العنصر التالي.
وتقوم تلك الوقفة بلعب عدة أدوار، منها الحفاظ علي إيقاع الطقس، فالأمور ينبغي أن تتم بهدوء وروية، وشيء من الجلال. وثانيها: ضبط حركة الجمهور المتواجد، في ظل تطلع الجميع علي كثرتهم، واختلاف أماكنهم إلي رؤية الموقف المؤثر. وثالثها: ترك مساحة زمنية لولي الدم لضبط نفسه، وهو يشاهد القاتل لأول مرة في الغالب بعد واقعة القتل، وتلك المساحة تجعله علي الأقل يظهر بمظهر المضحي لا الملهوف علي الصلح.
(ب) التفطيم
بينما يمسك قاضي الدم بالقاتل، يتوجه بالحديث إلي ولي الدم تلك المرة، وبنفس الأسلوب حيث الجمل القصيرة المركزة، والنبرة القوية الحاسمة، ويقول: نتقدم إليكم حاملين الكفن، معلنين بذلك عن ندامتنا عن الحدث المؤسف، وهذا هو رجلكم، إن شئتم قتلتموه، وإن شئتم عفوتم عنه، واعلموا أن "القودة باللي شاددها مش باللي شايلها".
وتلك العبارات ليست نصا ثابتا في كل المصالحات الثأرية، ففي بعض المصالحات تختلف الصيغة، لكنها تعبر عن نفس المضمون، وفي بعض المصالحات يتم تجاوز هذا العنصر الطقسي. وقد يرجع ذلك إلي اعتبار أن مضمون" التفطيم" حاضر في أذهان الحضور، إلا إننا نذهب إلي أن ذلك "التفطيم" يلعب دورا مؤثرا، فهو يثري المشهد الطقسي جماليا، ويلعب دورا في تأكيد مغزي " القودة"
" التفطيم " هنا يؤكد علي أن الصلح رغم الاتفاق عليه لم يعد نهائيا، وأن القاتل يتقدم لا بطمأنينة من انتهي من أزمته مع عائلة القتيل، بل يتقدم لينهي أزمته مع نفسه، والتي نشبت مع اقترافه لجريمة القتل، فمعني التقدم بالأساس هو الإعلان عن الندم، والاستعداد لتحمل العواقب، حتي لو أدت إلي قتله، وفي هذا الموقف إدانة واضحة للعنف، لا تجعل القاتل خارجا علي نظام الجماعة، وإن مارس فعلا خرق النظام، فالاقرار بخطأ الفعل إعلاء من شأن النظام، والذي يهدف بالدرجة الأولي إلي الحفاظ علي الأرواح لا إزهاقها.
كما أن " التفطيم" يؤكد علي أن الكلمة الأخيرة لولي الدم، وتلك النقطة جوهرية في وقف تفشي العنف، ففي كل حالة عنف رغبة عند أي طرف في أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة التي تتخذ شكلا من أشكال العنف سواء كان لفظيا، أو بدنيا، ولما كانت الرغبة لاتعرف حدا معينا، بل يتسع نطاقها دائما، فإن حالة العنف تمتد إلي ما لا نهاية، فكلما سدد أحد الطرفين ضربة، بادر الآخر بالرد، ولا تتوقف الحالة حتي يتنازل طرف عن رغبته في أن يكون صاحب الكلمة الأخيرة، وطقس القودة في تقديرنا يهدف إلي توفير مناخ نموذجي لتأتي الضربة الأخيرة في صورة طقسية لها هيبة، ورهبة، وحرمة توقف العنف.
(ج، د) التلقين والتكبير :
بعد توجيه قاضي الدم لكلمته " التفطيمية " لولي الدم، ومن نفس موضعه بين القاتل وولي الدم، يطلب من القاتل أن يردد خلفه ما يقول علي النحو التالي :
اقبلوني لوجه الله ..... ورسوله ..... والأجاويد...... والحضور.
فيردد القاتل خلفه، بحيث تخرج العبارات واضحة لا تلعثم فيها، وإلا أعاد التلقين.
ثم يتوجه قاضي الدم إلي ولي الدم ويأمره بأن يردد خلفه:
قبلناك لوجه الله..... ورسوله..... والأجاويد..... والحضور.
وقد تختلف كلمات التلقين من مصالحة إلي أخري اختلافا طفيفا، كاستبدال كلمة اقبلوني بكلمة تحمل معني العفو.
وفور نطق ولي الدم بالكلمة الأخيرة تنطلق صيحات التكبير من الحضور في صيغ معينة مثل، " الله أكبر ولله الحمد"، ويقوم القاتل بعدها باحتضان ولي الدم، وينادي القاضي علي بعض أقرباء القتيل، ليحتضنوا القاتل.
والطقس هنا يشبه ما يجري في طقس " كتب الكتاب" حيث يجلس القاضي ( المأذون) بين العريس ووكيل العروس، ويأمرهما بأن يرددا خلفه عبارات معينة، نعرفها جميعا. وفور الانتهاء من التلقين، تنطلق الزغاريد.
ولفظ "القاضي" في مجتمع الثار لا يُستخدم إلا مع شخصين، الأول هو الذي يتولي النظر في الخصومات، سواء كان رسميا أو عرفيا كقاضي الدم، والآخر هو الذي يقوم بعقد القران،، وهو المأذون، والذي يطلق عليه في مجتمع الثأر اسم القاضي.
كلمة القاضي إذن تشبه قطعة عملة، علي وجهها الأول صورة العنف، وعلي وجهها الآخر صورة الزواج.
والخاطب والقاتل كلاهما يطلب القرب، وكما يبدأ الزواج ب قراءة الفاتحة، تبدأ القودة بقراءة الفاتحة، وكما يوجد في الزواج بذل للمال من خلال تقديم المهر والشبكة، يوجد في القودة بذل للنفس من خلال تقديم الكفن، وكما أن مكان التقدم للزواج هو مكان عائلة العروس، كذلك مكان التقدم بالكفن هو مكان عائلة القتيل. وولي أمر العروس في الزواج هو نفسه ولي الدم في القودة، وكما تطلق الزغاريد فور الموافقة علي الزواج، تنطلق التكبيرات فور النطق بكلمة العفو.
نحن في طقس القودة إذن، أمام الوجه الآخر للخصوبة، ففي الزواج ينفتح الباب علي الإنجاب، وفي طقس القودة ينفتح الباب علي منع إزهاق الروح، من خلال تقديم بديل لعقوبة لقتل.
الحيوان البديل
في طقوس المصالحات الثأرية يتم استخدام الحيوان كقربان بديل حيث يتم ذبح خروف أو عجل، فداء للقاتل. وجدير بالذكر أن ذلك العنصر الطقسي قد اختفي في السنوات الأخيرة، والطريف أن آخر واقعة تابعناها حدثت في القاهرة بناحية عزبة النخل منذ عامين، وأقيم مهرجانها الطقسي في مركز شباب المرج.
وقد احتفظت لنا السينما المصرية بصورة تسجيلية للطقس في فيلم " دماءعلي النيل" .
ويقوم والطقس هنا بوظيفتين ، الأولي تؤكد علي الثأر بوصفه علاجا نموذجيا لجريمة القتل، صحيح أن طقوس " القودة" تؤكد علي تفضيل الإبقاء علي حياة القاتل، لكنها تقتله رمزيا، أو تقتل النوازع البهيمية التي يحملها والتي دفعته للقتل، فمادام القتل لم يصبح طابعا أصيلا فيه، أو لم يحوله إلي كائن شرس يسعي إلي المزيد من القتل، ومادام أبدي استعداداه للتطهر من جريمته، فهو يحمل شيئا من عناصر الخصوبة، ومن ثم يجدر الحفاظ علي بقايا الخصوبة في داخله، والتوجه بالقتل لعناصر العقم التي دفعته للقتل، ويأتي ذبح الحيوان هنا ليؤكد ذلك القتل الرمزي بصورة واقعية تجسد الفكرة بشكل ملموس.
أما الوظيفة الأخري فهي إبراز هيبة ولي الدم، ورفع مكانته، وقدرته علي القتل، ولا أدل علي ذلك من إمساكه بالسكين، بينما يتمدد القاتل بجواره، وبدلا من ذبحه يقوم بذبح الحيوان البديل.
والموقف هنا يأخذنا إلي فكرة المقدس، فولي الدم في ذلك الوضع الطقسي يبدو كما لو كان كيانا مقدسا، فها هو الإنسان (القاتل) يتخلي عن وضع جسده الطبيعي القائم كما هو حال الحاضرين، ويرقد علي الأرض في وضع طقسي مستسلما لمشيئة ولي الدم، وهذا الوضع الانبطاحي يفوق في التعبير عن التذلل وضع الركوع والسجود في الصلاة، وولي الدم هنا وهو ينحرف بالسكين باتجاه الحيوان البديل يذكرنا بعبارة "وفديناه بذبح عظيم ". ولا أعتقد أننا نبالغ عندما ننظر للأمر كما لوكان تجسيدا لتلك العبارة بلغة الطقس الرمزية. أو تجسيدا لفكرة النمروذ التي تدلل علي ألوهيته الوثنية : "أنا أحيي وأميت"
الدمج الطقسي
والميلاد الرمزي
القران الطقسي يمثل انعطافة مضادة، تعيد الشخص إلي وضعه الطبيعي، من خلال عناصر طقسية مضادة، حيث يقوم ولي الدم بتجريده من الجلباب الأسود المقلوب، ومساعدته في ارتداء جلباب آخر، ثم يقوم ولي الدم أيضا بتغطية رأس القاتل ب ( طاقية) ثم لف الشاش حولها، ليصبح القاتل معمما، ثم يقوم ولي الدم بعد ذلك بتقديم حذاء يرتديه القاتل، ليظهر مرة أخري في المظهر الطبيعي، الذي يعني إعادة دمجه في المجتمع مرة أخري.
لقد عاني القاتل أثناء العناصر الطقسية التي تمثل موته الرمزي، وها هو يربح في النهاية ميلادا رمزيا جديدا.
وفي فترة سابقة كان الدمج يشمل انفصال القاتل عن عائلته والاندماج في عائلة القتيل، علي النحو الذي يجعله واحدا منهم، فيقومون بتزويجه، ومنحه سكنا، والدفاع عنه في حالة العدوان عليه، وهكذا يصبح واحدا منهم بشكل فعلي.
تحريك العزاء
وختام الطقس
يعد العزاء من العناصر الجنائزية في مجتمع الثأر وأكثرها ثباتا، وهو لا يرتبط فقط بمجرد تعزية أهل المتوفي، بل يعد مقياسا لتقدير قيمة الجماعة ومكانتها، ومن ثم فإن الشعور بالأسف من عدم قيام أحد الأشخاص بتقديم واجب العزاء يصل حد الخصومة، ويعد نوعا من المقاطعة التي يجب الرد عليها بالمثل علي الأقل. وهو نفس المنطق العقابي الذي يهيمن علي الممارسات الثأرية، لأنه يعبر عن نظام اجتماعي متكامل، ومتداخل، وتحكمه مبادئ واحدة.
وعند سقوط أحد الأفراد قتيلا، فإن أول إجراء يتم اتخاذه هو منع العزاء، ويعني رمزيا تعليق طقوس الجنازة، كما يعني إبراز نية وعزم عائلة القتيل علي القيام بالثأر، وهكذا يظل العزاء معلقا، إلي أن يتم الثأر، أو تتم المصالحة الثأرية.
وبعد إنهاء مهرجان القودة الطقسي، والعفو عن القاتل، تقوم العائلة بتلقي العزاء في قتيلها، وذلك مساء يوم "القودة "، لمدة يوم واحد فقط. ومع إنهاء تعليق العزاء تلتقي طقوس القودة مع الطقوس الجنائزية التقاء واحدا، ينم عن الطبيعة المشتركة لعناصرهما الطقسية، واندراجهما معا في إطار طقوس العبور.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.