الثأر في الصعيد كرامة وعزة ويٌلحق العار بمن يتهاون فيه. العائلات الضعيفة تتبع ظاهرة "الكري" خوفاً من العار بين الناس. "القودة" تأد الفتنة وتُنضب بحر الدم في الصعيد. المرأة الصعيدية هي من توقد نار الإنتقام في العائلة. قانون الصعايدة فوق قانون الدولة في الأخذ بالثأر. الإسلام يرى الثأر من الشرع إذا كان بشروطه ويجوز العفو عن القاتل. رَحى الثأر في الصعيد لا تتوقف ولا يجف دمها، وتكاد لا تسكت أفواه البنادق التي تبحث عن غريمها، لرد شرف حاملها، وشرف عائلات بأكملها - ترى آن الثأر هو الحل الوحيد لرد الاعتبار في حالة وقوع قتيل عندها - . والثأر هو السبيل لرفع الرأس مرة اخرى بين الناس مهما طال الزمان والسنين، فهو لا يسقط بالتقادم بين العائلات، سواء قضى القاتل حكماً بين القضبان، أو فر هارباً بين الجبال، ومختفياُ بين الأنام، لأنه سيأتي اليوم الذي يؤخذ بالثأر منه أو من إبنه أو أحد أبناء عمومته. تجولت شبكة الاعلام العربية "محيط" في بعض قرى ومحافظات الصعيد، لبحث هذه الظاهرة المتوارثة منذ قديم الأزل عند الصعايدة، وتعرفت على العادات والتقاليد المتوارثة في قضية الثأر، وكيف يتم العفو عن القاتل، وما هي ظاهرة "القودة" ، "الكري" في حالة العائلة الضعيفة. الثأر عند المرأة الصعيدية فالمرأة الصعيدة لها دوراً كبيراً في تحريك العائلة للأخذ بالثأر، حيث تلعب الدور الأبرز في هذه المشكلة، فتربي طفلها منذ الصغر كي يأخذ بثأر أبيه حين يكبر، وتوفر له تدريباً على السلاح لتصبح قضيته الأولى في حياته هي الأخذ بالثأر، وكلما زاد عدد من قتلهم من عائلة "العدو" كان ذلك دليلاً على رجولته، بل إن بعض النساء ترفض تقديم الطعام لابنها معتبرة أنه لا يستحق ذلك قبل أن يأخذ بالثأر ويعيد شرف العائلة الذي انتهك، ومن هنا فلا أحد يملك شجاعة رفض الأخذ بالثأر حيث يُعد في هذه الحالة عاراُ على أهله. طقوس الثأر "السواد" هو اللون الوحيد الذي تلبسه النساء في عائلة القتيل حتي يتم الأخذ بالثأر، فيتبدل اللون الأسود إلى أبيض، أما الرجل فيخلع عمامته بين الناس، أو يبدل لونها إلى اللون الأسود ويطلق لحيته، حتي يتم المراد ويأخذ بثأر المقتول من عائلته. ولا ننسي العدودة -أغاني محددة- التي تطلقها النساء في الصعيد علي القتيل مثل "فين يا وعد يا مقدر .. دى خزانة وبابها مسدر.. المعركة عيلة.. والقتيل بيت"، ويخيم الحزن علي العائلة والبيوت المجاورة لها، وإن خطب أحد بنات العائلة فلا يقام لها فرح ولا يفتل لها الكعك وتزف العروس في صمت، وتحترم جيران عائلة القتيل الظروف وتحتفل بمناسبتها في سكوت تام ولا يخبز البسكوت، وكل انواع الطعام الدالة علي الفرح والسعادة إحتراماً لمشاعر العائلة المنكوبة. لاعزاء قبل الثأر جري العرف في الصعيد على أن القتيل لا يقام له عزاء، والبعض يطلي قبره بلون أسود حتي يؤخذ بثأره، كم أنهم يحاولون التكتيم على الواقعة وعدم إبلاغ الشرطة، بل ويرفضون أن يشيروا إلى الجاني الحقيقي -القاتل- ويقوم رجال عائلة القتيل بالسير في جماعات ويطلقون لحاهم، ويبدأون في التجهيز للأخذ بثأرهم حتي يبرد دم قتيلهم، بحسب زعمهم . العزة في البندقية في الصعيد القانون مختلف عن قانون الدولة، لأنهم يرون العزة في الأخذ بالثأر حتي لو دخل القاتل السجن، فهذا ليس بديلاً عن الأخذ بالثأر منه أو من أحد الفتية في عائلته، مهما طالت مدة عقوبته، فالثار رمز الرجولة عند الصعايدة، ولابد أن تستعيد العائله عزتها المسلوبة منها به، ومن هنا يعتبر أهل الصعيد الثأر شرفا للإنسان ورفعة لمكانته وسط الناس، حتى إن العار ليلاحق من لا يفكرون في "الأخذ بالثأر" حتي لو كانت عائلة ضعيفة أو لا يوجد فيها رجال. ظاهرة "الكري" من الفخر أن تقوم عائلة القتيل بقتل أكثر من شخص كدليل علي الرجولة والعزة، أما في حالة العائلة الضعيفة فإنها تلجأ إلى بعض الأشخاص الأقوياء الغرباء، للأخذ بثأرهم مقابل مبلغ من المال، فيما يعرف بظاهرة "الكري" وهي أن تقنع شخصاُ قوياً للزود عنها وإعادة عزتها.وهذا النوع ليس شائعاً في الصعيد إلا فيما ندر، لأن الصعيد مشهور بالرجولة، ونادراً ما تقوم عائلة ب" كري" شخص بدلاً عنها، ومن يتبعون هذا الاسلوب لا يجدون عيباً في "الكري" لأن العيب عندهم في ترك ثأرهم رافعين شعار "العزة في أفواه البنادق". قوانين الثأر أخذ الثأر في الصعيد له قوانين خاصة بالصعايدة، ومنها أن من يأخذ بدم الأب إبنه، وإذا لم يكن له ولد يقوم الإخوة الأشقاء ومن بعده الإخوة غير الأشقاء ومن ثم أبناء عمومته، أو أبناء عمومة أبيه بأخذ ثاره، ومن ضمن قوانينهم التي تفوق قوانين الدولة نفسها، أن النساء لا تدخل في دائرة الصراع، ولا يمكن أبداً أن يؤخذ الثأر من سيدة، ولكنها تكون وقوداً محركاً في عائلة القتيل، ومحرضاً لأبنائها للأخذ بالثأر. حمل الكفن قد يسعى أهل الخير من العقلاء والكبار لإصلاح ذات البين بين عائلتين لتعفي عائلة القتيل عن القاتل فيما يعرف "بالقودة" وهي أن يحمل القاتل الكفن -وفي حالة موته يحمل الكفن إبنه أو أخوه- بين يديه، وسط جموع من الناس في البلد والأمن ووسط حراسة أمنية مشددة.ومعنى "القودة" اقتياد أهل القتيل للقاتل، مع لف عمامة حول رقبته وسحبه منها كاقتياد الشاة ليفعلوا به ماشاءوا إن أرادوا العفو، أو دفع دية، أو رفضوا الصلح، وفي الغالب القودة تكون للعفو عن القاتل، لأنه ارتضى أن يكون ذليلاً بين الناس ويتم اقتياده كالشاه. طقوس القودة طقوس القودة فى معظم قرى الصعيد متشابهة، فهي تبدأ بأن يمشي القاتل مسافة تتراوح مابين 500 إلى 1000 متر فى شارع رئيسى بالقرية فى طريقه إلى دوار أهل القتيل ويمشى بجواره رجل دين عادة مايكون هو البادئ بطرح مسألة الصلح وعضوان من البرلمان وخلفه مأمور المركز أو مدير أمن المحافظة، ويستمر المشى فى شوارع القرية والقاتل حليق الرأس مادا كفنه -قطعة من القماش الأبيض- فوق يديه الممدودتين للأمام.. وخلفه يسير أهل عائلته، وعلى الجانبين المعازيم من عائلات أخرى والمتفرجون من أهل القرية حتى يصل إلى "ولى الدم" وهو غالبا شقيق القتيل أو والده أو عمه. كبش الفداء هناك تقف العائلة المدينة بكافة رجالها ويتقدم القاتل إلى كبيرهم، مقدماً كفنه له، وأحيانا مايكون مع الكفن خروف يتم ذبحه بجوار رأس القاتل بعد أن ينام ممدداً بجواره، ثم يتسلم ولي الدم الكفن، ويكبر ثلاث مرات وخلفه جميع المحتشدين، ويردف "عفوت عنك" ثم يقوم بتسليم القاتل حذاء وعمامة جديدين، وخرطوشة سجائر لتوزيعها على الحاضرين، وتبدأ بعد ذلك مراسم ما يسمى بالتوجيب، فيقام العشاء أو الغداء، حسب وقت تنفيذ القودة فى دوار عائلة محايدة. الدم يروي العطش يروي محمد عبد النور -أحد شهود العيان في الصعيد- الذي شهد واقعة حقيقية لظاهرة الثأر في قرية كومير إحدى قري محافظة الأقصر بين عائلتين خلال تقسيم أراضي وضع اليد في الصحراء، فحدث نزاع ما بين طرفين في عائلتين فبادر أحدهما بضرب اّخر علي رأسه بشومة حتي وقع صريعا غارقا في دمه راوياً أرض الصحراء. فقام أهل القتيل بدفنه بدون عزاء ورفضوا إبلاغ الشرطة عن القاتل وعزموا أن يأخذوا بثأره بأنفسهم، وبعد السؤال علموا انه فار بأحد الجبال ومعه بعض افراد عائلته للاحتماء بهم، وإذ بعائلة القتيل تقوم بالإختباء بين الزروع والقصب للفتك بهذا القاتل لتقيم العزاء لأخيهم المقتول وتعيد شرف العائلة ورجولتها بين الخلق وجاءت اللحظة المناسبة عندما رأوه وللوهلة الاولي أصابوه بطلق ناري في رأسه وأسقطوه جثه هامدة. وما أن تم المراد ارتسمت علامات النصر علي وجوههم رافعين تاج العزة فوق رؤسهم، لكن واحد من العائلة الغريمة ظهر بين القصب ليبادلهم نفس الطلقة ويذيقهم نفس كأس الذل، فنجد قتيلين وقعا فوق بعض من عائلتين في نفس اللحظة وفي نفس المكان، ليروى القصب بالدم بدلاً من الماء. مؤكداً أنه إلى الاّن لم ينضب بئر الدم، الذي يمثل الصراع بين هذه العائلتين، وأصبحت مبادلة القتلى هي عنوان حياتهما إلى الاّن. رأي الدين يرى التشريع الإسلامي أن القصاص هو شرع رباني لقوله تعالي "ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب"، ولا يكون جريمة أن تأخذ بثأرك، طالما أن هناك ضوابط حاكمة، فالدافع إلى الثأر ليس إجراماً ولا حباً فى الجريمة، وإنما هو محض انتقام فى نظر المقدمين عليه، وعودة للشرف والعزة.