ظل التجريب من بدايته يلح علي المبدع ويشكل له حالة من القلق والتوتر لإيجاد صيغ وأشكال جديدة لم يتعود عليها المتفرج من قبل، وإذا كان التجريب قد بدأ في مصر بمغامرات فردية لعدد من رواد الكتابة المسرحية علي النص المسرحي، متمثلا في مسرحية «ياطالع الشجرة» لتوفيق الحكيم مستلهما من مسرح العبث، ومسرحية «الفرافير» ليوسف إدريس الذي قدم لها ثلاث مقالات نشرت في مجلة الكتب تحت عنوان «نحو مسرح عربي» ثم مسرحية «مأساة الحلاج» للشاعر صلاح عبدالصبور والتي يحاكي فيها «ت.س.إليوت» في مسرحية «جريمة قتل في الكاتدرائية» ومسرحية «ياسين وبهية» لنجيب سرور مستخدما الحكايات الشعبية وهذا المأثور الذي لا ينضب أبدا مجربا في بنية النص الشعري المتمسرح، ومسرحية «ليالي الحصاد» لمحمود دياب مجربا فيها الشكل الريفي متمثلا في السامر الشعبي، ثم بعد ذلك «محمد الفيل» في الزار داية وندابة، مستلهما مظاهر التراث الشعبي في شكل جديد للنص المسرحي، وأيضا الكاتب «محمد سلماوي» في نص «فوت علينا بكرة واللي بعده» .. متأثرا بمسرح العبث الأوروبي .. وغيرهم في أشكال مسرحية أخري تداعب وجداننا ونحن نعايش لحظات الإبداع لدي هؤلاء المجربين إذ أنهم لم يأتوا بهذه التجارب من فراغ فني - أدبي ، ولكن جاءت تجاربهم متشبعة بعلم ومعرفة بأسرار هذه اللعبة التي تستوعب في قالبها الأدبي صورا عديدة ورؤي متجددة في محاولة للانطلاق نحو مسرح يعبر عن المجتمع ذاته متضمنا مشاكل هؤلاء البسطاء «العامل، الفلاح، الحرفي، البائع المتجول، الداية، الندابة» وغيرهم. تجربة السامر أيضا كانت هناك تجارب مسرحية أخري في الهواء الطلق مثل تجربة مسرح السامر وعرض «حسن ونعيمة» ل«عباس أحمد»، وتجربة مسرح الفلاحين التي قادها الفنان «عبدالعزيز مخيون» بقرية زكي أفندي وتجربة «هناء عبدالفتاح» بقرية دنشواي، وتجربة مسرح السرادق وعرض «يحدث في قريتنا الآن» علي ضفاف بحيرة قارون الذي يطرح صراعات الصيادين من أبناء القرية، وقد قاد تلك التجربة الراحل «صالح سعد» وكذلك تجربة مسرح الفلاحين في عرض سهرة ريفية في قرية «شبرا باخوم» بالمنوفية والتي قادها الفنان «أحمد إسماعيل» وتجربة مسرح الجموع وعرض «رجال الله» أمام ساحة مسجد المرسي أبو العباس وقادها الفنان «عبدالغفار عودة» وأيضا كانت هناك تجارب في أماكن مغلقة مثل تجربة مسرح المقهي والتي قادها الفنان ناجي جورج والفنانة «ليلي سعد» في قهوة المعلم أبو الهول ومسرحية «أنني اعترض» وتجربة مسرح الشارع التي خاضها الفنان «محمد عباس» وتجربة مسرح الفنان بمقهي «استرا» بميدان التحرير والتي قادها الفنان عبدالرحمن عرنوس وفي الأداء الحركي كانت تجربة «اللعبة» للراحل «منصور محمد» وكل هذه التجارب كانت مقدمة لتأصيل حركة تجريبية فعالة علي خريطة المسرح المصري. المهرجان التجريبي وأيضا قبل بداية المهرجان التجريبي الدولي الذي يقام علي أرض مصر في أول سبتمبر من كل عام، وعندما بدأت فعاليات المهرجان التجريبي كان الحصاد من بداية المهرجان عام 1988 حتي دورة عام 2009 بالنسبة للعروض المصرية المشاركة علي مدار سنوات المهرجان «470» عرضا مسرحيا، أما العروض الأجنبية التي شاركت في المهرجان فقد بلغت «698» عرضا مسرحيا، وإذا ما حاولنا أن نجمع كل العروض التي شاركت في المهرجان منذ بدء فعالياته سواء مصرية أو عربية أو أجنبية سنجدها 470+326+698= 1494 عرضا مسرحيا، ولنا أن نتخيل معا كم هذه العروض والتي يفترض أنها تشكل في مضمونها الفني تيارا مسرحيا تجريبيا، تلك العروض التي تختلف من حيث الشكل المضمون والمعالجات المتعددة تبعا لتعدد أوطانها والتي تمثل عددا كبيرا من المجتمعات المتباينة في درجة انفتاحها أو انغلاقها. حيث تضمن المهرجان عروضا من مصر، الأردن، تونس، سوريا، السعودية، الكويت، لبنان، قطر، فلسطين، الجزائر وغيرها .. فضلا عن ذلك التباين في الفكر والثقافة فيما بينها وبين تلك العروض القادمة من الدول الأجنبية المشاركة وبين بعضها البعض مثل السويد، الدنمارك، البوسنة، انجلترا، أمريكا، إيطاليا، باكستان، فرنسا، تركيا، بولندا، ألمانيا وغيرها من الدول الاشتراكية والرأسمالية والشيوعية بخلاف الدول الإسلامية. شهادة فنان وأثناء ما كنت أتجول بين المجلات المتخصصة والنشرات التي كانت تواكب المهرجان توقفت أمام شهادة للفنان «عبدالكريم برشيد» وهو يقول المطروح الآن خطاب آخر ووعي آخر وحساسية أخري، والرؤية العلمية لواقع المسرح فنحن الآن نتأمل المسرح كأنه جذع مسرحي واحد، وأنا شخصيا أري أن الجذع المسرحي العربي مختلف تماما عن الجذع اللاتيني اليوناني، لأن ذلك الجذع يبدو كأنه يقوم علي استحضار الموتي أو تحضير الأرواح، حيث يقوم الفعل المسرحي علي التقمص وبالتالي علي وجود زمنية زمن المسرح وزمن المحكي عنه، وهناك مكانان هذا المكان المسرحي وذاك المكان المحكي عنه، أما المفهوم المسرحي كما يتمثل عبر تمظهرات احتفالية شعبية تعبر عن روح المسرح كما عاشه أو كما بحث عنه الإنسان العربي عبر التاريخ فيقوم علي أساس التلاقي والاحتفال والتمازج والمشاركة، وبالتالي فلا وجود فيه لعملية استحضار أرواح كروح هاملت أو ماكبث ولكنه حالة، نحن الآن - هنا- نقوم بعملية ما يمكن أن نسميه نوعا من contrat the atral العقد المسرحي عوضا عن العقد الاجتماعي، هناك عقد بيننا جميعا نتفق علي أننا نلعب ونتطارح بموجبه قضايا تهمنا جميعا، وبالتالي نحن المتلاقين نسهم في هذا العمل، وليس الأساس هو هذه اللعبة لأننا نعرف سلفا أنها لعبة هذا ليس هاملت وذاك ليس ماكبث، ولكن الأساس هو معني ما نقوم به هذه هي روح التجريب المسرحي العربي، وهي الروح التي انتبه إليها المسرح الغربي في القرن العشرين، فالمسرح الغربي جدد دماءه بالتلاقح مع هذا الجذع السيوثقافي المشرقي الذي هو احتفالي بالضرورة، فآرتو يرجع إلي مسرح جزيرة بالي وبريخت يرجع إلي المسرح الصيني وجروتوفسكي يرجع إلي الزين واليوجا، كل المسرحيين التجريبيين في العصر الحديث قدموا تجاربهم بالتلاقح مع مسرح آخر، مع جذع سيوثقافي آخر ذي مميزات أخري مغايرة. مفاهيم ورؤي وهذه الدعوة تمثل امتزاج بعض المفاهيم والرؤي المتحررة المتقدمة والطموحة لمعالجة بعض القضايا المحلية أو العالمية من خلال أطر فنية جديدة، ولكن إن كانت هذه الدعوة تمثل محورا مسرحيا يجسد شكلا جديدا لرؤي مجموعة من الفنانين الذين يختلفون بطبيعة الحال في توجهاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية أيضا، حتي نجعلهم ينصهرون معا في بوتقة واحدة أو يتواجدون سوية في مناخ ما وتربة ملائمة يحاولون فيها غرس بذور أفكارهم ليجنوا في النهاية ثمرة جهدهم حتي وإن كانت في الأجيال التالية بعد ذلك، غير أن السؤال المحوري الذي يلح علينا في هذا المقام: هل هذا الطرح يشكل سياقا فنيا سليما؟ وإن كانت هذه الفكرة أو الدعوة تخلق في آفاق عالمية فسيحة محطمة كل القيود النفسية والعادات والتقاليد التي تشبع بها كل فنان من خلال مجتمعه وثقافته وطقوسه الدينية وتوجهاته السياسية التي قد تختلف تماما عما تشبع به الآخرون، ومن ثم تصنع فنا جديدا ومغايرا شكلا ومضمونا، أم أنه يجب أن تكون هناك بعض المفاهيم المتمثلة في تلاقح عناصر من قبيل بعض النصوص المسرحية أو الديكور والموسيقي ، وكذلك الاستفادة من التقنيات الحديثة الخاصة بملء الفراغ المسرحي بنسب جمالية جديدة تعي دورها الحقيقي في استخدام الفن التشكيلي أو عناصر الإضاءة المتطورة لتوظيفها توظيفا جيدا داخل إطار فني يحيل خشبة المسرح إلي عوالم خلابة من السحر والجمال. وننحي جانبا التاريخ القومي لكل فنان أو مبدع وهذا التراث الذي يشكل نبعا خصبا لا ينضب معينه أبدا. وفي هذا السياق حددت لنا د. نهاد صليحة رؤيتها حول تاريخ الحركة التجريبية لدي الغرب حيث قالت: إن تاريخ الحركة التجريبية في الغرب يخبرنا بأن أكثر التجارب ثورية في تقنياتها وتوجهاتها الفكرية تفقد فاعليتها الثورية الإنسانية أو السياسية حين تستأنسها الأنظمة وتكيفها عن طريق النقد كما حدث «ليونسكو» في فرنسا - كما يخبرنا «رولان بارت» وكما حدث لتجارب «بيتر شتاين» في ميونيخ التي تبناها النظام ففشلت في اجتذاب الطبقة العاملة التي تتوجه إليها، ثم بعد ذلك تطرح د. نهاد صليحة سؤالا في غاية الأهمية حول التجريب لدي الغرب من خلاله يتم توضيح اشكالية التجريب بكل اطرافه الإنسانية والاجتماعية والسياسية إذ تقول: ويتصل تساؤلي الأخير بهذه التفرقة بين التحرر الفردي والذاتي والتحرر الجماعي السياسي إن الاتجاهين الأساسيين في التجريب الغربي هما أولا: اتجاه الاحتجاج الأخلاقي والإنساني علي تراث التنوير والعقلانية، ومحاولة العودة بالمسرح إلي الحلم والطقس والأسطورة، ويمثل هذا التيار المخرج الفرنسي «انتونان آرتو» والمخرج البريطاني «بيتر بروك» والمخرج البولندي «جيرزي جروتوفسكي» الذي اطلق علي تجاربه الأخيرة مصطلح «بارثياتر parathatre» الذي يذكرنا بالبارسيكولوجي وهي تجارب تجمع ملامح من الطقوس ورحلات الحج الدينية والسايكودراما في العلاج النفسي. أما الاتجاه الثاني فهو الاحتجاج السياسي والاجتماعي الذي يمثله المخرجان الألمانيان «اروين بسكاتور» و«برتولد بريخت» والمخرجة الفرنسية «آريان منوشكين»، ومسرح «الدعاية والتحريض agit-prop». ولا شك أن التجريب في الغرب قد شهد العديد من التطورات التي تجاوز موقعنا في العالم العربي بمراحل عدة، لا سيما فيما يتعلق باستخدام لغة الجسد التي بلغت آفاقا بعيدة المدي، يصعب علينا نحن المشتغلين في حقل التجريب المسرحي أن نسلك سبلها لتشكيل مفردات مماثلة لتلك اللغة «لغة الجسد» بهذه التقنية العالية التي وصلت إليها العروض المسرحية الغربية والتي شهدنا نماذج منها ضمن العروض المشاركة في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي مثل: العرض الفرنسي الفائز بالجائزة الكبري «من أجلك أفعل ذلك » الذي عرض علي مسرح الجمهور، حيث وصلت فيه مهارات الممثلين الجسدية مع ختام المهرجان إلي مستويات عليا من الأداء لهذا الفن الصعب جدا، وهو ما يعد نتاجا منطقيا للاهتمام بالمدارس التي تعد الممثل إعدادا جيدا من خلال التدريبات التي يمارسها الطالب أثناء فترة التدريب والدراسة، والتي تعد بمثابة المحور الرئيسي في عملية التثقيف لدي الممثل والتي يتعلم منها بالتبعية كيفية استخدام مفردات جسده من خلال - الإيماءة، الحركة، النظرة، الوقفة ، المشي، الحركة، الصامتة، الحركة الراقصة، الحركة المعبرة .. الممثل يجب عليه أن يمتلك بل ينبغي أن تعيش بداخله رؤية إبداعية تتمثل في بنية الرؤية الخيالية- العملية لدوره الذي يتقمصه داخل سياق الرواية المسرحية، فلابد أن يكون هناك تصور للحياة التي يعيشها الممثل في بنات أفكاره وخياله، تلك الحياة التي تحمل بطبيعتها هموما وقضايا آنية يريد أن يعبر عنها بالجسد، ومن ثم تظهر من خلالها براعة الممثل الشامل، والذي يجب أن نسعي جاهدين لتأسيسه في محاولة لإيجاد مجموعة من الشباب الطليعي في الحركة المسرحية، من خلال المعاهد والمدارس المتخصصة في فن التمثيل وخلق نوع من التمازج بينه وبين فن الباليه، بحيث تصبح تلك المجموعة نواة لتكوين مجموعات أخري، حتي تكون هناك دماء جديدة تعي المفهوم الشامل للفنان المبدع.